بعض التصريحات التركية حول ماهية التطبيع المطلوب مع بشار الأسد توحي بأن المسار قد يتوقف قليلًا، لكن سياسات موسكو المصلحية حول ذلك ما برحت متواصلة، وهذا يؤكد أن روسيا تريد التطبيع أن يكون من بوابة موسكو فقط، وليس من سواها، وأنه لابد أن يكون المدخل الأساس والبوابة الرئيسية للتطبيع بين تركيا ونظام بشار الأسد، وليس من طهران، وليس من العاصمة العراقية بغداد صاحبة المحاولة الأخيرة للتطبيع. وإذا كان ما سمعه بشار الأسد من الرئيس الروسي بوتين يشي بأن الاتحاد الروسي يتبنى بجدية مفرطة هذه المرة العملية التطبيعية، لما لها من انعكاسات نفعية براغماتية ليس على نظام بشار الأسد، أو الدولة التركية لوحدها، بل إن المصلحة الروسية في ذلك باتت تلح وتتأطر وفق جملة مصالح تصر روسيا هذه الأيام على الولوج بها، وإنفاذ أية عملية تفاهم أو تطبيع، يمكن أن يكون لها تداعيات إيجابية على الدولة الروسية حسب التجليات والمعطيات التالية:
_أولها إن موسكو تريد أن تستفيد اقتصاديًا من احتمالات قادمة لعملية إعادة الإعمار في سورية، التي تريدها روسيا، والتي ما انفك الغرب (أوروبا وأميركا) يعمل على رفضها وإعاقتها، قبل الدخول في العملية السياسية، وفق القرارات الأممية ذات الصلة.
_ثانيها هو تمتين حالة التبادل التجاري (الواسعة بالأساس) بين تركيا وروسيا، حيث يطمح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن تصل إلى ما ينوف عن ١٠٠ مليار دولار سنويًا، حسب تصريحاته.
_ علاوة على احتمالات الهيمنة على شمال شرق سورية ضمن محاولات موسكو الدائمة، والتي تتحرك ضمنها مؤخرًا بشكل متسارع، لإنجاز تقارب وتفاهم بين من يحكم شمال شرق سورية، (قسد) وما يتبعها، وهذا إن حصل، سيشكل حصارًا جديًا للموقف والتواجد الأميركي في تلك المنطقة رغم صعوبة ذلك عمليًا.
_ومع ذلك فإن الدور الروسي في الإقليم سيكون أكثر فاعلية وجدية، بعد حصول التطبيع التركي السوري، وسيكون بمثابة مناكدات للسياسات الأميركية في المنطقة، وانتصارًا لسياسات موسكو، بعد أن تمكنت روسيا من الصمود العسكري أمام الدعم الغربي الهائل للأوكرانيين، خلال حرب تجاوزت أكثر من سنتين ونصف، رغم الاختراقات الأوكرانية الأخيرة.
_يضاف إلى ذلك فإن إنجاز التفاهم بين تركيا والنظام السوري، سوف يعيد كما يمهد لعلاقات جديدة متوقعة، فيما لو تمكن المرشح الرئاسي الأميركي الجمهوري دونالد ترامب من الوصول إلى البيت الأبيض من جديد، وهو المتميز بعلاقة أفضل مع الرئيس الروسي بوتين.
_وأخيرًا فإن المزاج العام لدى معظم الدول العربية، وخاصة من كانت تقف إلى جانب سياسات دولية لحصار الأسد، ونصرة الشعب السوري والمعارضة السورية، يتحركون ضمن مسيرة التراجع والنكوص، والإمساك بعلاقات انفتاحية جديدة مع نظام بشار الأسد، منذ عودته إلى جامعة الدول العربية، وكذلك بعد الاتفاق والتفاهم الذي تم في ١٠ آذار/ مارس ٢٠٢٣ في بكين برعاية الصين، بين الدولة الإيرانية والمملكة العربية السعودية. وهذا يعني بالضرورة المزيد من التساوق والانسجام مع سياسات بعض الدول العربية التي يثلج صدرها أن لا تكون في أتون عمليات التطبيع مع النظام السوري لوحدها، رغم الصمت الأميركي على مجمل العمليات التطبيعية الجارية و المتحركة باضطراد وتسارع.
