لم يصدّق عامر مراد أن شهادة “الماجستير” التي حصل عليها من المدرسة العليا للصحافة في باريس، بلا قيمة أكاديمية، شأنه في ذلك شأن عشرات الصحفيين السوريين المغرر بهم من قبل تلك المدرسة، رغم محاولتنا عرض جزء من أدلة التحقيق عليه، لكنه فضّل التأكد بنفسه.
بالفعل، أرسل عامر بريداً إلكترونيّاً إلى جامعة باريس الثانية، بهدف التسجيل لدراسة الدكتوراه، إلا أن السيناريو الذي كان يخشاه قد حصل، إذ رفضت الجامعة طلبه “لأن شهادة الماجستير التي يحملها صادرة عن مدرسة خاصة لا تصلح شهادتها لدراسات الدكتوراه”.
يقول الصحفي الذي أنهى التعليم في تلك المدرسة، ودفع 2000 يورو، قبل أن ينتقل للعيش في فرنسا: “لم أصدّق رفض الجامعة طلب التسجيل.. كانت صدمة قوية جداً”.

عامر، لم يكن الوحيد الذي قابلناه في هذا التحقيق، فبعد رحلة تتبّع طويلة عبر عشرات المصادر المفتوحة، وجمع الوثائق، وإجراء مقابلات حصرية تحدّث فيها أصحابها -للمرة الأولى- عن هذه القضية للصحافة، توصلنا إلى أدلة تفيد بأن المدرسة العليا للصحافة في باريس (ESJ) ليست من بين المدارس الأربع عشرة المعترف بها في فرنسا.

كما خلصت نتائج تقصّي أنشطة القسم العربي للمدرسة، وتتبّع خيوط العلاقة بين مجموعة من الأشخاص؛ إلى وجود شبكة مروّجين، تجاهلت الخسائر المادية التي ستلحق باللاجئين، أو الشباب الباحث عن شهادة معترف بها داخل سوريا أو خارجها. وبالفعل تمكّنت هذه الشبكة من إثارة اهتمام الكثيرين وخصوصاً الصحفيين، وسجّل عبرها العشرات بغرض الالتحاق بالمدرسة.

معلومات مضللة
في يوليو/تموز الفائت، تغيّرت العلامة التجارية للقسم العربي للمدرسة، لكن هذا التغيّر لم يكن مثيراً للدهشة، فمنذ نحو أربعة أعوام اعتادت هذه المدرسة على تغييرات متناقضة لمسمياتها الرسمية.
تزامناً مع نشر صور عشرات الطلبة المتخرّجين ضمن دفعة 2024، أصبح القسم العربي يعرف الآن بالعلامة EAD AR بعدما كان يعرف بالعلامة SSJC.

غير أن هذا التحوّل، لم يشمل أيّ تغيير إيجابي، إزاء نهج عمليّة التضليل الواسعة التي تقودها المدرسة منذ عام 2021، ووقع ضحيّتها ما لا يقل عن 200 صحفي من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ودفعوا مبالغ تتراوح بين 2000 و4000 يورو، لقاء شهادات تدريب مهنيّ “غير معترف بها”.
يقول عامر: “اتخذت قرار التسجيل في المدرسة بشرط الاعتراف بشهادتها في الجامعات الفرنسية، ودون ذلك ما كنت لأسجل فيها”.

تتقاطع شهادة “عامر” مع شهادات سبعة خرّيجين آخرين، أكدوا أنهم سجّلوا بناءً على  تطمينات من قبل إدارة القسم العربي، مفادها أن “الشهادة معترف بها، ويمكن لحاملها استكمال دراسته في أيّ جامعة فرنسية يريدها”.

أثناء إجراء “عامر” مراسلات مع جامعة باريس الثانية، لتسجيل الدكتوراه، أرسل بريداً إلكترونيّاً إلى إدارة المدرسة الفرنسية (الأم)، في محاولة لفهم الوضع حيال نيته استكمال دراسته، فردت عليه: “نقبل خريجي درجة الماجستير 2 كل عام كمرشحين للدكتوراه”، لكن بشرط تقديم أطروحة.

