يمكن تناول الأزمة الأوكرانية الحالية على مستويات ثلاث: مستوى الصخب الإعلامي والحرب النفسية الذي يغطي على جوهر الصراع بقدر ما يقدم من فيض المعلومات المبتورة والتحليلات السطحية، ومستوى العمل السياسي والدبلوماسي وهو مجال مهم وإن كان دائب الحركة بحسب تغير موازين القوى على الأرض، ومستوى التحليل الإستراتيجي الذي يركز على ثوابت الجغرافيا والتاريخ وتدافعات القوى الكبرى وتحولات المنظومة الدولية.
وفي هذا المقال والمقالين التاليين، سنحاول تقديم رؤية للأزمة الأوكرانية على المستوى الثالث، أي التحليل الإستراتيجي. نقدم في المقال الأول بساطا نظريا عن السياق التاريخي والإستراتيجي للأزمة الأوكرانية، وفي الثاني نتحدث عن الرابحين والخاسرين من هذه الأزمة، وفي الثالث نحاول تلمس آثار هذه الأزمة على العالم الإسلامي بشكل عام، والعالم العربي بشكل خاص. والحجاج الأساسي الذي نريد تقديمه في هذه المقالات الثلاث يتلخص في أن أزمة أوكرانيا بداية لشروق الشرق وغروب الغرب، أي تحول مركز الثقل الدولي من أميركا وأوروبا إلى آسيا وأوراسيا. وسيتجلى ذلك في أمور ثلاثة:
1- أن الصين ستكون الرابح الإستراتيجي بعد انجلاء غبار هذه الأزمة، وتليها روسيا -رغم الثمن المؤلم الذي ستدفعه- ثم تركيا وإيران وباكستان، ثم أوروبا الجديدة بقيادة ألمانيا.
2- أن الخاسر الأكبر من الأزمة هو الولايات المتحدة، وأوروبا القديمة التي تمثلها فرنسا وبريطانيا. وأسباب هذه الخسارة عديدة، سنفصلها في المقال الثاني من هذه المقالات.
3- أن هذه الأزمة ستقود إلى مزيد من التجاذب بين القوى الكبرى في الوطن العربي، إلا إذا اتجه إلى بناء مناعة ذاتية، بالتحرر من الأنانية السياسية، والالتحام بالسياق الإسلامي الأوسع.
سنكتفي في هذا المقال الأول بتوضيح الخلفية التاريخية والإستراتيجية لهذا الصراع من زوايا ثلاث: أولاها العلاقة التاريخية بين الروس والأوكران، وهي علاقة معقدة وضاربة الجذور في التاريخ، ولا بد من أخذها في الاعتبار في تحليل الموقف الحالي، سواء في وجهه الروسي، أو الأوكراني، أو الغربي. والثانية مواريث الحرب الباردة في شرق أوروبا، وما تركته من ملفات مفتوحة تطل برأسها من وقت لآخر، ومنها ملف أوكرانيا والسعي إلى انضمامها -أو ضمها- إلى حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO) والاتحاد الأوروبي، ضمن سياسة توسع غربي في الفراغ الإستراتيجي الذي خلفه انهيار الإمبراطورية السوفياتية. والثالثة ظاهرة الصعود الصيني المطرد الذي يكاد يسحب البساط -بهدوء واطراد- من تحت أقدام القوى الغربية، ويختم حقبة من التسيد الغربي في العالم دامت قرونا مديدة.
يلاحظ المتابعون للعلاقات المعقدة بين روسيا وأوكرانيا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -وهو رجل الاستخبارات ذو القلب الجليدي- متعلق بأوكرانيا تعلقا وجدانيا، يتجاوز العلاقة السياسية بين دولتين جارتين مستقلتين. وهو حين يتحدث عن أوكرانيا يتسم حديثه بنبرة عاطفية غير معهودة منه، فتأتي لغة خطابه مشحونة برموز التاريخ والقومية والدين. ويرجع ذلك من جهة إلى الوشائج التاريخية بين الشعبين، ومن جهة أخرى إلى توجهات بوتين القومية السلافية، التي تطمح إلى جمع كافة الشعوب السلافية الأرثوذوكسية -الروسيين والبيلاروسيين والأوكرانيين والصرب وغيرهم- في فضاء حضاري وإستراتيجي، يكون بديلا عن الإمبراطورية السوفياتية البائدة.
