قبل أن تصدّ الأهراءات قوة الانفجار وتخفّف من هوله في مرفأ بيروت، كانت رمزاً لخيرٍ ينعم به اللبنانيون من الطوائف كافة ويبعد عنهم ذلَّ البحث عن الخبز. وبعد المأساة صارت مجسّماً للانهيار الشامل، الدولة والمؤسسات، “السيادة” والحدود، القضاء والعدالة، وكل مقوّمات الحياة/ القاء. صارت شاهداً على اضمحلال وطنٍ كانَ، ولا أحد يعلم إنْ كان سيعود، ولا كيف سيعود، أو لماذا بُدّدت المشاريع والعروض لإعادة إعمار المرفأ، أو لماذا أُهملت فرص انقاذ الأهراءات نفسها وترميمها. لعل صمودها أمام عاصفة النيترات أظهر الفارق بين ما أنجزته منظومة بناءٍ كانت وما تهدمه منظومة فساد قابضة الآن على مصير البلد، أو لعله تضامن مع صمود اللبنانيين. ولكن…

بعد عامين على الكارثة بدا كأن شرارات غضب المجتمع أشعلت النار في هذا البناء الضخم وبقيت تعسّ فيه لأسابيع، ثم راحت الصوامع تتساقط كما لو أنها يئست من الجدل العقيم حول مصيرها: فمن أراد بقاء الأهراءات وانقاذها لا يملك القرار والإمكانات، أو أنه صاحب قرار لكنه يريد أن يضمن مصلحته قبل اجازة أي مساعدة خارجية. ومن أراد هدمها ليست لديه رؤية مستقبلية للبدائل، بل ربما يبحث عن تقسيمها لتكون هناك أهراءات خاصة لكل طائفة ومذهب، كما هي الحال في السعي الى “تطييف” الكهرباء والماء والدواء والهواء، أو الى تقسيم بلدية العاصمة، ليصبح انفجار المرفأ قاطرة “التقسيم” الذي لم تقوَ الحرب الأهلية على تحقيقه، لكن سرطان الاحتلال الإيراني قادر على تطبيقه بألف وسيلة ووسيلة.

كان لا بدّ من جريمة شبه نووية كهذه لفرض أمر واقع احتلالي على اللبنانيين، فمرفأ بيروت هو المكان الذي كانوا ولا يزالون يلتقون فيه على رغم خلافاتهم، ولا يُراد له أن يعود الى سابق عهده، بل يُراد أن يبقى خرائب. وكما دشّن تفجير رفيق الحريري ورفاقه مسار اغتيالات وإرهاب، وأوقف مسيرة بناء وتنمية، وكشف هُزال العدالة وخواء “دولة القانون”، ودفع بمصير لبنان الى المجهول، فإن المسار الإرهابي نفسه، و”مشروعه”، وجدا في انفجار/ تفجير المرفأ ضالتهما الكبرى. كانت الجريمة الأولى ضربة مباشرة ومبرمجة لإضعاف السُنّة وزعزعة احتمالات الاستقرار، أما الجريمة التالية فأمكن توظيفها لاستضعاف المسيحيين والقضاء على أي بارقة استقرار. وفي الحالين كان “لبنان الكبير”، كما عُرف طوال مئة عام، هو المستهدف.

القتلة ومالكو النيترات والمستفيدون من الجريمة والشركاء والمتواطئون والساكتون، باتوا معروفين، لكن وحشيتهم الفاجرة أقوى من القانون، إذ استطاعوا أن يوقفوا التحقيق وأن يجهروا بتهديدهم للقاضي وأن يستخدموا كل الأساليب القذرة لتعطيل عمل القضاء، فيما أثبتوا تواطؤهم في “انتخاب” المجلس الأعلى لـ (عدم) محاكمة الرؤساء والوزراء كما في امتناع وزير المال عن التوقيع على تشكيل هيئة التمييز. هؤلاء يريدون لذوي الضحايا، للبنانيين، أن ينسوا، أن يتنكروا لأحبائهم، وأن يستسلموا لقدرهم. هؤلاء يريدون فرض الأضاليل على أنها حقائق، فالتغطية التي وفّرها “حزب إيران” لتخزين النيترات لمصلحة نظام دمشق كانت من الواجبات الجهادية لـ “المقاومة”. كلّ ما عدا ذلك يدخل في “ثقافة الملالي” التي ترى الموت، خصوصاً موت الآخرين، أهم من الحياة.

النهار العربي