كشاهد عيان، تناول الأستاذ الجامعي زياد ماجد ما شهدته أروقة جامعات عدة من مراسلات وشكاوى تحريضية إلى جانب توتّرات داخل الجسمين التعليمي والطلابي. علاوة على ذلك، بادر أفراد إلى مراقبة حسابات بعض الأساتذة على مواقع التواصل الاجتماعي لرصد كل موقف “غير ملائم”، وفقاً لما قاله ماجد لموقع “درج”.
مع الانقسام الحاد الذي عرفته فرنسا عقب شنّ حركة حماس عملية طوفان الأقصى، علت أصوات كثيرة مندّدة بالتضييق على حرية التعبير ومحاولة فرض رواية موحّدة. الوسط الأكاديمي عانى من هذا التضييق ولو أن الحال تغيرت نسبياً بعد مرور أكثر من 100 يوم على الحرب على غزة.
أكثر من 1550 باحثاً في مختلف المجالات الأكاديمية وقعوا على عريضة، نشرت في 23 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، حملت عنوان “الدفاع عن حرية التعبير حول فلسطين: تحدٍّ أكاديمي”.
الموقعون، من فرنسيين وأجانب مقيمين في فرنسا، نددوا بمناخ “التهديد والتخويف” داخل الجامعات وما يمارس بحقّهم من “قمع” و”رقابة خطيرة” منذ 7 تشرين الأول، لا سيما بعد الرسائل الموجّهة من إدارات الجامعات ومراكز الأبحاث ووزارة التعليم العالي، رسائل تدعو الأساتذة والباحثين الى التبليغ عن أي آراء “غير ملائمة”. العريضة ذكرت تعرض عدد من الأكاديميين إلى إجراءات تأديبية بسبب آرائهم التي حادت عن “الخط الحكومي” إلى جانب اتهام البعض منهم بمعاداة السامية والدفاع عن الإرهاب. وأضاف الموقعون أن “الترهيب” في الوسط الجامعي أدى إلى إلغاء أنشطة علمية،كما دفع بالبعض إلى إجراء رقابة ذاتيّة.
مدير معهد الأبحاث والدراسات المتوسطية والشرق أوسطية جان بول شانيولوه، شرح لموقع “درج”، دوافعه للتوقيع على العريضة. يؤكد أنه لم يتعرض شخصياً لأي تضييق، لكن ردة الفعل الرسمية كانت برأيه غير مقبولة ولا تليق ببلد ديمقراطي، إن لتبسيط الحدث واختزاله “بدولة ديمقراطية تتعرض لتهديد إرهابي” أو لمحاولة فرض قراءة محددة وعدم السماح بالحياد عنها، فكان لا بد من خوض هذه “المعركة الضرورية”.
إلى جانب ما ذكره شانيولوه، تضيف الباحثة في علم الاجتماع إليزابيت لونغونيسسبباً آخر دفعها الى التوقيع على العريضة: التأكيد على استقلالية عمل الباحثين. انحياز فرنسا إلى الجانب الإسرائيلي وما رافقه من مناخ سياسي، عرّض عدداً من الباحثين إلى ضغوطات كما بادر بعضهم إلى ممارسة رقابة ذاتية تجنباً لأي هجوم. برأي لونغونيس، استيعاب السلطات الرسمية لهذه الاستقلالية ضروري لأن الباحثين على درجة عالية من الكفاءة بدليل المعايير الصارمة المفروضة لتعيينهم.
كشاهد عيان، تناول الأستاذ الجامعي زياد ماجد ما شهدته أروقة جامعات عدة من مراسلات وشكاوى تحريضية إلى جانب توتّرات داخل الجسمين التعليمي والطلابي. علاوة على ذلك، بادر أفراد إلى مراقبة حسابات بعض الأساتذة على مواقع التواصل الاجتماعي لرصد كل موقف “غير ملائم”، وفقاً لما قاله ماجد لموقع “درج”.
وأضاف ماجد، الذي وقع بدوره على العريضة، أن أطرافاً موالية لإسرائيل من خارج الوسط التعليمي والأكاديمي، شاركت في تلك الحملة، ما أدى في نهاية المطاف إلى إلغاء الكثير من الأنشطة حتى في جامعات عُرِفت بهويتها اليسارية وبانحيازها الى القضية الفلسطينية مثل Paris 8 و Paris 10. يتوقف ماجد كذلك عند اعتكاف عدد من الأكاديميين عن الظهور الإعلامي لتخلو الساحة لخبراء غير ملمّين بالملف أو أشخاص موالين للسياسة الإسرائيلية، ما حفز هذا الفريق على المضي في استراتيجيته تلك. ترهيب لم تشهده فرنسا سابقاً، وفقاً لماجد، الذي أضاف أن وقع عملية 7 تشرين الأول سمح بهذا “الابتزاز”.
بعد مرور أكثر من 100 يوم على بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، يقول جان بول شانيولوه إن حجم الدمار وأعداد الضحايا أوضحا أن الصراع ليس بالتبسيط الذي تم تصويره. وعليه، تراجع الضغط على الأكاديميين من دون أن يعني ذلك إمكان الحديث عن تغير جذري، بحسب شانيولوه.
