فارق التوقيت “السياسي” جعل إسرائيل سبّاقة دائماً في اعلان أن اتفاق ترسيم الحدود جاهز بصيغته “النهائية 2” التي تلبّي “كل مطالبنا” وتتضمّن “كل التعديلات التي طلبناها” وتحافظ على “مصالح إسرائيل الأمنية”. لم ينسَ أن الطرفين قالا بعد تسلمهما “النهائية 1” أنها تلبّي كل مطالبهما، ثم وضع لبنان ملاحظاته واقتراحاته للتعديل، وكان الرفض الإسرائيلي مرفقاً بإجراءات أمنية وكأن الأمر مقصور على خيارين: إما الاتفاق أو الحرب. سيقول “حزب إيران/ حزب الله” إنه هو مَن فرض هذه المعادلة، ليضغط على المفاوضات، تحقيقاً للشروط اللبنانية، أي: بدء التنقيب في حقل قانا مقابل بدء استغلال حقل كاريش. هذه المرّة، بعد وصول “النهائية 2″، قال كبير المفاوضين الياس بو صعب إن “لبنان شعر بأن المسودة تأخذ كل متطلباته في الاعتبار، ونعتقد أن الطرف الآخر يجب أن يشعر بالمثل”. بل أكد الطرفان اتجاههما الى “اتفاق تاريخي”.

وهذا ما سيحدث مبدئياً، ما لم تطرأ مفاجأة، ويريد الطرفان الذهاب قريباً الى المفاوضات (غير المباشرة) في الناقورة لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق، فكلاهما متعجّل للأسباب المعروفة: نهاية ولاية الرئيس اللبناني آخر الشهر، كذلك نهاية ولاية الحكومة في إسرائيل. قد يفيد توقيع الاتفاق رئيس الوزراء الإسرائيلي في الانتخابات المبكرة مطلع الشهر المقبل، خصوصاً مع الربط التجريبي لحقل كاريش بأنابيب الغاز في المتوسط، وما يتردد عن دعم واشنطن إعادة انتخاب يائير لبيد وزميله بيني غانتس. لكن الاتفاق، وإنْ سجّل في عهد الرئيس ميشال عون، لن يفيد حزبه لأن إرث عهده مثقلٌ بالتفليسة الشاملة للدولة والانهيار الاقتصادي والمآسي الاجتماعية، وبوضعه لبنان واللبنانيين في مهب الريح بين مافيا الفساد وميليشيا الاحتلال الإيراني. لذلك أصبح المطلب الرئيسي، داخلياً وخارجياً، أن لا يُؤتى برئيس جديد على النمط “العوني”.

أكثر ما يتردد في تعليقات الجانب اللبناني على الاتفاق المرتقب أنه يحصر اهتمامه بالفوائد الاقتصادية المتوقّعة، بعد 3 الى 4 سنوات على الأقل. وهذا أمر مهم وإيجابي، بل ربما تُحسّن الثروة البحرية شروط التفاوض والتعاقد مع صندوق النقد الدولي. لكن ضعف الدولة وسطوة ميليشيا “حزب إيران” وتواطؤها “المقدّس” مع المافيا تثير كل الاشتباهات بأن تلك الثروة الموعودة ستتعرض بدورها للنهب، كما أموال المودعين، فليس بين أطراف المنظومة من له مصلحته في أن تكون هناك دولة فاعلة، أو في أن تدير هذه الدولة عائدات النفط والغاز للمصلحة العامة.

ما يُلفت أيضاً أن الجانب اللبناني لم يشرْ اطلاقاً الى الجدوى “الأمنية” للاتفاق “التاريخي”، وكأنه يتقصّد إغفالها والتقليل منها. في حين أن مسؤولي الحكومة الإسرائيلية دأبوا على إبراز الترابط بين: “تأمين الاستقرار وضمان الأمن في شمال إسرائيل، والمصلحة الاقتصادية بتشغيل حقل كاريش، وتوفير أموال للخزينة العامة، وتمكين الاستقلال في مجال الطاقة”… وفي تصريحات سابقة اعتبر لبيد أن الاتفاق “يضعف تبعية لبنان لإيران ويكبح حزب الله ويعيد الاستقرار”، وفي أخرى حديثة قال إن الاتفاق يسمح بـ “تجنب الحرب”. بديهي أن العمل في حقول الغاز والنفط يتطلب استقراراً، أي إبعاداً لأشباح الحرب. ألهذا السبب يتفادى الجانب اللبناني الحديث عن البعد الأمني للاتفاق، إرضاءً لإيران و”حزبها” اللذين يريدان مواصلة التلويح بورقة الحرب؟

النهار العربي