كلل ظهور بشار الأسد في القمة العربية يوم 19 أيار الماضي جهوداً استمرت لشهر من أجل إعادة هذا الديكتاتور وبلده من جديد لعالم السياسة والاقتصاد في الشرق الأوسط، بيد أن الولايات المتحدة لم تشجع هذه العملية، بل واصلت وقوفها ضد الأسد، غير أن ذلك لم يكن أيضاً نتاجاً حصرياً لتراجع النفوذ الأميركي في المنطقة لصالح الصين وروسيا، بل أتى نتيجة لتغير أولويات دول المنطقة، على الرغم من أن بعض العناصر الفاعلة الإقليمية، وعلى رأسها قطر، تعارض فكرة إصلاح ذات البين مع النظام، في حين غيرت دول أخرى نهجها نحو البراغماتية، وأولها السعودية والإمارات، وذلك بعدما مولت الفصائل المعارضة للأسد سنين طويلة.

لم تقطع بعض دول المنطقة علاقاتها مع نظام الأسد، ومنها عُمان والعراق، ومن بين الدول التي قطعت العلاقات، نجد الإمارات التي بدأت حملة التطبيع منذ عام 2018، وذلك عند إعادة فتحها لسفارتها في العاصمة السورية دمشق. في حين بذل الأردن أقصى ما لديه من جهد للتعاون مع سوريا في مجال أمن الحدود، أما السعودية والإمارات، بما أنهما دولتان أشد ثراء وأقوى في المنطقة، فقد أضفت كل منهما أثراً يتناسب مع حجم كليهما على الديناميات الإقليمية، إذ دعت حكومة السعودية في الرياض الأسد للقمة العربية، وقد تدفع أيضاً القاهرة لتطبيع علاقاتها مع دمشق، على الرغم من وجود رفض إقليمي لذلك على كلتا الجبهتين.

وعلى ذلك يعلق جورجيو كافيرو وهو المدير التنفيذي لمركز تحليل دول الخليج فيقول: “في الوقت الذي أخذت فيه دول عربية مثل الإمارات والسعودية بتأكيد استقلاليتها عن واشنطن وتنويع شراكاتها على المستوى الدولي، زادت أهمية علاقات أبوظبي والرياض مع روسيا بالنسبة للقيادتين الإماراتية والسعودية. ولهذا فإن تطبيع العلاقات مع سوريا يسهم في تقريب هاتين الدولتين العضوين في مجلس التعاون الخليجي من موسكو، إلا أن ذلك ليس الدافع الوحيد للتقرب من دمشق بكل تأكيد”.

يعتبر النظام السوري مفتاح حلول الاستقرار والأمن في المنطقة، بالنسبة للكثير من القضايا، ابتداء من تجارة المخدرات، وصولاً إلى إدارة العلاقات مع إيران، أي أن النظام السوري لم يكن مجرد ساحة حرب بالوكالة في ظل الحرب الباردة التي قامت في القرن الحادي والعشرين بين الولايات المتحدة من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى.

– مناخ ملائم للتطبيع
عاش الأسد عزلة دولية منذ أن بدأ النظام السوري يقمع بلا هوادة الانتفاضة المحلية ضمن موجة الربيع العربي، إلا أن عزلته اشتدت في عام 2019، عندما سنت الولايات المتحدة قانون عقوبات قيصر الذي استهدف أفراداً وكيانات تتعاون تجارياً مع النظام، وقد شمل ذلك قطاعات البترول والغاز الطبيعي. وبحلول عام 2020 صار الاقتصاد السوري يعاني من ضائقة كبيرة، إذ أصبح نحو 80% من الشعب السوري يعيش في فقر، و40% يعاني من البطالة، وذلك بحسب ما أوردته صحيفة نيويورك تايمز، ما يعني بأن العقوبات، وعقداً من الحرب، وظهور الإرهاب، والأزمة الاقتصادية في المنطقة، كلها وجهت ضربة قاصمة إلى الاقتصاد السوري.

أفسح الاقتصاد المتهالك والعزلة المفروضة على سوريا المجال لتجارة الكبتاغون غير المشروعة، كما دعم النفوذ الإيراني والروسي فيها.