أثار هذا الرد تساؤلات عديدة لدى “عامر”، لأن المدرسة منحته الشهادة دون تقديم أطروحة، ورغم ذلك طلبت الإدارة في البريد الإلكتروني الذي أرسلته إلى “عامر” دفع مبلغ إضافي مقابل إعداده الأطروحة.
خلال التحقيق، حصلنا على تسجيلات اجتماعات (فيديو وصوت)، من بينها تسجيل لاجتماع جرى بين المديرة السابقة “ن. ر”، وطلاب من الدفعة الأولى، أكدت فيه المديرة أن الشهادة معترف بها.

المديرة السابقة للمدرسة ساهمت في عمليات التضليل أيضاً، من خلال المقابلات الإعلامية، ومنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث قدمت المدرسة في إحداها أن لديها تاريخا عريقا في فرنسا كمدرسة متخصصة، وهي الثانية من حيث الحجم بعد مدرسة موسكو، كما أن المتخرجين منها يمتازون بكفاءة عالية، تجعل لهم الأفضلية في سوق العمل، لكنها لم تجب عن أسئلتنا إزاء هذه المسائل حتى تاريخ نشر التحقيق.

الادعاءات المضللة حول الاعتراف بالشهادة، كانت مدونة في الموقع الإلكتروني الأول للمدرسة قبل إغلاقه، حيث تمكنا من الحصول على نسخة مؤرشفة، ورد فيها أن “الشهادة معترف بها من قبل الدولة الفرنسية من خلال تسجيلها في الدليل الوطني للشهادة المهنية (RNCP) المستوى 2”.

غير أن الموقع الثاني الذي أغلق أيضا، لم يتطرق إلى مسألة الاعتراف، واكتفى بذكر تفاصيل مختصرة حول نظام التسجيل، وبرامج التدريس.

أما في الموقع الثالث -الحالي- الذي أطلق بالتزامن مع تغيير اختصار العلامة التجارية، فقد ورد فيه بشكل واضح أن الشهادة معترف بها في فرنسا والاتحاد الأوروبي.

الترويج المضلل لم يتوقف هنا، إذ يؤكد فيديو نشره القسم العربي في يناير/كانون الثاني 2021 على فيسبوك، أن الشهادات معترف بها، ومسجلة في الدليل الوطني للشهادات المهنية (RNCP). هذه المعلومات أكدتها المدرسة أيضا في فيديو آخر نشرته نهاية عام 2023.
بعد تغيير اسم القسم العربي، وفي إطار فتح باب التسجيل لعام 2025، نشر حساب القسم على منصة فيسبوك يوم 18 يوليو/تموز الماضي إعلاناً تعريفياً، أكد على الاعتراف بالشهادة أيضاً.

لكن في هذه المرة، ضم الإعلان مفاجأة أخرى: “الحائز على ماستر 2 من المدرسة بإمكانه إكمال دراسة الدكتوراه في أي جامعة أخرى، وتحديدا الجامعات الفرنسية الخاصة”.
هذه الفقرة تناقض مسألة تأكيد الاعتراف في فرنسا والاتحاد الأوروبي في الإعلان نفسه، إذ كيف تكون معترفة بالمطلق، وفي الوقت نفسه يقتصر تحديد إكمال الدكتوراه فقط على الجامعات الفرنسية الخاصة؟

كيف بدأت القصة؟
عملية الترويج للقسم العربي بدأت فعلياً في يونيو/حزيران 2020 عندما أنشئت صفحة باسمه على منصة فيسبوك. وفي مارس/آذار 2021 صدر بيانٌ من مدينة الرباط في المغرب، حمل توقيع كل من رئيس المدرسة الفرنسية الأم ومديرة القسم العربي حينها.
وفي عام 2022 وقّعت المدرسة اتفاقية مع نقابة الصحفيين في تونس، وكان لافتا توقيع الاتفاقية باسم المدرسة الفرنسية (الأم)، وليس باسم القسم العربي.

قارنّا الأرقام التي حصلنا عليها من المصادر، والوثائق التي بحوزتنا، إضافة إلى ما نشرته صفحة المدرسة على فيسبوك، وأجرينا حساباً تقديرياً لمتوسط أعداد الطلبة الذين التحقوا بالقسم العربي منذ عام 2021 وحتى نهاية 2023، فكشفت النتائج عن التحاق ما لا يقل عن 200 طالب بالمدرسة، في حين ما يزال الإقبال يتزايد.

