ضرورية قراءة ما قاله مستشار المرشد الإيراني ووزير الخارجية بالإنابة، وضرورية مواكبة الملف النووي الإيراني في وكالة الطاقة الذرية، كما في الخلافات الأميركية – الأوروبية. ليست بالأهمية ذاتها مواكبة تحرك السلطات الإيرانية بدعاوى قضائية ضد عشرات المواطنين لتعليقهم على مصرع الرئيس إبراهيم رئيسي، ولا فائدة الآن من مراقبة كيف قرر رجال السلطة في إيران مَن يُستبعَد من الترشح للرئاسة ولماذا. فهدف هذه القراءة هو التركيز على ما يقوله لنا رجال مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي لجهة الفوائد التي تجنيها إيران من “حزب الله” في لبنان والحوثي في اليمن والفصائل في العراق لمصلحة العقيدة والنظام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. والأمر خطير.
اللواء يحيى رحيم صفوي هو المستشار العسكري للمرشد الإيراني الأعلى وكلامه هذا الأسبوع لافت. قال إن الإيرانيين وصلوا ثلاث مرات الى البحر الأبيض المتوسط، مرتين منهما في عهدي الملكين الأخمينيين، قورش الأول واحشويروش أو حشايارشا الأول، وآخر مرة بواسطة “حزب الله اللبناني”. قال: “نحن الإيرانيين توجهنا إلى البحر المتوسط حوالي 500 سنة قبل الميلاد حيث ذهب كورش الكبير إلى أورشليم وحرر أورشليم واليهود”.
قال، وهنا بيت القصيد: “في عام 480 قبل الميلاد قاد الملك حشايارشا الأول 600 ألف جندي من إيران إلى الأناضول، تركيا حالياً، وعبروا مضيق الدردنيل أو مضيق البوسفور، واستولوا على اليونان. وللمرة الثالثة، مع تشكيل جبهة المقاومة بواسطة حزب الله اللبناني، أصبحنا نحن في جوار البحر الأبيض المتوسط”.
ما أوضحه صفوي الذي تفاخر مراراً بالوجود الإيراني على البحر الأبيض المتوسط، هو أن ما تريده طهران هو “توسيع العمق الاستراتيجي الإيراني”. وقال: “يجب أن نزيد عمق الدفاع الاستراتيجي إلى 5 آلاف كيلومتر”.
بديهي أن يعتبر صفوي أن “حزب الله” اللبناني هو على امتداد عقيدة الثورة الإيرانية، لكنه أيضاً لفت إلى أنه “حتى حماس والجهاد الإسلامي، قريبتان من أهدافها، واليوم نحن لسنا في البحر الأبيض المتوسط بل في البحر الأحمر وباب المندب أيضاً”.
قبل شهرين وفي جامعة “إمام حسين” التابعة للحرس الثوري الإيراني، شدد صفوي على أن بلاده ليس أمامها خيار سوى تعميق أمنها القومي. قال إن “عمق دفاعنا الاستراتيجي هو البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، وينبغي أن نوسّع عمق دفاعنا الاستراتيجي إلى 5 آلاف كيلومتر، ويجب أن تركز القوات البحرية والجوفضائية التابعة للحرس الثوري الإيراني على هذه المناطق، لأن الحروب المستقبلية ستكون بحرية وجوية”.
بصراحة، يستحق اللواء يحيى رحيم صفوي مستشار مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي كل الشكر لتوضيحه ماذا يدور في ذهن إيران، ولكشف حملة الحرس الثوري لتخويف الناخب الإيراني من انتخاب كل مَن يعارض خامنئي، علماً أن المؤسسة العسكرية يُفتَرض ألا تتدخل في السياسة الداخلية والانتخابات. لكن الشكر الكبير له هو لرسمه آفاق الثورة الإيرانية كعقيدة وكبرنامج سياسي واستراتيجي، من الجيو-سياسية إلى الجيو-بحرية إلى الجيو-جوية، من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر، إلى المحيط الهندي.