رأي يؤيده زياد ماجد، مشيراً الى أن هذا الابتزاز بدأ بالتلاشي أواخر شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، لكن أعياد آخر السنة كما الامتحانات الجامعية في كانون الأول/ ديسمبر، لم تسمح للحالة الاعتراضية بالتبلور. مفاعيل تلك الحالة الاعتراضية ستظهر في منتصف شهر شباط/ فبراير وفقاً لماجد الذي استند في حجته إلى عدد من الأنشطة والندوات التي يُجرى الإعداد لها في جامعات عدة مثل Paris 10 و ENS.
الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا ضد اسرائيل أمام محكمة العدل الدولية انعكست بدورها إيجاباً على المجال الأكاديمي بحسب ماجد، إذ سمحت بتجاوز الخشية من استخدام بعض المصطلحات مثل “الإبادة الجماعية المفترضة”. ومن لا يزال يتوخى الحذر، بإمكانه ذكرها في معرض الإشارة إلى الدعوى المذكورة.
من جملة ما ورد في العريضة أن تلك الممارسات تعيق تقديم “فكر أكاديمي حر” وهو ما أيده الأكاديميون الثلاثة.
من بين الأسباب التي دفعت جان بول شانيولوه إلى توقيع العريضة هي وظيفة الأكاديميين التي تسعى السلطات إلى منعهم من أدائها: “صحيح أن إدانة عملية 7 تشرين الأول ممكنة من زاوية قانونية، لكن الحدث أعقد من ذلك، وهنا تكمن وظيفة الأكاديميين والباحثين لتشريح تلك الصورة المركبة، بخلاف رواية السياسيين المغلوطة والاختزالية”.
تتفق لونغونيس مع زميلها، معتبرة أن دور المتخصصين هو وضع الأمور في سياقها بعيداً من العواطف التي تصور بعض الأحداث وكأنها أتت من فراغ: “فالتفكير النقدي الذي يتحلى به الباحثون لا بد من تجييره لبناء مجتمعات أكثر عدلاً”.
دور الأكاديمي في شرح الظواهر وتحليلها ووضعها في سياق زمني كي لا يبدو أن التاريخ بدأ وانتهى في 7 تشرين الأول، أكده كذلك زياد ماجد: “بوسع الأكاديمي رفع مستوى الوعي عبر الربط بين المعرفة والموقف السياسي. في المقابل، غيابه عن المشهد الحالي يؤدي إلى انحدار مستوى الفهم، لا سيما مع الاستهلاك السريع للمعلومة الذي توفره نشرات الأخبار القصيرة والمنصات الافتراضية مثل “تيك توك”، خاصة لاستخدامها بعض المصطلحات بشكل عشوائي”. وعلى الرغم من المسافة العاطفية التي يجب أن يأخذها الأكاديمي، لكن الواقع لا ينفي الالتزام الأخلاقي والإنساني، بحسب ماجد.
الترهيب الذي واجهه الأكاديميون لم يبدأ في 7 تشرين الأول. برأي لونغونيس، جنوح المجتمع الفرنسي باتجاه اليمين خلق مناخاً عاماً في البلاد تحولت معه المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلى صراعات أيديولوجية. تستعيد لونغونيس تصريحات لرئيس الوزراء الفرنسي الأسبق مانويل فالس، اتهم فيها المثقفين بتبرير الأعمال الإرهابية ونشاط الجهاديين لمجرد محاولتهم فهم واستيعاب وشرح الظروف الاجتماعية والثقافية المحيطة بهذا العنف. تعتبر لونغونيس أن عواقب هذا التوجه يتمثل في إعاقة أي نقاش عقلاني وعدم السماح بطرح الأسئلة المناسبة، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى اتخاذ السلطات قرارات من دون تبيان مسبق لنتائجها.
من جهته، توقف زياد ماجد، عند تصريح لوزيرة التعليم العالي فريدريك فيدال يعود الىى العام 2021 ، طالبت فيه بإجراء تحقيق لتبيان الأبحاث الأكاديمية ذات الميول “اليسارية الإسلامية”. في حينها، علت أصوات معترضة في الوسط الأكاديمي لكون هذا المصطلح سياسياً بحتاً ولا أساس أكاديمي له، ليعتبر البعض أن الغاية هي التضييق على الأكاديميين المتخصصين في دراسات “ما بعد الاستعمارية”. بالتالي، الملف الفلسطيني ليس بمعزل عن هذا المناخ.
يشرح ماجد أن الحرية الأكاديمية (النشر، القراءة، النقد، التعليم المنهجي) متجذرة في تاريخ فرنسا، وقامت على هدم المحرمات، وحظر تناول أية قضية أو فرض رقابة هو مسّ بالتفكير النقدي وبثقافة البحث العلمي.
يختم جان بول شانيولوه حديثه لموقع “درج” بالقول: “على الجامعة أن تبقى صرحاً يتمتع بالحرية. فالجامعة الحرة تشكل أحد أوجه الديمقراطية، وفرض ضوابط من أي نوع مسألة خطيرة وغير مقبولة وتُفقِد الجامعة فلسفتها الوجودية”.
درج ميديا
Be the first to write a comment.