بغياب الجاذبية في النماذج العربية، ظنّ الإسلاميون ممن ضاقت بلادهم بطموحاتهم وغضبهم في أفغانستان ملاذاً، ومهرباً، بقدر ما هي معقدٌ لتحقيق الآمال بخلافةٍ “على منهاج النبوة”. وسرعان ما تحطم النموذج بدخول المجاهدين إلى كابول في مطلع التسعينيات واقتتالهم. وُصف أولئك بـ”الأفغان العرب”، وبقدر ما كان مدعاة للفخر، صار اتهاماً ضمنياً بالإرهاب؛ فالموصوف قاتَل الاتحاد السوفييتي مع المجاهدين الأفغان، وما تبع ذلك من ممارسات وتنظيمات إرهابية حقيقية أو مفتعلة. وتظلّ القصة إجمالاً دراميةً أكثر منها حقيقة، فمن قاتلوا حاولوا التباهي بهزيمة الاتحاد السوفييتي وتحرير بلد مسلم، مع تواضع دورهم، وما عاداهم من أنظمةٍ ساهمت في أسطرتهم وشيطنتهم باعتبارهم شرّاً وخيماً. وفي الواقع، لم يزد عدد من انتظموا في القتال على الألفين، بحسب المسؤول العسكري لتنظيم القاعدة، أبو حفص المصري، يقابلهم 80 ألفاً من الوافدين الذين انخرطوا في العمل الإغاثي وزاروا تلك البلاد، كما أوضح مدير الاستخبارات العسكرية الأفغانية في فيلمي “عبد الله عزّام … أول الأفغان العرب” (بثته قناة الجزيرة).
تتكرّر الأسطورة اليوم مع “الأتراك العرب”، فالمعارضة التركية معتدلة ومتطرّفة تقلّل من فوز الرئيس رجب طيب أردوغان غير المسبوق عالمياً، بإسناده إلى العرب الذين جنّسهم واستضافهم. والعرب المتتركون يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فهم شركاء في النصر المؤزّر، ولو بصالح دعائهم وبالغ اهتمامهم. وفي الواقع، الأتراك العرب، كمن سبقهم من الأفغان العرب، ليسوا سواء.
أعرف، على سبيل المثال، منهم طبيباً في أميركا وآخر في بريطانيا حصلا على الجنسية التركية من خلال الاستثمار العقاري، وهما طبيبان ناجحان، حضرا إلى اسطنبول مرّتين، على رغم بعد الشقّة والتكلفة، من أجل التصويت لأردوغان. مقابلهما أعرف سوريين ومصريين حصلوا على الجنسية لجوءاً سياسياً، ومنهم من رفض انتخاب أردوغان إما لأنه ليس ديمقراطياً (طبعاً المقارنة مع بشّار الأسد هنا!) أو لأنه ليس إسلامياً (المقارنة هنا بالخلفاء الراشدين).
هذا الصنف نتاج ثقافة “الكرّاسات” الإيديولوجية، التي ازدهرت بفعل منصّات التواصل الاجتماعي، فمقطع فيديو أو تغريدة أو منشور محدود يلخّص إشكالية فكرية أو حقبة تاريخية يعزّز التعصب. هم يؤيدون أردوغان أو يعارضونه من دون وعي بالديمقراطية والإسلام والتاريخ. ويدرك قارئ التاريخ بموضوعية أن السلطنة العثمانية تفكّكت لعوامل ذاتية وموضوعية، قبل أن يلغيها أتاتورك، وأنها في خواتيمها حاولت أن تتطوّر إلى “سلطنة دستورية”، وانتخب العثمانيون، عرباً وتركاً وكرداً، مسلمين ومسيحيين، مجلس مبعوثان. لم تتطوّر السلطنة وتفكّكت وانهارت، وغادر “الخليفة الأخير” عبد المجيد الثاني إسطنبول، بعدما بلغه محافظها قرار إلغاء الخلافة وطرد الأسرة الحاكمة، ومنع حتى دفنهم بالأراضي التركية، ومصادرة أموالهم وأملاكهم، وذلك بعد عامين من إلغاء منصب السلطان وقصر الخلافة على الرمزية الدينية، وتعامل أتاتورك معهم بقسوة، لكنها تهون أمام قسوة البلاشفة في روسيا مع أسرة القيصر، الذي كان كالسلطان، جامعاً سلطتي الدين والزمان.
