الحديث هنا عن مبادئ استثمار لثلاثة مشاريع: أحدها إيراني يقوم على: «رأسمال أقل، ربح أكثر» والآخر إسرائيلي، يقوم على: «تدفيع الثمن» وبينهما أمريكي توليفي، يقوم على: «الكل رابح» والكل هنا تعني المشاريع الثلاثة.

الإيراني تاجر شاطر، تعود على استثمار «رأسمال أقل بربح أكبر» تعود على أن يستثمر بأموال الآخرين ودمائهم، وعلى أرضهم، دون أن يعرض رأسماله هو للمغامرة، ودون أن يجري عمليات المضاربة على أرضه، وهو المبدأ الذي ضمن له ربحاً وفيراً برأسمال أقل، وأحياناً يحقق أرباحه برأسمال الآخرين.

يأخذ الإيراني من نفط العراق، عبر ميليشياته هناك، يرسل النفط المسروق إلى ميليشياته في اليمن وسوريا. ميليشياته في اليمن تضمن له ابتزاز المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وميليشياته في سوريا تضمن سيطرته هناك، وهو كاش سياسي مجاني في جيب التاجر، ناهيك عن الكاش الذي يأخذه من العراق الذي يأخذ نفطه وغازه، بلا ثمن، ليبيع للعراقيين الكهرباء بأسعار عالية.

وفوق هذا، هناك عائدات مالية ضخمة ناتجة عن تجارة ميليشياته في لبنان وسوريا والعراق واليمن في السلاح والمخدرات، وهي التجارة الممتدة من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط وشرق أوروبا وغيرها، حسب التقارير الدولية، حيث يعاد تدوير عائدات تلك التجارة في عمليات معقدة من غسيل الأموال التي يوظفها النظام في طهران على شكل «شيكات سياسية ومالية».

ترسل طهران ميليشيات شيعية، أفغانية وباكستانية، بالإضافة إلى الميليشيات العراقية، وميليشيا حزب الله اللبناني إلى سوريا، لتضمن السيطرة على سوريا، وتجري عمليات إخلال ديمغرافي هي الأكبر خلال القرن الحالي، وتصرف عليها من أموال العراقيين، ومن استثمارات حزب الله في أمريكا اللاتينية وغيرها، ومن أموال اللبنانيين التي سرقت من ودائعهم في البنوك اللبنانية، وبذا تضمن كل تلك المكاسب بأقل قدر من رأس المال، أو بلا رأس مال من الأساس.

بأقل قدر من الاستثمار ضمنت طهران السيطرة على أربع عواصم عربية، حسب تصريحات النائب البرلماني محمد رضا كازاني، وعدد من مسؤولي النظام، وهي لعبة كانت تجري برضى دولي عن الدور الذي تلعبه طهران وميليشياتها، ضمن حدود معقولة، تربح معها جميع الأطراف، ويتجاور ضمنها المبدأ الإيراني: «رأسمال أقل، ربح أكثر» مع المبدأ الأمريكي: «الكل رابح» وهما المبدآن اللذان عملا خلال العقود الماضية، ضمن مشاريع استثمار تُنفذ على أرض ليس لأصحابها مشروع مماثل.

ومع المبدأ الإيراني في الربح الأكبر بالاستثمار الأقل، أو الربح الكبير برأسمال قليل، يستمر نزيف المال العربي والدم العربي والأرض العربية، ويزداد تشوش الفكر العربي، وخلط القيم والمفاهيم، وانهيار السلم الأهلي، وتمزق النسيج الاجتماعي، والانقسام بين: سنة وشيعة، ومقاومة واعتدال، ومسلم ومنافق، وغيرها من تنميطات تم الترويج لها، ليتم حبس قطاعات عربية واسعة داخلها.

لكن، هل سيستمر المبدأ الإيراني: «رأسمال أقل، ربح أكبر» مع التحولات الخطيرة التي تجري حالياً في المنطقة؟ هل سيستمر نظام طهرن في مراكمة الأرباح سياسياً وعسكرياً وجيو-ستراتيجياً على حساب الجيران.

إجابة هذا السؤال تتوقف على مدى الاستعداد على المستويين: الإقليمي والدولي لاستمرارية الدور الإيراني، وفيما يخص الإقليم فإن الأمر يتعلق بمدى تشكل مشروع عربي يملأ الفراغ، وهو ما لا يبدو ـ للأسف ـ خلال المدى القصير على الأقل، وبما أن الأمر كذلك فيما يخص المستوى الإقليمي فإن استمرارية الدور الإيراني تغدو مرتبطة فقط بالموقف الدولي منه، وهذا الموقف يتحدد على أساس مدى التزام إيران بالحدود المرسومة لدورها في المنطقة، ومدى الرضى الغربي والأمريكي عن هذا الدور، حيث تشير الأحداث إلى رغبة أمريكية وأوروبية، ناهيك عن الرغبات الصينية والروسية، في استمرارية هذا الدور، وكل ما هو مطلوب ـ غربياً ـ هو إعادة تكييف هذا الدور مع المصالح الغربية في المنطقة، أو لنقل إعادة تكييف المبدأ الإيراني: «رأسمال أقل، ربح أكثر» مع المبدأ الأمريكي: «الكل رابح».