إذ في تقرير نشره معهد نيولاينز عام 2022 حول مساعي الأردن لتطبيع العلاقات مع سوريا، ثمة نقاش حول التحديثات التي اعترضت تلك الجهود، لا سيما تلك التي تتصل بتجارة الكبتاغون، إذ على الرغم من صعوبة التوصل إلى تفاصيل دقيقة حول إنتاج الكبتاغون وتجارته، يعتقد بأن هذا المخدر يدر مليارات الدولارات على النظام، وذلك لأن الأسد وبطانته التي تشمل أفراداً من عائلته، يسيطرون على إنتاج الكبتاغون، بعد ذلك يقوم مهربون بنقله عبر طرق عديدة، منها الطرق التي تمر بالأردن وذلك ليصل إلى أسواق دول الخليج.

وعن ذلك يحدثنا كرم الشعار، وهو محلل مستقل معني بملف السياسة والاقتصاد في سوريا، فيقول: “من الصعب تقدير الرقم الحقيقي، ولكن بوسعي القول إنه يصل إلى جيوب نظام الأسد ما لا يقل عن مليار دولار، في حين أن القيمة السوقية لذلك المنتج تتجاوز العشرة مليارات دولار، إذن كيفما نظرت إلى الأمر ستجد بأنه يتجاوز قيمة الصادرات القانونية السورية، وهذا المخدر يلعب دوراً محورياً بالنسبة لنظرة دول المنطقة إلى سوريا ولكيفية التعاطي معها”.

يصل الكبتاغون عبر سلع مزيفة إلى المنطقة، إذ ينتقل بصورة رئيسية عبر الأردن ولبنان، إلا أن السعودية سجلت أعلى رقم من عمليات ضبط المخدرات خلال الفترة الواقعة ما بين 2015-2019، إذ في عام 2019 على وجه التحديد ضبطت نحو 146 مليون حبة كبتاغون، مقارنة بالأردن الذي ضبط 23 مليون حبة في العام نفسه، وسجل ثاني أعلى نسبة لكمية الكبتاغون المهرب خلال تلك الفترة، وذلك بحسب تقرير أممي نشر في عام 2021. ومع ذلك، تبدو الدول العربية كمن يرغب بالسيطرة على تجارة الكبتاغون غير المشروعة عبر تفاوضها مع دمشق واستثمارها في الاقتصاد القانوني السوري، ولكن ليس ثمة أي سبب للاعتقاد بأن نظام الأسد مستعد للتخلي عن تلك التجارة التي أصبحت مربحة، في حال لوحت له الدول العربية بتطبيع شامل.

– محاولات قديمة لاستقطاب النظام
قد تحاول الدول الخليجية الغنية والدول التي تعتمد عليها أن توهن النفوذ الإيراني في سوريا والمنطقة، عبر إصلاح ذات البين مع دمشق والتعاون مع طهران، ولكن، وكما يرى آرون لوند، وهو عضو في معهد سينشري إنترناشيونال، ومحلل متخصص بالشرق الأوسط لدى وكالة أبحاث الدفاع السويدية، فإن هذه ليست المرة الأولى التي تبدي فيها هذه الدول محاولات كهذه.

يقول لوند: “ظهرت محاولات متكررة قبل الحرب لثني سوريا وإبعادها عن إيران، وتقريبها من القطب الذي تترأسه السعودية” بيد أن الدول التي حاولت المناورة على هذا الصعيد: “أصيبت بخيبة أمل كبيرة، مرة بعد مرة، ولهذا أرجح أنها أدركت اليوم بأن الأسد لن يتزحزح قيد أنملة عن القضايا الجوهرية مثل قربه من إيران، هذا بداية، وذلك لأنه بحاجتها، ولهذا لن يبتعد عنها، كما لن يتحول إلى مفاوض يمكن الوثوق به بحيث يلتزم بكل ما وعد به”.

– علاقة اعتماد متبادل
بقيت إيران وسوريا رفيقتي درب بشكل غريب على مدار عقود، إذ على الرغم من النهج المتشدد للجمهورية الإسلامية الإيرانية، والنهج العلماني بالاسم الذي اتبعه نظام الأسد، قد تبدو القواسم المشتركة بينهما قليلة ظاهرياً، كونهما يشتركان بالأيديولوجيات نفسها بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة ونفوذهما في المنطقة، فإن الحرب السورية كشفت مدى قوة هذه العلاقة وأهميتها بالنسبة لبقاء نظام الأسد، فلقد دعمت إيران سوريا عسكرياً ضد إسرائيل في عام 1982، فأقامت بذلك حالة اعتماد متبادل على المدى البعيد بين الدولتين. كما مدت إيران النظام السوري بالسلاح والتدريب والمساعدة العسكرية في وجه إسرائيل وخلال الحرب السورية وضد قوات المعارضة. وفي تلك الأثناء، بقيت سوريا طريقاً مهماً لنقل الأسلحة والإمدادات إلى حزب الله في لبنان.

