لم تتوقّف يوماً آلة الحرب العسكرية للنظام السوري وحلفائه، من مليشيات إيرانية وبعض أسراب الطيران الروسي، عن استهداف السكّان السوريين في إدلب والشمال السوري، منذ توقيع الاتفاق البروتوكولي بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في 5 مارس/ آذار 2020، إبان تلك الحرب المفتوحة التي قام بها النظام، ثم متابعته العمل على سياسة الأرض المحروقة المقترحة من الاتحاد الروسي، والتي أنجزها النظام مع بدايات عام 2019 وحتى الأشهر الأولى من عام 2020، والتي أدّت، في حينها، إلى قضم مزيد من الأراضي والبلدات التي كانت تسيطر عليها المعارضة السورية المسلحة، بكل ألوان الطيفين، السياسي والعسكري، ولعل حالة التصعيد العسكري الحالي، والتي ساهم في انطلاقتها اضطراداً نظام بشار حافظ الأسد، خلال الأشهر الأخيرة المنصرمة ضد هذه المناطق المشمولة بالاتفاق المشار إليه، يعتبر بمثابة الاقتراب والانزياح باتجاه إعلان موجة حربٍ جديدةٍ على المعارضة السورية، والاستمرار في سياسة قضم الأراضي، بعد الاستيلاء على مناطق كبيرة مثل معرّة النعمان، وخان شيخون، وسراقب، وكثير من أطراف الريف الحموي في حينها، أي في فترة ما قبل الاتفاق البروتوكولي ذاك.
يتزامن هذا الاستهداف العسكري الجديد مع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة وحرب الإبادة الكبرى المغطّاة أميركياً وغربياً، ضد أهل غزّة، حيث يمارس نظام “الممانعة والمقاومة” المزيد من سياسة التصعيد ضد المدنيين في أريحا وجبل الزاوية وجسر الشغور، وهي مناطق تقع جنوب الخط إم 4 المنوّه عنه، والمشمول بالاتفاق البروتوكولي، ضمن محاولات اقتناص الفرص، من أجل إعادة رسم الخريطة، على طريقة أن المؤقّت لا يمكن ولا يجوز له أن يصبح دائماً، وأن انشغال الدولة التركية في حربها مع إرهاب شمال شرقي سورية (قوات سوريا الديمقراطية) و(حزب العمال الكردستاني) وتوابعهما، وبتغطية واضحة للنظام السوري من الاتحاد الروسي، ودعم مباشر من إيران/ الملالي، حيث تعتقد أطراف النظام أنه يمكن بذلك تحقيق مزيدٍ من الاستيلاء على الأرض، وتوسعة المساحة التي تقع تحت سيطرة جيش النظام ومليشياته، لصالح بسط النفوذ على حساب المعارضة السورية، التي ما زالت هي الأخرى منشغلة بخلافاتها البينية، ومحاصصاتها النفعية البراغماتية، والكثير من أمراض التذرّر والتشظّي الذي أصاب (ليس فقط المعارضة السياسية)، بل أيضاً معظم تشكيلات المعارضة المسلحة، التي ما انفكّت تحاول تسجيل النقاط على بعضها، والاستيلاء على المعابر التي تدرّ أموالاً لخزائنها، ولصالح تموضعاتها العسكرية في الشمال السوري، بعيداً عن سياسات التصدّي الجدّي والفاعل لتغوّل النظام، ثم محاولاته المستمرّة في الانقضاض على غير منطقة في الشمال، وفي غياب حقيقي واضح للدور الأميركي والغربي، المنشغل هو الآخر في حرب أوكرانيا التي باتت تستنزف ليس فقط الاتحاد الروسي، بل كذلك الأوروبيين والأميركان.
التصعيد ضد السوريين المدنيين في الشمال السوري بات حالة يومية تترافق مع كل استهداف إسرائيلي لمواقع ما يسمى (الحرس الثوري الإيراني) والمليشيات التابعة له، ضمن الجغرافيا السورية، من دون قدرة للنظام السوري ولا نية كذلك في الرد على الإسرائيليين الذين باتوا يستبيحون كل المطارات السورية، وكل الأراضي السورية من دون حسيب أو رقيب، وكذلك إحجام نظام بشّار الأسد عن الدخول في أي حربٍ مع إسرائيل، ضمن لعبة التفاهمات والدور الوظيفي، وعبثية فكرة “وحدة الساحات” وشعارها، حيث يُترك الشعب في غزّة وحده، يلاقي الموت والتدمير والتهجير القسري، ويبقى شعار “الصمت الاستراتيجي” الإيراني شاملاً كل متفرّعات محور “الممانعة والمقاومة” ومتعدّداته، وهو الطرح الوحيد الباقي والمستمر في حيزهم السياسي، ليكون رد النظام السوري، مباشرة ومن دون تأخير، على المدنيين السوريين في إدلب وأريافها.