عام 2023 أعلنت المدرسة عن التحاق 65 طالبا بالقسم العربي، وإذا حسبنا المبلغ المعلن عنه من قبل جامعة الأمانوس، ومركز باريس للثقافات المتعددة، هناك نحو 195 ألف يورو حصلت عليها المدرسة من تلك الدفعة فقط.

أقدم مدرسة لكن غير معترف بها
يقول موقع المدرسة الفرنسية (الأم) ESJ Pari إنها “أقدم مدرسة صحافة في فرنسا، تأسست في أبريل/نيسان 1899”.
ولكن الأقدمية لا تعني بالضرورة الاعتراف القانوني، وهذا ما يؤكده موقع دليل الطالب الباريسي، إضافة إلى عشرات التقارير الصحفية، حول عدم الاعتراف بالمدرسة حتى الآن.
في فرنسا هناك 14 مدرسة معترفا بها فقط، من بين أكثر من 70 مدرسة ودورة تدريب مهني وأكاديمي، لكن مدرسة باريس ليست من بينها بقسميها العربي والفرنسي، وهذا الأمر مطابق للائحة الاتحاد الوطني للصحفيين.في هذا الإطار، وصفت دراسة بحثية الكثير من المدارس الصحفية غير المعترف بها في سياق التهكم بمن سمتهم “تجار الحساء”.
ورغم أن المدرسة العليا للصحافة في باريس (ESJ) لم تتلق تعليقاً مماثلاً بصورة مباشرة، فإنه تبيّن أنها غير مدرجة في قائمة اللجنة الوطنية المشتركة لتوظيف الصحفيين (CPNEJ)، وهي الجهة الوحيدة المخولة بالاعتراف بشهادات المهنة في البلاد.
مقابل ذلك، منحت الدولة جميع المدارس غير المعترف بها مخرجاً يوازي في درجته الاعتراف القانوني، عبر التسجيل في الدليل الوطني للشهادات المهنية (RNCP)، على أن تقدم هذه المدارس طلباً رسمياً ضمن معايير محددة.
شهادات غير مسجلة
أوصلنا التتبع في قاعدة بيانات الدليل الوطني إلى أن تسجيل المدرسة العليا للصحافة مُنتهٍمنذ عام 2015، وبالتالي فهي غير قادرة على منح شهادات مهنية معترف بها.
وبحسب ملف المدرسة في الدليل الوطني للشهادات، فإن شهاداتها كانت مسجلة بدءاً من عام 2008 إلى عام 2015، وهو ما يعني أنه خلال كل تاريخ المدرسة، فإنها سجلت في الدليل بين هذين العامين فقط.
في نهاية العام الفائت أعلنت المدرسة الفرنسية الأم، نيتها إبرام عقود مهنةٍ لنظام التناوب (دراسة وعمل) مع الراغبين فيها للعام 2024 الجاري.

في قائمة الإجراءات والشروط، عثرنا على بند يقرّ بتسجيل الشهادة في الدليل الوطني (RNCP) فور الانتهاء من التدريب، ويمكن للطالب البحث فيه من خلال الكود “RNCP34537”.أدخلنا الكود إلى قاعدة بيانات الدليل الوطني، فتبين أنه يعود لمدرسة ميديا سكول باريس المعهد الأوروبي للصحافة (IEJ).
هذا يعني أن المدرسة العليا للصحافة في باريس، تستعين باتفاقات خارجية مع مدارس ومعاهد أخرى مسجلة في الدليل الوطني، لمعادلة شهادات القسم الفرنسي عن طريقها.

يزعم موقع القسم العربي للمدرسة في تبويب النظام الداخلي أن الدراسة تندرج في نظام “في إيه إي” (VAE) وهو نظام “أكاديمي فرنسي يسمح لكل شخص مهما كان عمره ومستواه التعليمي بمتابعة دراسته من خلال تقييم خبراته السابقة”. لكن هذا الزعم غير صحيح، لأن المدرسة غير مسجلة في الدليل الوطني للشهادات، والتسجيل في الدليل شرط أساسي لنظام “VAE” طبقاً للقوانين الفرنسية.
يقول عامر مراد في هذا السياق: “لقد وعدوني بإدراج شهادتي في المنصة الوطنية الفرنسية للحاصلين على الماستر، لكن لم أجد أي شيء”. ويتساءل: “كيف يمكنهم منح هذا الوعد إذا لم تكن المدرسة معترفا بها؟!”.