قبل مئة عام لم يستوعب العرب والمسلمون أنهم بلا خليفة، وخلّد أمير الشعراء أحمد شوقي تلك الصدمة بقصيدته:
ضجّت عليك مآذن ومنابر/ وبكت عليك ممالك ونواح
والشام تسأل والعراق وفارس/ أمحا من الأرض الخلافة ماح
وشوقي ذاته حسب أن أتاتورك سيعيد أمجاد الخلافة من قبل في قصيدته:
الله أكبر كم في الفتح من عجبٍ/ يا خالد الترك جدّد خالد العرب
ولعل الثورة العربية الكبرى كانت الجواب العملي الأول لانهيار الخلافة، فالشريف حسين بن علي أدرك أن السلطان عبد الحميد آخر الخلفاء، فمن يعزله ضبّاط ليس قادراً على حماية أمة الإسلام، وراسله عارضاً عليه اللجوء إلى مكّة إن ضاقت به الأحوال، وانتهى الحال بخليفة العرب الشريف حسين منفياً في قبرص لا يجد قوت يومه.
لم يتمكّن الشريف الحسين من استعادة الخلافة، وفقد ملكه فوقها. ولا أردوغان قادر على ذلك بعد مائة عام، ولا يدّعي ذلك ولا يرغب فيه، فمرحلة الإمبراطوريات انتهت من العالم، ولو ظل الخليفة عبد المجيد الثاني لبقي في أحسن أحواله رمزاً لا يختلف عن إمبرطور اليابان والملك تشارلز في بريطانيا. ما يرغب فيه أردوغان هو بناء الجسور التي هدمها أتاتورك مع تاريخ تركيا ومع الهوية الحضارية لها ومع جوارها وامتداديها، العربي والاسلامي، وأولويته العالم التركي قبل العربي، وأكثر ما يتضح ذلك في أذربيجان، البلد الذي قدّم الأقوامية (الإثنية) التركية على الولاء المذهبي لإيران، مع أن المرشد خامنئي، بالمناسبة، أذري الأصل.
يحتاج العرب إلى استيعاب ما فعله أتاتورك، فهو ألغى “الخلافة” أي الإمبراطورية العابرة للقوميات، والجغرافيا، والأديان، والمذاهب، وبنى دولةً وطنيةً تركية بهوية قومية صارمة. قمع الأكراد والعلويين والمسيحيين والعرب وقطع الصلة بالعربية والإسلام ديناً وثقافة.
خلال عقدين من الحكم وعقود من النضال السياسي، تمكّن أردوغان من بناء جسور بين تركيا وتاريخها، لم يعد الإسلام مجرّد عنصر في الهوية القومية التركية منفكّ عن التدين والعروبة والثقافة والتاريخ. أعاد الاعتبار للدين الإسلامي، والتاريخ العثماني واللغة العربية، وأدار ظهر تركيا لأوروبا واتّجه نحو العالم العربي والإسلامي، والتركي منه تحديداً. في المقابل، في إطار صراعه مع الأتاتوركية، عسكراً ودولة عميقة، اتّجه إلى الغرب، أميركا وأوروبا، فمنح الأكراد والعلويين حقوقهم الثقافية، وأعاد الجيش إلى الثكنات. ولذلك، قيل لمنافسه في انتخابات الرئاسة أخيراً، كلجدار أوغلو: “لولا أردوغان لما تمكّنت من القول أنا علوي”. … غيّر في الاستراتيجية ووجهة الدولة والهوية.