“عبّر بوتين أكثر من مرة عن أسفه العميق على تفكك الإمبراطورية السوفياتية، واعتبر ذلك التفكك -في أحد تصريحاته عام 2014- “أسوأ كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، بل ذهب بوتين مؤخرا إلى إعادة قراءة التاريخ الروسي، فعاتب قائد الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين”
والمعروف تاريخيا أن الروس دخلوا التاريخ السياسي العالمي ابتداء من “إمارة كييف” الروسية، التي تأسست في القرن العاشر الميلادي، ومن بذرة تلك الإمارة الصغيرة، وبتأثيرها الديني والثقافي ولدت الإمبراطورية القيصرية الروسية فيما بعد. ووقعت أوكرانيا لقرون في تقاطع النيران بين الدولتين المحيطتين بها: ليتوانيا، وبولندا، إلى أن رجعت لجذورها الروسية الأرثوذوكسية، وابتلعتها روسيا القيصرية منتصف القرن السابع عشر، ثم ورثها عنها الاتحاد السوفياتي مطلع القرن العشرين. ولا يزال الروس يصفون أوكرانيا بأنها “روسيا الصغرى”.
وحينما تفكك الاتحاد السوفياتي بدأت حقبة جديدة في تاريخ أوكرانيا، اتسمت بالتجاذب بين هويتها السلافية الأرثوذوكسية، ورغبة جزء من شعبها في تحولها دولة أوروبية غربية. وهنا وقعت أوكرانيا في تقاطع النيران من جديد، حيث مطامح المعسكر الغربي -الاتحاد الأوروبي والناتو- في التوسع في الفراغ الإستراتيجي السوفياتي، ومطامح روسيا “البوتينية” إلى استرجاع جزء -على الأقل- من تلك المساحة الضائعة، خصوصا فيما يتعلق بالشعوب السلافية الأرثوذوكسية.
لقد توسع الناتو على مدى 70 عاما؛ من 12 دولة عند تأسيسه عام 1949 إلى 30 دولة بانضمام مقدونيا إليه عام 2020. وكان هذا التوسع مصدر شكوى وقلق روسي دائم، بحكم أن الحلف لم يتأسس أصلا إلا لمواجهة روسيا. وبحكم التفاهم الضمني بين قادة الناتو وروسيا في ختام الحقبة السوفياتية على عدم توسيع حدود الناتو في ما وراء ألمانيا، مقابل سماح روسيا باستقلال الدول التي كانت جزءا من الإمبراطورية السوفياتية. لذلك فإن الوطنيين الروس -الذين يمثلهم بوتين اليوم- يشعرون بمرارة شديدة تجاه توسع الناتو في مجالهم الحيوي، ويعتبرون ذلك غدرا بروسيا، واستغلالا للحظة ضعفها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات.
لم تكن روسيا في عهد يلتسين آنذاك في وارد الاعتراض على توسع الناتو، إذ كانت مرهقة الكاهل بمواريث التفكك السوفياتي. وربما حسب قادتها أن روسيا ستصبح دولة أوروبية في يوم من الأيام، فلا بأس أن تسبقها في ذلك شقيقاتها السوفياتية. لكن الغرب لم يكن راغبا في انضمام روسيا إليه -كما كان يحلم غورباتشوف ويلتسين- ولا هو مستعد للسماح لها بلعب دور القوة العظمى من جديد، حتى ولو كان ذلك في السياق السلافي الضيق. لكن أقدار روسيا الإستراتيجية بدأت تتبدل في عهد فلاديمير بوتين، الذي جمع بين النزعة القومية السلافية والحاسة الإستراتيجية الطموحة.
وقد عبّر بوتين أكثر من مرة عن أسفه العميق على تفكك الإمبراطورية السوفياتية، واعتبر ذلك التفكك -في أحد تصريحاته عام 2014- “أسوأ كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، بل ذهب بوتين مؤخرا إلى إعادة قراءة التاريخ الروسي، فعاتب قائد الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين (1870-1924) على أنه بنى الاتحاد السوفياتي ابتداء على مبدأ القبول باستقلال الجمهوريات السوفياتية، وهو ما أدى في النهاية إلى تفكك الدولة السوفياتية العملاقة.