في إطار قانونية المدرسة العليا للصحافة في باريس ESJ (المدرسة الأم)، ليس ثمة ما يدعم الادعاءات، إلا كونها مسجلة لدى وزارة التعليم العالي الفرنسية كمؤسسة تعليمية خاصة، وهذا التسجيل هو رخصة مزاولة العمل فقط، ولا علاقة له بقيمة الشهادات، ودرجتها الأكاديمية، أو الاعتراف القانوني بها.

أما القسم العربي فقد أجرينا حوله بحثاً بطرق مختلفة، وفي منصات عديدة متخصصة بالتعليم في فرنسا، الرسمية منها وغير الرسمية، لكن لم نعثر على أيّ أثر له ولا لعلامته التجارية “SSJC” ولا لعلامته التجارية الجديدة “EAD AR”.
أرسلنا رسالة بالبريد الإلكتروني إلى إدارة المدرسة الفرنسية ممثلة بمديرها “غ.ج” للاستفسار حول القسم الفرنسي، فأجاب بالنص: “المدرسة معترف بها من قبل الدولة الفرنسية منذ عام 1947 على الأقل، ومنذ ذلك الحين من قبل بعض الحكومات الأجنبية، ضمنها بعض الدول العربية، على حد علمي، تونس (2009)، فلسطين (2021)، والكويت (1967)، على ما أعتقد.. نحن نتفاوض مع الدول العربية أو الجامعات العربية كل حالة على حدة (لبنان، فلسطين، العراق، المغرب، الجزائر.. إلخ)”. لكنه لم يستجب لطلبنا حيال تزويدنا بوثائق تثبت الاعتراف بشهادات المدرسة.

شركة في بريطانيا
عرضنا نتائج التحقيق حول مسألة الاعتراف على مصدر مطلع على الأرشيف الإداري للقسم العربي، فكشف لنا معلومات عن عدم امتلاك القسم رخصة عمل في فرنسا، ناهيك عن عدم وجود أيّ اعتراف حكومي به.
يقول الشاهد الذي تحفظنا على الكشف عن هويته، إن القسم العربي “ينشط تحت غطاء المدرسة الفرنسية الأم في باريس، لكنه تابع لشركة مسجلة في بريطانيا، ويديرها رئيس المدرسة الفرنسية الأم”.هذه المعلومات أكدها حسن البيتي، وهو صحفي يمني كان من بين طلاب الدفعة الأولى في المدرسة.

تتبعنا المنصات البريطانية، وأوصلنا البحث إلى شركة في بريطانيا، تحمل العلامة التجارية الخاصة بالمدرسة الفرنسية (ESJ).البيانات المتعلقة بالشركة بحسب الموقع الحكومي الرسمي في بريطانيا (UK.GOV) تؤكد نفس المعلومات، وتوضح أن طبيعة ترخيصها “خدمات تعليمية”، ويديرها “غ.ج”.

غير أنه بقيت أمامنا مهمة أخرى حيال البحث عن القسم العربي وعلامته التجارية “SSJC”. وفي موقع كومباني شيك البريطاني عثرنا على شركتين تحملان نفس العلامة، الأولى مغلقة، والثانية نشطة تعمل في مجال البناء.

وبمتابعة البحث أظهر الموقع الحكومي الرسمي (UK.GOV) 27 نتيجة لشركات تحمل نفس العلامة التجارية “SSJC” وجميعها شركات استشارات مالية أو إدارية أو بناء.
في موقع societe الفرنسي، وهو موقع غير رسمي يوفر مئات الآلاف من البيانات والمعلومات عن الشركات والمؤسسات المرخصة في البلاد، بحثنا فيه عن العلامة “SSJC” فأظهرت النتائج شركة واحدة فقط مرخصة بهذه العلامة، وهي شركة متخصصة في مجال تغطية الأرضيات والجدران. يشبه اسم هذه الشركة اسم القسم العربي للمدرسة، لكن ليس ثمة علاقة بينهما.
رغم غياب أيّ أثر للقسم/للفرع العربي في المنصات البريطانية، وعلاقته بشركة “ESJ PARIS LTD” في بريطانيا، قال مدير المدرسة الفرنسية “غ.ج” إن “الفرع بريطاني لأسباب وظيفية داخلية للمجموعة، لكن المنهاج والشهادة فرنسية، وليس لدينا أي علاقة بالنظام التعليمي في المملكة المتحدة”.

