بغيابه، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاضراً نسبياً في قمّة مجموعة “بريكس” في جوهانسبرغ جنوب إفريقيا، نتيجة عدم قدرته على السفر بسبب مذكرة اعتقال أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحقه في (آذار) مارس الماضي بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا. اضطراره للتغيّب عن القمة شكّل ضربة سياسية وبسيكولوجية له شخصياً، وبعث رسالة بأنّ خطة عزل الرئيس الروسي هي جزء من فرض انسحاب روسيا من عملية صنع القرار العالمي تدريجياً.
لم تكن قمّة “بريكس” وحدها موضع إحراج لفلاديمير بوتين الأسبوع الماضي، وإنما أيضاً ما رافق تفجير طائرة أقلّت قيادة مجموعة مرتزقة “فاغنر” المتمثلة بالصديق القديم للرئيس الروسي المعروف بـ “طبّاخ” الكرملين، يفغيني بريغوجين، والقائد العسكري لشركة “فاغنر”، ديمتري أوتكين، الملقّب “فاغنر” الذي استمدّت المجموعة اسمها منه. فالبيت الأبيض لمّح إلى دورٍ للرئيس الروسي وراء الحادثة انتقاماً من تمرّد بريغوجين وعصيانه، لكن آخرين داخل روسيا وجّهوا أصبع الاتهام إلى الخارج، بالذات إلى أوكرانيا وحلفائها. ثم هناك من الضالعين بالمشهد الروسي مَن ميّز بين الرئاسة وبين النخبة الحاكمة، محمِّلاً المسؤولية إلى النخبة وليس للرئيس.
قبل الخوض في تداعيات مقتل بريغوجين وأوتكين على عمليات “فاغنر” في أوكرانيا، وفي إفريقيا حيث للمجموعة امتداد عسكري ومالي بنفوذ سياسي، لنتحدّث عن قمة “بريكس” بما يتعدّى بعدها الروسي حصراً. فالمستفيد الأول من توسيع عضوية “بريكس” هو الصين التي تبقى حليفاً مع روسيا، إنما طموحاتها وبرامجها الاستراتيجية أوسع وأكثر توجّهاً للاستفراد، لاسيما في أعقاب تورط روسيا في الحرب الأوكرانية… هذه الحرب التي كشفت مستوى الانقسامات السياسية بين الأعضاء المؤسسين لمجموعة “بريكس” وهم، الصين والهند والبرازيل وروسيا ومعهم جنوب إفريقيا.
الحدث هو اتفاق الدول الخمس على توجيه دعوة للالتحاق بالمجموعة الى ست دول عربية استوفت المعايير، هي السعودية والإمارات ومصر إضافة الى إيران والأرجنتين وأثيوبيا. فقد عارضت الهند والبرازيل فكرة توسيع العضوية، ليس احتجاجاً على دول مثل السعودية والإمارات ذات الاقتصاد المتمكّن، وإنما خوفاً من عبء اقتصادي على المجموعة تشكّله دول مثل إيران والأرجنتين وأثيوبيا بسبب ضعف إمكانياتها. فالهند لها غايات مختلفة عن الصين في إطار “بريكس” وخارج المجموعة على الصعيد الثنائي والعالمي، وهي تخشى أن يُضعف توسيع العضوية وزن المجموعة بالقدر نفسه الذي لا ترتاح إلى ازدياد نفوذ ووزن وقيادة الصين لها. أما روسيا، فإنّها لدى استضافتها القمّة المقبلة في كازان، تترستان، فإنّها تنوي اقتراح فنزويلا إلى عضوية “بريكس”، في إجراء سيثير الجدل حول هوية “بريكس” ومستقبلها.