وتتألف إستراتيجية بوتين في استرجاع أمجاد روسيا من شقين: أحدهما بناء نواة صلبة من الشعوب السلافية الأرثوذوكسية، تكون جزءا من روسيا فعلا أو حكما. والثاني بناء مجال حيوي، في شكل غلاف من الدول التابعة، يحمي هذه النواة من العدو: غربا في أوروبا الشرقية، وجنوبا في آسيا الوسطى. وقد نجح بوتين في تأمين الجبهة الآسيوية من خلال إبقاء الجمهوريات السوفياتية الآسيوية السابقة دائرة في الفلك الروسي، وتوثيق التحالف مع العملاق الصيني المجاور، لكنه واجه تحديا جديا في تأمين الجبهة الغربية بسبب سياسات التوسع الغربية في شرق أوروبا. وليست الأزمة الأوكرانية سوى تجسيد لعناد بوتين وإصراره على تصحيح المسار التاريخي الذي بدأ بتفكك الاتحاد السوفياتي.
ولأن أوكرانيا تنتمي إلى النواة السلافية التي تقع في القلب من الرؤية الإستراتيجية “البوتينية”، وهي دولة مهمة إستراتيجيا وجغرافيا واقتصاديا، فإن انضمامها للناتو، وتحولها إلى ساحة للنفوذ الغربي المعادي لروسيا، أمر لا يمكن التسامح معه بحال في تصور بوتين، سواء بالمنطق القومي، أو بالمنطق الإستراتيجي. وهنا نفهم الشراسة التي تعامل بها بوتين مع القضية الأوكرانية، واستعداده لمواجهة عدد وافر من الدول، وكم كبير من المصاعب والمتاعب في سبيل روسيا الكبرى التي يسعى إلى بنائها.
ويحسن أن نضيف إلى هذه الخلفية المعقدة من العلاقات الروسية الأوكرانية، والصراعات الروسية الغربية، بعدا ثالثا، وهو الصعود الصيني المذهل خلال العقود الماضية. ولا يختلف الباحثون الإستراتيجيون الجادون في أن صعود الصين هو أكبر حقيقة دولية في النظام العالمي الحالي، وإن كانوا يختلفون في آثار ذلك، فمنهم من يرى إمكانية الصعود الصيني من دون صدام مع القوى الغربية السائدة، ومن هؤلاء المفكر السياسي السنغافوري، كيشوري محبوباني، وهو مؤلف عدة كتب عن صعود الصين، منها كتاب: “هل خسر الغرب؟”، وكتاب: “هل فازت الصين؟”
“نبه بريجنسكي -في أكثر من مقابلة- إلى أن توسع حلف الناتو في اتجاه روسيا خطأ إستراتيجي، خصوصا في عالم يوشك فيه العملاق الصيني أن يجتاح المعمورة، ويزيح العالم الغربي كله من الصدارة الدولية”
ومنهم من يرى أن الصين لن تصل إلى قمة العالم بطريقة سلمية، وأنها ستجرف القوى الأميركية في طريقها إلى الصعود، إلا إذا تصدت لها أميركا بقوة وحزم. وإلى هذا الرأي يميل منظر العلاقات الدولية الأميركي الشهير، جون ميرشايمر، في الفصل الأخير من كتابه “مأساة سياسة القوى العظمى”، وقد جعل عنوان ذلك الفصل: “هل تستطيع الصين الصعود بطريقة سلمية؟” ومن الواضح أن صائغي القرار الإستراتيجي الأميركي يميلون إلى الإيمان بمسار الصراع الذي تنبأ به ميرشايمر، ولذلك بدأوا السنة الماضية في تكوين الحلف الأنجلوسكسوني، المعروف باسم “أوكوس” (Aukus) اختصارا، لحصار الصين في المحيط الهادي وبحر جنوب الصين، قبل أن يدهمهم بوتين بإشعال هذه الحرب الأوكرانية الجديدة في شرق أوروبا.