ترويج إعلامي وعروض منح
بدءاً من عام 2020، عمل القسم العربي على استقطاب الصحفيين من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عبر المؤسسات والهيئات الصحفية في البلدان المختلفة.
وكان نشر صور خريجي المدرسة، وخصوصاً خريجي الدفعة الأولى، عبر منصات التواصل الاجتماعي للقسم العربي، محفزاً وعملاً دعائياً لجذب اهتمام زبائن جدد.
ويبدو أن العلاقات العامة، ونفوذ بعض المروّجين الذين هم في الأساس صحفيون، ولديهم علاقات مع وسائل الإعلام، أو يديرون بعضها، ساهم في تمرير أجندة المدرسة، إذ تعج مواقع إعلامية سورية وعربية بتقارير حول المدرسة.
بعد عملية تتبع معقدة، توصلنا إلى معلومات تفيد بأن معظم المتورطين في عملية الترويج يقيمون في فرنسا، وينحدرون من دول عربية مختلفة، بينهم سوريون، تمكنّا من تحديد هوياتهم وكشف أنشطتهم.
في سوريا كانت رابطة الصحفيين الوجهةَ الأولى، حيث نشر القسم العربي في 15 يونيو/حزيران 2021 على موقع فيسبوك، خبراً مقتضباً يعبّر  فيه عن “سعادة المدرسة بالتعاون مع رابطة الصحفيين السوريين”. كما نشر موقع رابطة الصحفيين السوريين الخبر الذي أشار بشكل واضح إلى دور سكرتير الرابطة آنذاك في إنجاز الاتفاق، إلا أن الخبر حذف لاحقاً، وتمكنا من الحصول على نسخة مؤرشفة.

تفيد معلومات حصلنا عليها من مصادر إدارية في الرابطة، أن هذا التعاون “مكّن أعضاء الرابطة الراغبين بالتسجيل في المدرسة، من الحصول على حسومات مالية خاصة، وصلت إلى نسبة 50%”.
هذه المعلومات أكدها خريجون سجلوا عن طريق الرابطة، وأكدته منشورات صحفيين سوريين على موقع فيسبوك حينها، كما أكدتها الرابطة في إطار ردها على أسئلتنا، لكنها لم تحدد نسبة الحسومات المالية.

ورغم أن اتفاقية التعاون انتهت بعد مضي عام بحسب رابطة الصحفيين، فإن الرابطة احتفظت بالمدرسة في قائمة الشركاء والأصدقاء في موقعها الرسمي، حتى نهاية العام الفائت، ثم أزالتها أثناء عملنا على هذا التحقيق.
وحول دورها في تسجيل الطلاب، قالت الرابطة إن دورها اقتصر على “متابعة شؤون الطلبة الأعضاء المسجلين والتنسيق بينهم وبين إدارة المدرسة وقسمها المالي لإنجاز هذه الاتفاقية”.

وأضافت عبر البريد الإلكتروني: “نعلمكم أن الرابطة لم تلعب أي دور في عمليات التسجيل لغير أعضائها، بل تقدم الأعضاء داخلياً وفق منحة جزئية ووفق حسم رسوم متفق عليه، وكانت علاقة المسجلين مباشرة مع المدرسة وسجلوا بناء على رغبتهم بعد اجتماعهم مع إدارة المدرسة”.

لكن الرابطة تجاهلت أسئلتنا حول معرفتها بالوضع القانوني، وتنبيه الراغبين في التسجيل إلى أن المدرسة مهنية وليست أكاديمية، وغير معترف بها، خصوصاً أن مهمة الرابطة هي حماية الصحفيين، والدفاع عن حقوقهم.
ليس هذا فحسب فقد نص الخبر الذي نشرته الرابطة حول الاتفاق حينها، أن المدرسة “تعد إحدى أعرق مدارس الصحافة في فرنسا وأوروبا”.

يقول عضو هيئة الرقابة والشفافية في رابطة الصحفيين، مصعب السعود، إنه “خلال اتفاق الرابطة مع المدرسة، عبّرتُ أنا وبعض الزملاء عن اعتراضنا، وناقشنا مسألة الشكوك حول شهادة المدرسة مع المكتب التنفيذي للرابطة، لكن لم تلق هذه الاعتراضات آذاناً صاغية، بل اتُّهمت بأنني أناقش المسألة انطلاقاً من أحكام مسبقة، وخلافات شخصية مع مديرة المدرسة حينها”.