لن تتمكن مجموعة “بريكس” من أن تشكّل قوة متجانسة تتحدّى مجموعة السبع G-7 التي تضمّ أكبر الدول الصناعية وتتقاسم التعددية والأسس الديموقراطية في الحكم وهي، الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا واليابان إلى جانب الاتحاد الأوروبي. مجموعة “بريكس” وُلِدت كطموح ولم تتحوّل إلى منظمة ذات آليات، ولا مقرّ لها. انّها عبارة عن ائتلاف فضفاض من دون فرض التزامات سياسية على العضوية فيها. “بريكس” أقرب إلى نادٍ اقتصادي وسياسي مما هي منظمة متماسكة بواجبات تقيّد أعضائها.
انضمام السعودية والإمارات إلى “بريكس” مفيد للمجموعة، لأنّ للدولتين علاقات جيدة مع كامل أعضائها، ولأنّ لهما حصة كبيرة في الاستثمارات والأسواق العالمية- فالسعودية مثلاً هي الشريك الأكبر للصين والهند- لكن الدولتين ليستا في صدد الدخول طرفاً ضدّ الولايات المتحدة ومجموعة السبع في المنافسة الجيو- سياسية، لأنّ هدفهما هو المشاركة في استدامة التنمية وتنويع الشراكات وليس المساهمة في مضاعفة انقسام الاقتصاد العالمي أو الدخول طرفاً في محاور.
الصين التي حضر رئيسها شي جينبينغ القمّة حصدت نجاحاً ديبلوماسياً وسياسياً بتوسيع عضوية “بريكس”، لكنها تدرك تماماً انّ بعض الدول التي دخلت نادي “بريكس” لن يتموضع في خانتها ضدّ الولايات المتحدة- والكلام هنا بالذات عن الدول العربية الثلاث- تدرك أيضاً أنّ “بريكس” تشكّل مشروعاً بعيد الأمد ليس قابلاً حالياً ليصبح تكتلاً جديّاً ينافس مجموعة السبع، ولا هو قادر على التطور إلى قوة نقدية بديلة عن هيمنة الدولار، مهما سعت الصين لتحقيق ذلك.
برغم ذلك، فإنّ دول “بريكس” مهمّة اقتصادياً وسياسياً، علماً أنّ الهند مثلاً متطورة تكنولوجياً والبرازيل زراعياً وروسيا تشكّل مصدراً مهمّاً للطاقة- هذا إلى جانب التطور الصناعي الضخم للصين.
شي جينبينغ كان النجم الساطع لمشاركته في قمة جنوب إفريقيا، أما فلاديمير بوتين، فقد كان لغيابه اهتماماً ملحوظاً، نظراً لأسباب الغياب كما من ناحية انحسار دور روسيا على الساحة الدولية. لكن من وجّه الأضواء إلى بوتين لم يكن حدث قمة جوهانسبرغ بقدر ما كان حادثة سقوط طائرة رجال “فاغنر” وتداعياتها.
مدير الاستخبارات الأميركية وليام بيرنز تنبأ قبل بضعة أسابيع بمقتل بريغوجين استناداً إلى ما اعتبره طبيعة بوتين “الشخص الذي يعتقد عموماً أنّ الانتقام هو طبق من الأفضل تقديمه بارداً”. قال بيرنز في منتدى “آسبن” الأمني، إنّ بوتين “هو الرسول المطلق للانتقام، لذا سأفاجأ إذا أفلت بريغوجين من الانتقام بسبب ما فعله”، إشارة إلى التمرّد الذي قاده قبل شهرين تماماً بتحريك جيشه نحو موسكو.
الرئيس بوتين قدّم تعازيه إلى عائلة بريغوجين ووصفه بالموهوب، مشيراً الى أنّ معرفته به قديمة وطويلة. أحد الذين يعرفون الرجلين منذ التسعينات من القرن الماضي اشترط عدم ذكر اسمه وقال إنّ “بريغوجين لم يكن أبداً ضدّ بوتين وإنما تمرّده أتى ضدّ القيادة العسكرية الروسية بسبب أدائها في الحرب الأوكرانية وبهدف إقناعها بتغيير استراتيجيتها هناك”. أضاف أنّ “بريغوجين أناب عن بوتين في مهمّات عديدة كان يجب أن يكون فيها الخيال، لأنّ الرئيس أراد ألا يظهر فيها خارج روسيا وداخلها وفي مجالات عدة”. وبرأيه، أنّ الرئيس بوتين “ليس وراء عملية التفجير ولا هي عملية انتقام لبوتين من تمرّد بريغوجين”، كما تلمّح واشنطن.