لنتوقف أولاً في البحر الأحمر حيث تخدم ميليشيات الحوثي البرنامج الإيراني لتوسيع العمق الاستراتيجي. لقد وظّفت عقيدة الثورة الإيرانية وكذلك حكّام طهران الحوثي لتوسيع عمق إيران الاستراتيجي عبر القرصنة التي تدرّ الأموال على الطرفين، إن كان باحتجاز السفن أو بتهديد أمن الملاحة الدولية وسلامتها في البحر الأحمر. هذه قرصنة وليست استراتيجية تفتخر بها الدول الحضارية. والآن، يقوم الحوثي باحتجاز الرهائن من العاملين في منظمات الإغاثة الدولية كورقة مساومة ومقايضة لأجل المال ولأجل تعميق العمق الاستراتيجي الإيراني.
واضح أن ميليشيات الحوثي لا تتعرّض أبداً للبواخر والسفن والمصالح الروسية أو الصينية في شبه عقدٍ صامت يستثني الدولتين من الابتزاز الحوثي بقرار إيراني. الهدف هو استهداف الغرب وابتزازه، وليس الشرق. إدارة الرئيس جو بايدن تكاد تكون صامتة لأنها تخشى الانتقام الحوثي – الإيراني وتخاف من إيران التي قررت إدارة بايدن أنها تحتاجها في كل ملفات الشرق الأوسط.
دانت ولم تتخذ أيّ إجراءات، لكن الصين وروسيا لم تتشرف بمجرد أن تدين ارتهان عمّال الإغاثة الدوليين. هذا ليس مشرّفاً لأي من الدولتين. أما إدارة بايدن فإنها قد تندم ضمناً على حذف ميليشيات الحوثي من قائمة الإرهاب التي وضعها فيها الرئيس الأسبق دونالد ترامب، لكنها لن تجرؤ الآن على إعادة إدراجها في خانة الإرهاب بدواعي الحاجة إلى طهران لمعالجة ملفات الخليج والشرق الأوسط.
طهران مرتاحة لأنها تعِد ولا تفي في اليمن، ولأن قرصنة الحوثي تدرّ الأموال وهي good business، ولأن الصواريخ الإيرانية لدى الحوثي مفيدة للعمق الاستراتيجي ضد إسرائيل، وعندما تقتضي الحاجة ضد السعودية، ولأنها قادرة عبر الحوثي على السيطرة في البحر الأحمر.
وزير الخارجية الإيرانية بالإنابة، علي باقري كني، قالها بصراحة خلال مؤتمر صحافي مشترك مع مستشار الأمن القومي العراقي: “خلافات أميركا مع إيران ترجع إلى الحصة التي خصصوها لنا. نحن لم نقبل بذلك، ونسعى للحصول على حصتنا في المنطقة”. في أول زيارة له منذ توليه المنصب خلفاً لحسين أمير عبد اللهيان الذي قضى بتحطم طائرة مروحية مع الرئيس الإيراني، وصل باقري كني إلى بيروت ليؤكد استمرار إيران في تقديم الدعم المادي والسلاح والصواريخ إلى “حزب الله”، فيما يتبادل الحزب وإسرائيل القصف يومياً منذ اندلاع الحرب في 7 تشرين الأول (أكتوبر) بين إسرائيل و”حماس”.
وعلى وقع التصعيد النوعي الخطير بين إسرائيل و”حزب الله”، دخلت إيران على الخط هذا الأسبوع عبر تحذير باقري كني إسرائيل، إذ قال: “لا ننصح الصهاينة أبداً بالعودة إلى هزيمتي 2000 و2006 اللتين مُنوا بهما في لبنان”. واعتبر أن “المقاومة في فلسطين ولبنان قوية لدرجة أنها لن تسمح للصهاينة بتحقيق أهدافهم”، في إشارة إلى “حزب الله” وحركة “حماس”. أتى هذا التحذير الأربعاء الماضي وسط ارتفاع وتيرة المواجهات على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية ووتيرة القلق الدولي من وقوع حرب أوسع بين إسرائيل و”حزب الله”، بل وقوع حرب إسرائيلية على كامل لبنان نتيجة المواجهة بين إسرائيل والمقاومة.