وبناء على هذه الخلفية التاريخية والإستراتيجية، فإننا نميل إلى أن سوء التقدير الإستراتيجي الأكبر الذي قاد إلى هذه الأزمة الدولية الخطيرة على الأرض الأوكرانية جاء من المعسكر الغربي، وهو إصرار الدول الغربية على توسيع حلف الناتو إلى حدود روسيا، ونتفق في هذا مع عدد من المفكرين الإستراتيجيين الأميركيين، ومن هؤلاء مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبغنيو بريجنسكي، واثنان من أبرز علماء السياسة والعلاقات الدولية هما جون ميرشايمر (من جامعة شيكاغو)، وستيفن وولت (من جامعة هارفارد).
فقبيل وفاته عام 2017، نبه بريجنسكي -في أكثر من مقابلة- إلى أن توسع حلف الناتو في اتجاه روسيا خطأ إستراتيجي، خصوصا في عالم يوشك فيه العملاق الصيني أن يجتاح المعمورة، ويزيح العالم الغربي كله من الصدارة الدولية. واعتبر بريجنسكي أن العديد من دول شرق أوروبا التي انضمت للناتو بعد تفكك الاتحاد السوفياتي لم يكن انضمامها ضرورة إستراتيجية بعد نهاية الحرب الباردة، وهي لا تضيف شيئا مذكورا لقوة الغرب، بل تشكل عبئا عليه، وسببا لتجدد الصراع القديم مع روسيا من دون حاجة لذلك. وفي حالة أوكرانيا تحديدا، توصل بريجنسكي إلى أن الغرب أمام أحد خيارين لا ثالث لهما، وعليه أن يقبل بأحدهما: إما أن تتحول أوكرانيا روسية، أو تتحول روسيا أوروبية.
وبدلا من استعداء روسيا بعملية التوسع شرقا، دعا بريجنسكي القادة الغربيين إلى ضم روسيا وتركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بحكم أن روسيا دولة مسيحية تنتمي إلى الفضاء الحضاري الغربي ذاته، وبحكم أن تركيا بموقعها وقوتها الصاعدة لا يمكن تأمين الخاصرة الجنوبية الشرقية لأوروبا من دونها. كما أشار بريجنسي ضمنا إلى ضرورة السماح لألمانيا بإعادة بناء قوتها العسكرية، لتكون الضلع الثالث في هذا المثلث الروسي-التركي-الألماني، القادر على أن يكون جدار صد أمام زحف العملاق الصيني الذي يجتاح العالم. ويبدو لي أن المانع من الأخذ بطرح بريجنسكي هو أن هذا الثلاثي سيكون بديلا عن المظلة الإستراتيجية الأميركية، وهو ما لا تريده النخبة السياسية في واشنطن، رغم أن أميركا المرهقة لم تعد تملك القدرة ولا الإرادة لتحمل أعباء القيادة في الغرب، أو حماية أوروبا.
أما الأستاذ جون ميرشايمر، فقد حذر منذ سنين من توسع الناتو شرقا، وتنبأ بأن هذا التوسع سينتهي باستفزاز روسيا بطريقة تنتهي بخسارة أوكرانيا مزيدا من أرضها بعد القرم، إن لم تخسر وجودها كدولة. وذهب ميرشايمر إلى أن ردة فعل الروس على توسع الناتو في أوكرانيا منطقي جدا من المنظور الإستراتيجي، وهو لا يختلف عن ردة فعل أميركا على الصواريخ الكوبية نهاية الستينيات، ونصح الأوكرانيين بالاعتراف بحقيقة كونهم دولة صغيرة تعيش جنب “غوريلا”، وأن عليهم التعامل مع روسيا الصاعدة بذكاء وواقعية، والانفصال عن الإستراتيجية الأميركية، التي ستدفعهم إلى مواجهة غير متكافئة ثم ستخذلهم في نهاية المطاف.
“حرب أوكرانيا شغلت أميركا عن مواجهة الصين، وأنها زعزعت المعادلة الإستراتيجية السائدة في شرق أوربا، وفرضت على أميركا الاهتمام بهذه المنطقة، في وقت كان الأميركيون يتحفزون للمنازلة مع الصين، والتنازل عن مسؤولياتهم الأوروبية القديمة”
وأما الأستاذ ستيفن والت، فقد نبه إلى أن أهمية أوكرانيا متفاوتة بالنسبة للطرفين، فهي بالنسبة لروسيا عمق إستراتيجي، وهي بالنسبة للغرب مجال ثانوي نفوذ ثانوي. كما نبه إلى استعداد روسيا للقتال في هذه المواجهة، بخلاف المعسكر الغربي الذي لن يتجاوز الصخب الإعلامي والعقوبات الاقتصادية. وهذا الاختلاف في الدافع يجعل مواجهة الغرب لروسيا في أوكرانيا خاسرة منذ البداية.