تنسى إيران ـ أحياناً ـ هذه القاعدة، وتعتقد أن الحدود المرسومة لدورها قابلة للمرونة، فيما يرى الآخر الغربي أن طهران لا ينبغي أن تتجاوز ما رسم لها، وهي حين تتجاوز تُرسل لها بعض الرسائل، هنا أو هناك، كتذكير بسيط يعيد إلى طهران التأكيد على ضرورة احترام خرائط النفوذ، واحترام مبدأ: «الكل رابح» الذي يتناقض أحياناً مع التفكير الإيراني حول: «رأسمال أقل، ربح أكثر».
ومع تطورات الحرب الإسرائيلية على غزة يبدو أن إسرائيل ـ تحديداً ـ تريد إعادة النظر في المبدأ الإيراني عن الربح الكثير بالاستثمار القليل، الذي كان مرضياً عنه ـ إسرائيلياً وغربياً ـ في الماضي، لكنه اليوم ربما لم يعد يناسب إسرائيل، وإن كان ما يزال يناسب الولايات المتحدة التي ربما ـ وخاصة الإدارة الديمقراطية ـ كان لديها رؤية مختلفة إلى حد ما عن رؤية إسرائيل، فيما يخص التعامل مع النظام في طهران، أو مع حدود المصالح والتوازنات.

في واشنطن، يرى فريق في وزارة الخارجية وفي مؤسسات أخرى مرتبطة بالدولة العميقة أن إيران مهمة للولايات المتحدة: بلد كبير متنوع، ذو ثقافة وتاريخ عريق، ويمثل أقلية إسلامية يمكن أن تساعد على مشاغلة الأغلبية في المنطقة، كما يمكن احتواء نظامها، لتعود إيران لدورها الوظيفي، في خدمة المصالح الغربية، أو على الأقل عدم الإضرار بها، ولذا يمكن التغاضي عن بعض التجاوزات والقلق الذي يتسبب به النظام في طهران، مقابل الفوائد الكبرى التي يوفرها وجوده، كفزاعة تستدعي شراء دول المنطقة المزيد من السلاح، وكخطر يدفع في اتجاه التطبيع مع إسرائيل، وكمبرر لاستمرار الدعم الغربي لها، والتغاضي عن جرائمها في حق الشعبين الفلسطيني واللبناني.

مشكلة هذه الرؤية البراغماتية الأمريكية لإيران أنها تصطدم بوجود حكومة يمينية في إسرائيل يقودها متطرفون دينيون يرون «الشرق الأوسط الجديد» بسيادة إسرائيلية، وهو الهدف الذي يتعارض مع مشروع إيران عن «الشرق الأوسط الإسلامي» الذي يعد التسمية المخاتلة لمشروع «الهيمنة الإيرانية» في مقابل «الشرق الأوسط الجديد» الذي يعد عنواناً جذاباً لمشروع «الاحتلال الإسرائيلي».

في السنوات الأخيرة جنحت إسرائيل لمبدأ أو لسياسة «تدفيع الثمن» وذلك لكي تعطل مفعول المبدأ الإيراني عن «رأسمال أقل، ربح أكثر» إذ أن دولة الاحتلال تريد أن ترفع كلفة الفاتورة الإيرانية في المنطقة، لاعتقادها أن المبدأ الإيراني لم يعد يعمل لصالحها، ولذا يتحتم إعادة تعريف هذا المبدأ، على القاعدة الأمريكية: «الكل رابح» وهي القاعدة التي بموجبها تسهم سياسات «الهيمنة الإيرانية» في مزيد من التطبيع العربي مع إسرائيل، ومزيد من الدعم الغربي لدولة الاحتلال، وهذا «الكاش» يصب في صالح إسرائيل، في حين يصب «كاش» آخر في جيب إيران، يتمثل في مزيد من التمدد والهيمنة في المنطقة العربية، بذريعة مقاومة الصهيونية والغرب.

والخلاصة: كل ما نراه اليوم من مناوشات إسرائيلية إيرانية يمكن فهمه في ضوء محاولات إيران التمسك بقاعدتها الذهبية: «رأسمال أقل، ربح أكثر» مقابل محاولات إسرائيل تفعيل مبدأ: «تدفيع الثمن» لكي تؤثر على الطريقة الإيرانية في الكسب، وبين المبدأين تحاول الولايات المتحدة استمرارية مبدئها عن: «الكل رابح» لتستمر الدول الثلاث في جني الثمار، على حساب العرب الذين لن يشتركوا في جني المكاسب، ما داموا لا يملكون مشروعهم الخاص.

القدس العربي