مركز باريس للثقافات المتعددة
أعيد مرة أخرى الإعلانُ عن منحة لاستقبال دفعة جديدة من الطلبة، ولكن اللافت هذه المرة أن الإعلان كان عن طريق عضوين أساسيين من رابطة الصحفيين، يشغلان منصب أمين السر، والمسؤول عن العضوية، وتحت مسمى “مركز باريس للثقافات المتعددة” أعلنت الاتفاقية مع المدرسة.

تمكنا من الحصول على استمارة باسم مركز باريس للثقافات المتعددة الذي يديره “ص.إ”. ويسجل الطلاب من خلال هذه الاستمارة على المنحة، ويظهر فيها البريد الإلكتروني وصورة “ش.خ”، إضافة إلى بريد إلكتروني باسم المدرسة العليا للصحافة.

في هذه الاستمارة، وجدنا قائمة تضم 40 طالبا بأقساط تبلغ 3000 يورو لكل عام دراسي، إضافة إلى 100 يورو كرسوم للتسجيل.

تفيد معظم الشهادات التي حصلنا عليها أنه إلى جانب المسجلين في منحة مركز باريس، سجل في المدرسة عشرات الطلاب السوريين عن طريق “ش.خ” و”ص.إ”، سواء خلال فترة الاتفاق مع رابطة الصحفيين السوريين، أو بعد ذلك.

ماجستير بعد الثانوية العامة
وفق النظام الداخلي للقسم العربي يحق لحاملي شهادة الثانوية العامة، وكذلك من أنهى دراسة السنة الجامعية الأولى أو الثانية، وكان يملك خبرة في الصحافة، التسجيل في المدرسة للحصول على درجة الليسانس.
كما يسمح لحاملي درجة البكالوريوس، أو أيّ شهادة أجنبية معترف بمعادلتها، التسجيل للحصول على درجة الماجستير. غير أننا حصلنا على معلومات مختلفة حول تقديم المروّجين تسهيلات لإجراءات القبول.
أفاد تقاطع الشهادات أن بعض الطلاب الذين تقدموا بطلب لدراسة الماجستير، سواء عن طريق مركز باريس للثقافات المتعددة، أو عن طريق رابطة الصحفيين، أو عبر وسطاء، لم يحملوا سوى شهادة الثانوية العامة.
ليس هذا فحسب، فقد أخبرتنا مصادر إدارية في رابطة الصحفيين السوريين، أنهم اكتشفوا في وقت سابق أن أحد أعضائها يحمل شهادة ثانوية عامة سورية مزورة.

بعد التحقق من المشكلة فصلت الرابطة العضو بتهمة الاحتيال، وتقديمه وثائق مزورة لقبول عضويته.

ولكن المفاجأة، أننا عثرنا في بيانات الاستمارة الخاصة بمركز باريس للثقافات المتعددة، على اسم ذات الشخص المتهم بالتزوير، وقد سجل في المدرسة العليا للصحافة عبر مركز باريس.. تحدثنا إليه، وأكد أنه يتابع حالياً دراسة الليسانس في المدرسة.

ذهبنا أبعد من ذلك، وتحققنا من الشهادة في وزارة التربية السورية بالعاصمة دمشق، فتبين أن رقم اكتتاب الشهادة المزورة يعود لشهادة شخص آخر.

اتفاقية جديدة وحملة تضليل أخرى
في منتصف سبتمبر/أيلول 2023 أعلنت جامعة الأمانوس العاملة بمدينة عفرين شمال غربي سوريا، في بيان مشترك، عن اتفاقية مع المدرسة العليا للصحافة في باريس، وحملت صيغة الإعلان جملة ادعاءات غير صحيحة.

تعهد الإعلان الذي حمل لوغو الأمانوس ولوغو مدرسة باريس بأنه يمكن للطالب إكمال الدراسة والحصول على درجة الدكتوراه في أيّ جامعة أخرى بمجرّد حصوله على الماجستير من ESJ.
ورافق الإعلان ما يشبه حملة ترويجية، ساهمت فيها وسائل إعلام عربية وسورية، نقلت البيان كما هو دون أدنى معالجة أو تحقق من المزاعم التي حواها.
لكن اللافت أن القسم العربي أعلن إنهاء الاتفاق مع الأمانوس من طرف واحد بعد أقل من شهرين، وقال إن الإنهاء “بسبب عدم التزام الجامعة بالعهود التي تقدمت بها”، دون الإفصاح عن ماهيتها.