ونحن نضيف إلى ذلك أن روسيا لا تستطيع خسارة أوكرانيا، بينما الغرب لن يخسر الكثير بخسارته لأوكرانيا. كما يبدو لنا أن الوحدة الغربية الحالية وحدة عاطفية عابرة، لا تتأسس على معطيات صلبة، ولعلنا سنشهد شرخا بين أوروبا -بقيادة ألمانيا- وأميركا، بعد هذه الورطة غير المحسوبة النتائج في أوكرانيا، خصوصا مع تحكم روسيا في مصادر الطاقة الأوروبية.
ومن الواضح أن حرب أوكرانيا شغلت أميركا عن مواجهة الصين، وأنها زعزعت المعادلة الإستراتيجية السائدة في شرق أوربا، وفرضت على أميركا الاهتمام بهذه المنطقة، في وقت كان الأميركيون يتحفزون للمنازلة مع الصين، والتنازل عن مسؤولياتهم الأوروبية القديمة. ويبدو لنا أن الأميركيين والأوروبيين لم يتعلموا الكثير من مواجهاتهم السابقة مع بوتين في أوسيتا الجورجية عام 2008، وفي القرم الأوكرانية عام 2014. وربما يرجع ذلك إلى تشبث الغربيين بعقلية الحرب الباردة في علاقاتهم بروسيا، بعد نهاية الحرب الباردة بعقود، وسوء تقديرهم للقوة والمطامح الروسية.
إن تصوير الإعلام الغربي الصراع في أوكرانيا على أنه صراع بين الديمقراطية والاستبداد نظرة جزئية وحَولٌ إستراتيجي في أفضل الأحوال، ودعاية فجة في أسوئها. والأدق أننا نعيش اليوم صراعا بين نزعتين توسعيتين: النزعة التوسعية في الجوار لدى بوتين، والنزعة التقليدية الغربية إلى حصار روسيا. وقد لا يكون لدى الأميركيين مانع من استخدام الأوكرانيين وقودا لحرب غايتها استنزاف روسيا، وليس نصرة أوكرانيا بالضرورة، فهي دماء سلافية تنزف على الجبهتين، ولا بأس في ذلك في المنظور الأميركي والأوروبي، تماما كما استنزف الغرب الاتحاد السوفياتي من قبل في أفغانستان، بدماء أفغانية مسلمة، من دون أن تكون لدماء الأفغان قيمة في نظره.
وقد تردد على لسان معلقين أميركيين في الأيام الأخيرة ما يدل على هذا المنحى من التفكير، ومن ذلك قول الصحفي توماس فريدمان بانتهازية صارخة: “سنقاتل روسيا لغاية فناء آخر أوكراني”. ومن هذا المنظور، يمكن القول فعلا إن الغربيين ورطوا بوتين في ما يشبه الحرب الأهلية، التي تنتهي عادة بخسارة الطرفين، بغض النظر عن الفائز فيها، لأنها سفكٌ لدماء أشقاء. وقد عبر الكاتب الروسي ألكسندر نازاروف عن ذلك بمرارة، في مقال له منذ أيام قال فيه: “إن الكارثة الحقيقية بالنسبة لروسيا هي حرب الشعبين الشقيقين، الأوكراني والروسي، اللذين يمثلان، بشكل عام، شعبا واحدا في كلا الطرفين المتنازعين. فوزير خارجية أوكرانيا السابق، كليمكين، من أصل روسي، وثلث الحكومة الروسية من أصول أوكرانية”.
تلكم هي الخلفية التاريخية والإستراتيجية للأزمة الأوكرانية، التي تكاد تحرق أوروبا، وتعصف بالنظام الدولي اليوم. ويبقى السؤالان الكبيران: من سيكون الفائز والخاسر من الأزمة الأوكرانية؟ وما آثار هذه الأزمة على الوطن العربي والعالم الإسلامي؟ وذلك ما سنتناوله في المقالين القادمين بإذن الله.
Be the first to write a comment.