ولعل استمرار سياسات التصعيد العسكري ضد أهالي محافظة إدلب يأتي في ظل استمرار إشاحة الوجه الأميركي إلى أبعد حد، عن حل المسألة السورية، وانشغال الأتراك في حربهم المهمّة لهم ولأمنهم القومي، ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وحزب العمال الكردستاني وأتباعهما، والأهم تمظهر حالات برود في العلاقات التركية الروسية، حيث يجرى تأجيل مواعيد اللقاءات والاجتماعات بين بوتين وأردوغان، ضمن استمرار حالة الشراكة بينهما التي يعتريها، بين الفينة والأخرى، بعض الصدأ، وخلافاتٌ كثيرة في المصالح، في أكثر من مكان، ومن تموضعات مصالح في عديد من الجغرافيات في العالم، منها بالضرورة حالة التنافر في المصالح بينهما في ليبيا، وأيضاً استمرار الخلاف في منحنيات المشكلة الأوكرانية، بالرغم من أهمية الدور التركي هناك والمحبّذ روسياً، وأيضاً ضمن إشكالات حلف الناتو الذي تنتمي إليه تركيا، ولا يبدو أنها بصدد التخلي عنه، لصالح علاقاتها الاقتصادية والسياسية والسياحية الكبرى مع الكرملين، بل لعل الخلاف أيضاً يتمظهر في أهمية تحجيم “قسد” وإبعادها عن الحدود التركية، حيث يلعب كعامل حاسم لا يمكن للدولة التركية العميقة تجاوزه أو ابتلاعه.
يضاف إلى ذلك، عدم الالتزام الروسي بتطبيق اتفاق إدلب، وترك النظام السوري يعبث به حيث يصل فيه الأمر في أكثر من مرة للاعتداء على النقاط التركية العسكرية الموجودة في محافظة إدلب، ومن ثم فشل فكرة الدوريات الروسية التركية المشتركة وتلاشيها منذ سنوات، وهي التي كان قد نصّ عليها اتفاق إدلب بينهما، وبقاء أوضاع ما يحيط بالطريق m 4 على حالها وضمن تعثراته ولا جدواه، ذلك كله حال ويحول دون إنجاز أي اتفاق جديد يساهم في تطوير اتفاق إدلب البروتوكولي وتحديثه، ويسهم في إيجاد المخرج الأفضل لجعل المؤقّت يطول أكثر وأدوم، من دون أن يصبح اتفاقاً دائماً بالضرورة، وهو ما لا يبدو أنه ممكن ضمن السياسات الأميركية والروسية المتنازعة على المصالح في غير مكان من العالم، خصوصاً بعد حرب أوكرانيا وغرق الروس أكثر وأكثر في الوحل الأوكراني العميق.
وتبقى الأسئلة المطروحة سوريّاً وإقليميّاً: إلى متى سيستمر اتفاق إدلب في حالة ترنّح ولا استقرار؟ وهل يمكن أن تضغط الدولة التركية عبر التوافق مع الروس لإنجاز ما يشير إلى بقاء الوضع في الشمال السوري على حاله إلى أمد طويل؟ ثم هل توافق الولايات المتحدة على ذلك باعتباره من الممكن أن يكون المنطلق لإطلاق يد روسيا وتركيا نهائيّاً وكليّاً في الورقة السورية بعد أن تخلت عنها معظم أطراف النظام العربي الرسمي؟ وهل ستدوم طويلاً حالة الاستنقاع هذه في المسألة السورية برمتها؟ كل هذه الأسئلة وما يشبهها ما تزال برسم الواقع المتحرّك في إدلب والشمال السوري والفاعلين فيه، ورهن التغيرات الدراماتيكية الكبرى التي جرت وتجري فصولاً دموية في المحيط الإقليمي، وخصوصاً في فلسطين، والمقتلة المستمرّة في غزّة ضد الشعب الفلسطيني.
العربي الجديد
Be the first to write a comment.