في عام 2006، وقعت الدولتان اتفاقية دفاع مشترك، بدت وقتئذ أشبه بحالة استعراضية، ولكن خلال الحرب السورية، أثبتت المساعدات القادمة من إيران وروسيا فائدتها القصوى بالنسبة لنظام الأسد. وقبل الحرب، استفادت إيران من اقتصاد سوريا المفتوح، فاستثمرت المليارات في البنية التحتية وغيرها من المشاريع في سوريا بدءاً من عام 2007. كما زادت إيران من تسهيلاتها الائتمانية لسوريا لتصل إلى مليار دولار في عام 2015، وقدمت في عام 2013 3.6 مليارات دولار لشراء منتجات سورية مثل الوقود والسلع الاستهلاكية التي تشمل الأغذية، وذلك بحسب ما أوردته وكالة رويترز.

ومن جديد، أخذت إيران تستثمر في سوريا، إذ وقعت الدولتان في مطلع هذا الشهر اتفاقيات تمتد لسنوات طويلة وتتصل بالبنية التحتية والتجارة. وبما أن أحد العوامل الرئيسية يتلخص بإبقاء نظام الأسد على حاله في السلطة طوال السنين الاثنتي عشرة الماضية، لذا من غير المرجح أن تتغير أولوية مكانة إيران لدى سوريا، إذ تقول ناتاشا هول، وهي عضو رفيع لدى برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: “لقد ضربت إيران جذوراً عميقة، لذا فإنها لن تخرج من سوريا أبداً”.

– التطبيع اغتيال للربيع العربي
قد تكتشف دول أخرى فرصاً في المستقبل لكسب الأموال عبر إعادة البناء في سوريا، بعد مرور أكثر من عقد على الحرب، بالإضافة إلى الزلزالين المدمرين اللذين ضربا كلاً من تركيا وسوريا في شباط الماضي، وأحالا البلاد إلى ركام. ولهذا، قد تجد الإمارات على وجه الخصوص فرصاً كثيراً من خلال مشاريع إعادة الإعمار.

وفي نهاية المطاف سيأتي الاستقرار السياسي الذي تنشده السعودية والإمارات من سوريا على شكل استبداد ترسخ أكثر اليوم في عرف المنطقة وعاداتها، إذ بالرغم من أن قادة من أمثال ولي عهد السعودية، الأمير محمد بن سلمان، والرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لم يمارسا القتل الجماعي بحق أبناء شعبهما كما فعل الأسد، لا توجد دولة ديمقراطية تسعى لإحياء علاقاتها مع سوريا، ما يعني بالخط العريض بأن الترحيب بعودة الأسد إلى الحظيرة العربية ما هو إلا اغتيال شنيع وجبان للربيع العربي.

ولكن ما تزال هناك دول في المنطقة لم ترحب بعودة الأسد، فقطر ومصر على وجه الخصوص لديهما من الأسباب الخاصة والديناميكية ما يدفعهما لإبداء حالة تردد تجاه سوريا.

– الموقف القطري إزاء التطبيع
وقطر هي الأهم هنا، كونها الدولة الأكثر ثراء والتي تقف حجر عثرة في طريق التطبيع الإقليمي مع سوريا، إذ تبدو قطر بكل تأكيد تواقة للحفاظ على علاقتها مع الولايات المتحدة ومع الغرب جميعاً، ومن هنا أتى موقفها تجاه سوريا. إلا أن قطر أيضاً دعمت بالأقوال والأفعال القوات المناهضة للأسد، لذا من غير المرجح أن تخضع لضغوط القوى الخليجية بعدما فرضت الإمارات عليها حصاراً في عام 2017، ثم حلت الأزمة في عام 2021، بيد أن قطر خرجت منها بانحياز أكبر للولايات المتحدة بحسب رأي الباحث كافيرو. ومع ذلك يمكن للضغط التركي والإيراني أن يدفع قطر في نهاية المطاف للقبول بالمصالحة مع سوريا مستقبلاً.