رداً على أسئلتنا حيال الادعاءات التي وردت في إعلان الاتفاق ومسألة الاعتراف بشهادات مدرسة باريس، قال سلام سرجاوي، النائب الإداري لرئيس جامعة الأمانوس، إن ما ورد في الإعلان كان “بناءً على المعلومات المعطاة من المدرسة”.

وأضاف سرجاوي أن الاتفاق مع المدرسة “جاء بناء على تزكية من قبل مديرة إذاعة سورية (ل. ش)”، وزودنا بوثيقة اتفاق الأمانوس مع المدرسة، والتي تؤكد ورود اسم “ل.ش” كممثلة “رسمية وقانونية” عن جامعة الأمانوس في حال نشوء أي نزاع قانوني.

ونص البند الأول تحت التزامات الطرف الثاني (الأمانوس): “السيدة (ل. ش) تمثل جامعة أمانوس رسمياً، وأن توقع بالإنابة عن الجامعة على هذه الاتفاقية بحضور رئيس المدرسة العليا للصحافة”.
كما نص البند الثاني: “السيدة (ل. ش) هي المسؤولة أمام القانون والقضاء في فرنسا في حال نشوء نزاع قانوني”.

أثناء حديثنا عبر تطبيق الواتساب مع النائب الإداري لرئيس جامعة الأمانوس، واستفسارنا عن السبب وراء عدم إعلان الجامعة إنهاء الاتفاق حتى الآن، تفاجأنا بإعلان إنهاء الاتفاق مع المدرسة في نفس اللحظة، على حسابها في فيسبوك، ثم عادت الجامعة وحذفته بعد نحو نصف ساعة.

ونص بيان الأمانوس، الذي احتفظنا بنسخة عنه قبل حذفه، على أنه “تم إنهاء الاتفاق بين جامعة الأمانوس والمدرسة العليا للصحافة في باريس بعد فشل الأخيرة في الوفاء بالتزاماتها بتقديم الوثائق التي تثبت اعتمادها من قبل الحكومة الفرنسية والاتحاد الأوروبي”.

ضحية أخرى
من بين الضحايا الذين قابلناهم، كان الصحفي اليمني حسن البيتي، الذي اتهم إدارة المدرسة “بتزوير درجاته من امتياز إلى جيد جداً”، ويقول إن “المعدل التراكمي، وفق الأرشيف الإلكتروني للمنصة الذي أنشأته المدرسة، يجب أن يكون 18.5/20، وبعد التزوير أصبح 17.90/20، ثم قامت المدرسة بحذف الأرشيف، وأتلفت جميع الملفات، لكنني احتفظت بها”.
يضيف: “عملية التزوير تثبتها المستندات، وتسجيلات الصوت، ولقاءات مرئية احتفظت بها، حيث ادعت الإدارة في بداية 2022 أن ما جرى خطأ، ثم اتضح بعد ذلك أنها تعمدت التزوير بحجة أنه لا يمكننا منح درجات لا يستحقها الطالب فيقال عنا أننا نوزع درجات”.

بسبب مشكلة الدرجات، وبعد سد كل الطرق أمام الصحفي، تواصل مع إدارة المدرسة الفرنسية الأم، عبر البريد الإلكتروني. يقول البيتي إن “الإدارة الفرنسية التزمت الصمت، ثم أقالت مديرة القسم العربي (ن، ر)، وعيّنت (إ.ج) مكانها”.

يضيف: “الإدارة الجديدة للقسم العربي اتهمت المديرة السابقة بالتخلص من كل الوثائق التي تثبت سجلات الطلبة”.يتابع البيتي: “بدل محاسبة المديرة السابقة، قامت الإدارة الجديدة بتزوير درجاتنا، وذلك وفق شهادة مدرّسين، وتم إخبار المدير الحالي (م.ح) بكل هذه التفاصيل”.

بعد ذلك راجع “البيتي” الإدارة الفرنسية مجدداً لترد قائلة: “ارفع دعوى ضد (ن.ر)، و(إ.ج)”. ويضيف: “في الوقت نفسه ادعت إدارة القسم الفرنسي أنني طالب مسجل في برنامج الماجستير في سجل تجاري  ببريطانيا، علماً بأنني أشرت لهم في أكثر من رسالة عبر الإيميل إلى حادثة تزوير الدرجات، وأخبرت الإدارة الفرنسية أن ما حصل يعد جريمة جنائية في فرنسا”.

