مجدداً يضطرون للصمت خوفاً من الاتهام بالانهزامية بينما يخرج مناضلو الشاشات والسوشال ميديا متفاخرين بأن أبناءهم وأرواحهم وبيوتهم وحاضرهم ومستقبلهم فداء للسيد، في إهانة مستدامة لا تنقطع لشعب برمته يُختزل وجوده بالعيش والموت فداءً للشخص ومشاعره.

في التسجيل الصوتي المنسوب الى أحد شيوخ حزب الله الكبار، يخاطب الرجل الرزين أبناء البيئة الحاضنة حصراً ليتابعوا التطورات عند العدو، مثل أن مقاتلاته الحربية تهبط، بعد غاراتها على لبنان، في قبرص لأن الحزب دمّر المطارات. “العدو يتألم وموجوع” ولن يطول الوقت قبل أن تأتي الوفود، من بايدن وغيره، للتفاوض. “العدو في مأزق كبير”، يقول.”مأزوم أكثر منا بعشرات المرّات. عمّموا هذه الأخبار الحلوة”.

يظهر التسجيل في يوم هو الأشد قتامة في تاريخ لبنان. الإثنين الجهنّمي الذي نفّذت فيه إسرائيل 1300 غارة، وقتلت وجرحت آلاف المدنيين، وأجبرت مئات الآلاف على النزوح دفعة واحدة، فاعتُقلوا، حرفياً، لأكثر من عشرين ساعة في عنق زجاجة. عطشوا وجاعوا، بعد 11 شهراً على حرب الإسناد والمساندة، لأن لا الحكومة ولا الحزب توقعا أن تأتي لحظة كهذه، ولأن الحرب المفتوحة ليست مع إسرائيل، بل مع دولة مثل الفاتيكان أو سلطنة مثل بروناي.

الشيخ الذي قيل إنه عضو في مجلس شورى الحزب، طلب من أبناء البيئة أن يمارسوا بأنفسهم تلاعباً بعقولهم، أن يوجهوا البروباغندا داخلياً من أجل المصلحة العليا. عليهم أن يميلوا بعضاً على بعض،  وهم سجناء سياراتهم، يبحثون عن عبوات مياه ليشتروها ولا يجدونها، يحاولون تأمين حليب للرضع، يطمئنون أطفالهم بأن العدو في مأزق. 

هكذا أيضاً، وبينما يصلون إلى مدارس غير معدّة لاستقبالهم، وخلال انتظارهم، مجدداً، صناديق المعونات وكل ما ينقص النازح بروحه فقط وما عليه من ثياب، يميلون على بعضهم البعض ويقولون لا تنسوا الأخبار الحلوة، فالعدو الآن مأزوم أكثر منا بعشر مرات على الأقل. 

يريدهم الشيخ أن يفكروا استراتيجياً، بينما منهم من افترشوا الأرصفة لأنهم لا يعرفون إلى أين يذهبون، لأن الوحدة الوطنية التي تجلت من شمال لبنان إلى جنوبه، لم تؤمن لهم مبالغ طائلة يطلبها أصحاب الشقق، أو لأن لا شقق خالية، أو لأنهم يجهلون الطريق إلى المدارس، أو لأنهم، ببساطة، لا يريدون أن يناموا في مدرسة.

هي المعركة التي ينبغي ألا يعلو صوت فوقها إلا صوت الرئيس الإيراني الجديد وهو يتملق للأميركيين في نيويورك بكل ما أوتي من عزة وإباء. المطلوب الآن التضامن فقط، لا السياسة، فالمدنيون ليسوا في صلب السياسة. هم حالة إنسانية تستوجب التعاطف والتضامن والإيواء، سقف كيفما اتفق، وحاجات، من دون أن يعرفوا إلى متى سيبقون في نزوحهم، ولا ما الذي حلّ ببيوتهم وما الذي سيحلّ بحيواتهم. مجدداً؟ مجدداً. بعد آخر نزوح قبل 18 سنة يجدون أنفسهم هاربين من بيوتهم التي تتساقط خلفهم. 

مجدداً يضطرون إلى إظهار الامتنان لحفلات التكاذب الوطني والتضامن والوقوع في حب صيدا لأن مجهولاً أكد لهم بلافتة ورقية أنهم سيعودون مرفوعي الرأس. مجدداً عليهم أن يصبروا صبراً تكتيكياً وأن ينظروا إلى الصورة الكبرى، ويتقبلون التهنئة بفقد شبانهم وشاباتهم. مجدداً يفجعون بالدم يملأ عيون الأطفال وأطرافهم الممزقة. 

مجدداً يضطرون للصمت خوفاً من الاتهام بالانهزامية بينما يخرج مناضلو الشاشات والسوشال ميديا متفاخرين بأن أبناءهم وأرواحهم وبيوتهم وحاضرهم ومستقبلهم فداء للسيد، في إهانة مستدامة لا تنقطع لشعب برمته يُختزل وجوده بالعيش والموت فداءً للشخص ومشاعره.  

مجدداً يجدون أنفسهم في معركة غير متكافئة هدفها ليس الوعد المنتظر بإزالة العدو من الوجود، وليس منعه من القضاء على حزبهم كما في العام 2006، وليس تحرير أرضهم، بل هدفها المعلن من حزبهم نفسه هو الضغط على العدو بإبعاد مستوطنيه مؤقتاً من الشمال. حرب سقفها قبول الحزب الضمني بعودة المحتلّين إلى الأرض واحتلالها مجدداً، إذا حقق نتانياهو الشرط الذي لم يوافق عليه طوال 11 شهراً من الحرب، إي إيقاف الإبادة في غزة والتي لم يغير الحزب فيها شيئاً، لا بل إن إسرائيل أطلقت يدها على غزة بأريحية أكبر في الأيام السابقة بينما الخبر الوحيد بات الحرب على لبنان. 

الناس، بيوتها وأملاكها ومتاجرها وحقولها وأطفالها وأمانها وأرواحها وكرامتها، في صلب الحرب وفي صلب السياسة. في صلب السياسة لأن من لم يضطر إلى النزوح مع بداية الحرب، اقتنع بجيوش المحللين وهم يفككون العدو وخوفه من فتح حرب كبيرة، ومن الضغط الأميركي عليه، ومن المجهول الذي ينتظره ومن قواعد اللعبة التي أرساها الحزب ولا يجرؤ الإسرائيلي على اختراقها، ومن معادلة توازن الرعب، ومن ضغط مستوطني الشمال على الحكومة وكل الفقاعات التي انفجرت كلها دفعة واحدة. فانطلق جيش المفكرين مجدداً بالحديث في السياسة، عن قلب الطاولة عسكرياً، وعن استنزاف العدو، وعن مفاجآت كبرى، وعن الأخبار الحلوة التي يريدها الشيخ أن تعمَّم قبل أن يجد النازحون مخدّة يلقون رؤوسهم عليها.

 في صلب السياسة، السؤال عن الفرق بينهم وبين المستوطنين شمال فلسطين ليكون أولئك ورقة ضغط على حكومتهم بينما النازحون منذ 11 شهراً، ليسوا كذلك عند حزبهم وحكومتهم. في صلب السياسة السؤال الآن، لماذا كانت هذه الحرب في الأصل، وكيف أعدّ الحزب العدة لها، وكيف حمى وسيحمي مدنييها أمام آلة الجريمة الصماء تلك، وكيف سينهيها ومتى؟ بلى، هذه الأسئلة في صلب السياسة، وفي صلب الكارثة، وصوتها الآن أعلى من صوت المعركة.

موقع الدرج