في السابق، كانت طهران ورغم الخسائر التي تكبدها “حزب الله” وطالت 335 عنصراً من الحزب قد سعت إلى خفض التصعيد وعدم توسيع الحرب كثيراً بالتشاور والتنسيق غير المباشر مع فريق إدارة بايدن الذي يبذل جهداً كبيراً لاحتواء التصعيد ومنع انزلاق لبنان إلى أحضان الحرب بين إسرائيل و”حزب الله”.
لكن بيت القصيد هو أن إيران تعتبر لبنان أساساً في عمقها الاستراتيجي، وأن “حزب الله” أوصلها الى البحر الأبيض المتوسط بدعم إضافي من “حماس” وغيرها من الفصائل الفلسطينية. سوريا أيضاً بالطبع تشكل ذخيرة ذات قيمة في مساعي توطيد الوجود الفارسي في البحر الأبيض المتوسط. لكن لبنان هو الصيد الثمين.
لعل ما قد يحول دون توريط لبنان في حرب موسعة مع إسرائيل هو حسابات إيرانية من جهة، ومساع أميركية من جهة بدعم فرنسي. فرجال طهران يفضّلون أنفاق “حماس” في المواجهة غير المباشرة مع إسرائيل بدلاً من أنفاق “حزب الله” لأنه قوة قيّمة وأكثر أهمية من “حماس” في الاعتبارات والأولويات الإيرانية.
وعليه فـ”حماس” قابلة للتضحية بحسب الحسابات الإيرانية، لكن طهران لا تريد التضحية بـ”حزب الله” لمساندة “حماس”. وبالتالي المناوشات ضمن قواعد الاشتباك مقبولة، لكن قرار الحرب الجدّيّة وتوسيع المواجهة إلى حرب قد تجر إيران إليها ليس قراراً سهلاً على طهران في خضمّ معاركها الانتخابية.
خطر توسّع الحرب لتصبح حرباً إسرائيلية على لبنان نتيجة الخروج عن قواعد الاشتباك بين إسرائيل و”حزب الله” حقيقي، لأن حكومة الحرب الإسرائيلية ترى فوائد جمّة لها في حربٍ تخلّصها من صواريخ “حزب الله” حتى وإن صدق الذين يزعمون أن لدى الحزب مليون صاروخ. فالولايات المتحدة لن تترك إسرائيل بمفردها إذا دخلت إيران طرفاً مباشراً أو غير مباشر لمساعدة “حزب الله” بالحرس الثوري وبالمستشارين وبالصواريخ والذخيرة في حرب موسّعة مع إسرائيل، لا سيما أن إدارة بايدن تدرك تماماً أن إيران لن تترك “حزب الله” بمفرده يواجه إسرائيل لأنه يمثل العمق الاستراتيجي لها وممرها الى البحر الأبيض المتوسط.
في هذه الأثناء تحذر الولايات المتحدة وفرنسا إسرائيل من ألّا تتخذ قرار توسيع الحرب مع “حزب الله” إلى حربٍ على لبنان، وتعمل إدارة بايدن على إبلاغ إيران بالتي هي أحسن أن عليها حسن الحساب وليس الاندفاع الخاطئ لأن ما يترتب عليه لن يعجب طهران.
هذا حتى الآن. فالمفاجأة بطبيعتها مفاجأة. وإيران تحسن أن تجرح جرحاً عميقاً بالقطن اللطيف.
النهار العربي
Be the first to write a comment.