إنّها “النخبة الحاكمة” التي تتعدّى النخبة العسكرية، وهي تشمل قوى أمنية ووزارات فاعلة، قال المسؤول السابق في الحكومة الروسية، “فهي التي ارتأت أنّ بريغوجين بات يشكّل خطراً على النظام، وهي التي أُصيبت بالدهشة إزاء عملية التمرّد، وهي التي رأت فيه مشروع تهديد لها ولصلاحياتها ولمصالحها، بعدما بات خارجاً عن السيطرة ورافضاً لقواعد اللعبة”.
بريغوجين لم يتخذ موقف العداء من القيادة العسكرية، وإنما ما طالب به هو تغيير الاستراتيجية التي اعتمدها وزير الدفاع سيرغي شويغو والجنرال فاليري غيراسيموف، باعتبارها استراتيجية تقليدية لا تتماشى مع ما تتطلّبه قواعد الحرب الحديثة… أو الحرب القذرة الضرورية للانتصار. أسلوبه في التعبير عن معارضته هو الذي أثار الحفيظة، وقيادته المستقلّة عن السراط هي التي دقّت ناقوس الخطر من تطوّر “فاغنر” إلى قوة مستقلة، وتحوّل بريغوجين إلى شخصية وطنية حاسمة لها تأثير على الرأي العام الذي سئم الحرب الأوكرانية وبات يخشى إطالتها.
الآن، ومع غياب بريغوجين، باتت عودة قوات “فاغنر” إلى ساحة الحرب الأوكرانية أسهل. فالحاجة إلى هذه القوات غير النظامية ما زالت حاجة ماسّة، لاسيّما إذا اتخذت المؤسسة العسكرية قرار شن عمليات تدميرية ضخمة للمدن الأوكرانية، والتي يصعب على الجيوش التقليدية تلطيخ سمعتها بها. هذا أولاً.
ثانياً، مع غياب بريغوجين، يصبح الرئيس بوتين أكثر اعتماداً على القيادة العسكرية حصراً، لأنّ لا خيار آخر لديه مع غياب بريغوجين وأوتكين. هذا إضافة إلى أنّ غياب الرجلين الأساسيين في “فاغنر” يُنهي خطر ارتفاع الأصوات الناقدة للجيش الروسي ولبعض الجنرالات الذين قدّموا النصائح المضلّلة للرئيس بوتين وساهموا في توريطه في الحرب الأوكرانية.
“فاغنر” لن تنتهي بوفاة قائديها، لكنها ستتبدّل بالرغم من التوقعات بأن يكون بريغوجين وكبار المسؤولين في “فاغنر” قد وضعوا خطة لقيادة بديلة في حال وفاته. ستبقى مجموعة “فاغنر” ناشطة في إفريقيا وسوريا وأوكرانيا وبيلاروسيا، لأنّ ميكانيزم عملها يبقى سارياً.
لن نعرف بصورة قاطعة مَن كان وراء تفجير الطائرة التي كانت قيادة “فاغنر” على متنها. لن نعرف إن كان فلاديمير بوتين غاضباً أو مرتاحاً لما حدث. ما يجب أن نعرفه هو أنّه من الخطأ الافتراض بأنّ بوتين يسيطر قطعاً على كل ما يحدث في روسيا- كما يعتقد الغرب. فالأمور في روسيا معقّدة وهي ستزداد تعقيداً داخل روسيا وخارجها في الحروب المباشرة والحروب بالنيابة التي يقوم بها مرتزقة “فاغنر”.
النهار العربي
Be the first to write a comment.