بالنسبة إلى الأتراك العرب، حقق أردوغان كثيراً مما يصبون إليه، فهو قدّم نموذجاً لبلدٍ يجمع بين الإسلام والديمقراطية، ودولة وازنة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وهذا يظل نموذجاً تركياً. وعندما تحدّث صاحبُهم أردوغان في القاهرة (نوفمبر/ تشرين الثاني 2012) عن العلمانية المؤمنة رفضوه، إذ يبدو أن الجو العام هو الإعجاب بإسلامية الرجل، لا النظام الذي جاء به. وفي النتيجة، تظل تجربته بإطارها التركي، وهو ليس فاتحاً عسكرياً حدود دولته عند سنابك خيله.
وما يستطيعه أردوغان ويفيد العرب وأمة الإسلام هو ما وصل إليه الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري في أطروحته للدكتوراه في جامعة ليون (1926) بعد عامين من إلغاء الخلافة “الخلافة وتطوّرها إلى عصبة الأمم الإسلامية” أو كومنولث إسلامي، أن ما يربطنا بتركيا أكثر بكثير مما يربطنا بأوروبا، فالمغرب العربي مثلاً، يرى في العثمانيين حماة من الغزوات الصليبية لا غزاة. والطريف أن الهوية العربية في المغرب تعني الإسلام. ومن الطرائف التي تفسّر ذلك، أن دار البغاء، في رواية محمد شكري “الخبز الحافي” الشهيرة، رفضت إدخال بحارة أتراك إليها لأنهم لا يتكلمون العربية، أي غير مسلمين، وكان الحل أن نطقوا بالشهادتين ودخلوا. وقد حكمت أسر البايات التركية الجزائر وتونس، وظلّ العثمانيون في المخيال المغربي محرّرين لا مستعمرين.
لا تتوقف جاذبية الأتراك هنا، فالتأثير الثقافي الحديث من خلال الدراما والسياحة لا يقلّ عن الإرث القديم. وهذه جاذبية تنسجم مع الهوية الحضارية للعرب ولا تهدّدها. فضلاً عن ذلك، يحتاج العرب قوة وازنة، مثل تركيا، لمواجهة العدوان الصهيوني، المتواصل على الأمة. وبعيداً عن الوهم، لا يستطيع أردوغان شنّ حرب على إسرائيل، لكنه يستضيف قيادات حركة حماس ويستقبلهم، ويستطيع الضغط على دولة العدو. تماماً كما يحتاجونها للتوازن مع إيران، بمشروعها الطائفي التوسّعي العسكري في المنطقة، وهذا أوضح ما يكون في سورية والعراق.
لا يحتاج الاحتراب الطائفي إلى صبّ مزيد من الزيت عليه، بقدر ما يحتاج ترشيداً من النموذج التركي غير الطائفي. لنتذكّر أن المرشّح الذي كاد يهزم أردوغان كان من الأقليّة العلوية، وفوق ذلك ظل الإسلاميون الأتراك يتعاملون مع إيران باعتبارها عمقاً لا عدوّاً. ونجم الدين أربكان، معلم أردوغان، زار طهران يوم صار رئيس وزراء، وأعلن منها السوق الإسلامية المشتركة، وفي المقابل، ظلت إيران تتعامل مع المنطقة بمنظارٍ طائفيٍّ ضيّق.
يستطيع الأتراك العرب أن يقدّموا نموذجاً أفضل من الأفغان العرب، والأفضل منهما تقديم نموذج العرب العرب، فخالد التّرك لم يجدّد قبل قرن خالد العرب.
العربي الجديد
للأسف العرب الأتراك، تعصبوا لتركيا، لدرجة أنهم على استعداد أن يفتحوا مع أبناء وطنهم حربا شعواء، إذا انتقد أحدهم الدور السلبي لحكومة تركيا في الثورة السورية، فهم أصبحوا أتراكا أكثر من الترك، و نسوا أن لهم وطنا محتلا يجب تحريره، و ثورة و شهداء و مهجرين و معتقلين.