– الموقف المصري تجاه التطبيع
بالنسبة لمصر، فلا يبدو بأن السيسي قد حدد أهدافه بشكل واضح فيما يتصل بالسعي لتطبيع العلاقات مع الأسد، غير أن القاهرة لم تبد أي ارتياح لبعض الوقت تجاه فكرة عزل نظام إقليمي بسبب حكمه الاستبدادي وارتكابه لجرائم وحشية، وذلك بحسب رأي دارين خليفة، وهي باحثة مخضرمة مختصة بالشأن السوري لدى مجموعة الأزمات الدولية، وأضافت: “يقال إن السيسي حرص على عدم اتخاذ خطوات تجاه الأسد وحده ويندرج ذلك ضمن سياسة خارجية شاملة تتسم بالحذر وتسعى للحفاظ على حالة توازن مع كل الجهات الفاعلة المهمة سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي”.

لعل مصر قد تحاول أيضاً انتزاع تمويل مع أهل الخير في السعودية والإمارات مقابل تطبيع العلاقات مع الأسد، ولكن على الرغم من اجتماع مسؤولين مصريين بنظرائهم السوريين، لم يتم الإعلان رسمياً عن النتيجة التي ستتمخض عنها تلك الاجتماعات.

أعلنت بصراحة كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي عن عدم اهتمامها بتطبيع العلاقات مع دمشق، مع عدم رفع العقوبات، بيد أنها لن تمنع دولاً أخرى من تطبيع علاقاتها مع النظام، بحسب ما ذكره دبلوماسيون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على الرغم من عدم وجود أي خطة حتى الآن تسعى وراء عقد اتفاق يقضي بإنهاء الحرب.

– التطبيع يشرعن حكم الأسد
بالنسبة للأسد، فإن موجة التطبيع تشرعن حكمه الإجرامي القمعي، وعلى الرغم من وجود بعض التوقعات المطروحة على الطاولة بخصوص تطبيع العلاقات، ومنها وقف النظام لتدفق الكبتاغون، وإعادته للاجئين، وإدارته للعنف على الحدود، والابتعاد عن محور إيران، ليس ثمة من معالم ثابتة أو جدول زمني أو مقاييس للنجاح أو أي آليات لإنفاذ الأمر تضمن تغيير النظام لسلوكه تجاه أي دولة من دول الجوار أو تجاه الشعب السوري.

لقد أرهب آل الأسد، أي بشار وأبوه حافظ، أجيالاً من السوريين، من دون أن تترتب على كليهما أي عواقب على المدى البعيد ومن دون أن تقام العدالة من أجل الضحايا الذين قتلوا وعذبوا وتشردوا من أبناء هذا الشعب.

إذ في ظل حكم حافظ الأسد، قتلت قواته 40 ألف نسمة في الحصار الذي فرض على مدينة حماة عام 1982، كما تعرض الآلاف للإخفاء القسري أو تحولوا إلى سجناء سياسيين وعذبوا في سجن تدمر العسكري الشائن، ولم تقم منذ ذلك الحين أي بعثة لتقصي الحقائق كما لم تبذل أي جهود لإنصاف الضحايا وذويهم. وفي ظل حكم بشار الأسد، قتل نحو نصف مليون إنسان ونزح 6.9 ملايين نسمة في الداخل، وبات 14.6 مليوناً من أبناء الشعب السوري بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وخلال شهر أيار فقط، سجلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 226 حالة اعتقال عشوائي، شملت نساء وأطفالاً.

مع اتخاذ الدول العربية موقفاً براغماتياً في الوقت الذي يدير فيه العالم ظهره لكل ذلك، لم تعد أمام الشعب السوري أي فرصة للمحاسبة أو إحلال سلام دائم. وفي الوقت الذي يطمح فيه السوريون لأي تحرك كان ليساعدهم على خلق حالة استقرار بالنسبة لاقتصادهم المتردي، مع التوصل إلى حل سلمي للحرب، يرى كثيرون في التطبيع خيانة من غير المرجح لها أن تفضي إلى أي نتيجة.

إذ يقول إبراهيم عبود، وهو نازح سوري من مدينة معرة النعمان بمحافظة إدلب: “عندما خرجنا لنتظاهر في عام 2011، لم نطلب إذناً من أحد، ولم نأخذ بعين الاعتبار المناخ الإقليمي ولا الدولي المحيط بسوريا، لأننا عقدنا العزم على تحقيق أهداف الثورة وتحرير سوريا من نظام الأسد وشبيحته”.

(ترجمة موقع سوريا)
المصدر: فورين بوليسي