إذًا موسكو تريد تطبيعًا تركيًا سوريًا ينتج علاقات جديدة، تستفيد من تداعياتها هي، ومن ثم تحاصر الدور الإيراني بشكل غير مباشر، وتعيد إنتاج الدور الروسي في المنطقة على أسس جديدة، بعد الصراع طويل الأمد بين روسيا والغرب في أوكرانيا، وضمن منحنيات المصالح الروسية الراكضة نحو المياه الدافئة، وإعادة الاعتبار للاتحاد الروسي في العالم.
ويبقى السؤال: إلى أي حد يمكن لهذه الخطوات أن تسير وتتحرك بثبات، وإمكانية موضوعية، في وقت لا نجد فيه دولة سورية قوية، حيث أوصل بشار الأسد الوطن السوري، إلى حالة الدولة السورية الفاشلة، و تموضعها كدولة فاشلة وضعيفة ولا سيادة لها، اقتصاديًا ولا أمنيًا، مما يعيق إنفاذ أي تفاهم جديد، تريده تركيا من أجل مصالح مهمة تبتغيها، وهي عودة اللاجئين السوريين الى وطنهم، حيث تجاوز عديدهم عتبة ٣ ملايين، بينما تعمل المعارضة التركية ما استطاعت على إثارة هذه القضية، وتنقض على حكومة العدالة والتنمية من خلالها، باعتبارها تشكل خاصرة رخوة، ومدخلًا مهمًا يتماشى مع المزاج الشعبي التركي، الذي يود إخراج السوريين وعودتهم إلى سورية. المزاج الشعبي التركي ما يزال يتأثر بما تدخله المعارضة التركية في مخياله من أن سبب التضخم الاقتصادي المرتفع وانخفاض الليرة التركية، كان عبر وجود السوريين، رغم عدم صحة ذلك، حيث يشارك السوريون بأكثر من ٦ مليارات دولار كاستثمارات كبيرة في تركيا علاوة على ما يدخل تركيا من أموال كمساعدات من الدول العربية، والاتحاد الأوربي يستفيد من معظمها الأتراك والأسواق التركية، والتحويلات المالية الكبيرة من السوريين خارج تركيا إلى أهاليهم في الولايات التركية.
لكن لن يستطيع النظام السوري قبول أو استيعاب ٣ ملايين سوري، وهو الذي يعجز على الوفاء بالتزاماته المعيشية أمام السوريين الذين يعيشون الآن تحت سيطرته، فكيف سيقبل إعادة ملايين أخرى من السوريين، وهم بالأساس محسوبين على المعارضة السورية او حاضنة لها.
ولن يستطيع النظام السوري السيطرة على شمال شرق سورية، ضمن واقع يعرفه الجميع، بوجود ثلاثة قواعد أميركية، تدعم مصالحها الأميركية هناك، وتحافظ على وجود ما يسمى الحكم الذاتي للأكراد في تلك المنطقة، ومن ثم فإنه لا يمكن تحقيق حالة مستقرة للأمن القومي التركي في منطقة يكثر فيها تواجد عناصر العدو الأساسي للأتراك، وهو تنظيم ال (ب ك ك) الإرهابي.
وكذلك فإن نظام بشار الأسد غير قادر على تحقيق أو فتح طريق m4 كمعبر ترانزيت تجاري يصل بين باب الهوى على الحدود التركية السورية، ومعبر نصيب على الحدود الأردنية السورية في ظل وجود دولة فاشلة وعاجزة على حماية الخط التجاري المشار إليه، وليس بمقدور النظام السوري تحقيق أي شرط للتطبيع، من الشروط التركية، لذلك فإنه لن يكون بإمكان تركيا تنفيذ أي عملية انسحاب عسكري من الشمال السوري، إن لم تتحقق الشروط التي تريدها ومن أجل مصالحها التركية الوطنية.
وبالفعل فهذا بالضرورة سيعيدنا إلى المربع الأول من حيث صعوبة إن لم يكن استحالة الوصول إلى أي تفاهم أو تطبيع جدي وحقيقي بين النظام السوري والدولة التركية، حتى لو وضعت روسيا كل ثقلها في ذلك، كما تفعل الآن، وحتى لو أغمضت إيران عينيها، أو تغاضت عن تفاهمات جديدة قد لا تكون طرفًا فيها، أو لها مصلحة حقيقية في توقيعها أو إنجازها.
مجلة الوعي السوري
Be the first to write a comment.