بالفعل فإن الشهادة التي استلمها “البيتي” صدرت في فرنسا لا في بريطانيا، حاله حال جميع المتخرجين من المدرسة، حيث حصلنا على أكثر من 10 نسخ لشهادات متخرجين، وبعد مقارنتها تبين أنها صادرة عن المدرسة في فرنسا، ولا تحتوي أي إشارة حول بريطانيا.

ونفت إدارة المدرسة الفرنسية التهم الموجهة إليها إزاء التلاعب بالدرجات، وقال “غ.ج”: “ننفي تماماً أي تلاعب بالدرجات من قبل المدرسة، ولا أرى ما هي مصلحتنا في ذلك”.

في ديسمبر/كانون الأول 2023 تقدم “البيتي” بطلب للدراسة في جامعة إيراسموسروتردام الهولندية، وبعد شهرين من تقديم الطلب رفضت الجامعة طلبه، وقالت عبر البريد الإلكتروني: “نأسف لإبلاغك بعدم قبولك في البرنامج، ووفقاً لمعايير Nuffic (المنظمة الهولندية للتعاون الدولي في التعليم العالي)، فإن تعليمك السابق لا يفي بمتطلبات القبول في البرنامج. الدرجة العلمية في École Supérieure de Journalisme (المدرسة العليا للصحافة) غير معتمدة، وبالتالي لا يتم أخذها في الاعتبار”.

تحذيرات حكومية
يرد في الموقع الرسمي لمؤتمر مدارس الصحافة (CEJ) الذي يمثل المدارس الأربع عشرة المعترف بها، بصورة واضحة، “المعايير” التي يجب توافرها في أيّ مدرسة حتى تنال الاعتراف.
ويضم هذا المؤتمر 14 مدرسة تقدم منهجاً معتمداً، وشهاداتها مسجلة في الاتفاقية الجماعية الوطنية للصحفيين.
بحسب موقع ONISEP، وهو موقع حكومي متخصص بالتعليم في فرنسا، فإن المدارس التي تقدم دورات تدريبية خاصة بها، ولا يمكنها منح شهادة وطنية معترف بها، يحق لها فقط إصدار شهادة مدرسية.

لكن هذه المدارس تتحمل المسؤولية الكاملة عن محتوى مناهجها وتقييمها، دون رقابة من الدولة، في حين لا يجوز لها، في كتيباتها أو على مواقعها الإلكترونية، استخدام الأسماء والصفات الرسمية التي تستخدمها المدارس المعترف بها.
يحذر الموقع الحكومي ONISEP مما تسمى “الدبلومات الأوروبية”، ويقول إنها في الواقع شهادات مدرسية غير معترف بها، ولا تتدخل الدولة في محتوى تدريباتها، لذا لا تندرج شهاداتها في فئة الدبلومات الوطنية.

أرسلنا بريدا إلكترونياً مستقلاً إلى جامعة باريس الثانية للتأكد من صلاحية شهادات المدرسة للقسم العربي، فكان الجواب أنه يستحيل قبول هذه الشهادات في الجامعات الفرنسية أو في الاتحاد الأوروبي.

يقول عامر: “منذ أن رفضت الجامعة تسجيلي أقول لنفسي، هل كنت ضحية خديعة فعلاً؟ وماذا سأفعل بشهادة الماستر هذه بعد الآن؟ وهل يمكنني الحصول على حقوقي، وتعويضي عن خسارة الوقت والمال والضرر المعنوي يوماً ما؟”.
والآن بعدما خسر عامر مراد، وحسن البيتي، الوقت والجهد والمال، لا يملكان -ومثلهما عشرات الصحفيين الآخرين- سوى التفكير في كيفية وقوعهم ضحايا على يد زملاء المهنة، بينما يمضي القسم العربي للمدرسة العليا للصحافة قُدماً في بث الدعاية المضللة للإيقاع بضحايا جدد.

https://www.aljazeera.net/politics/longform/2024/8/30/%D9%81%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%AC%D8%B3%D8%AA%D9%8A%D8%B1-%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7-%D8%B6%D9%84%D9%84%D8%AA-%D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B3-200

الجزيرة نت