انتصرت حركة طالبان نصرا مؤزرا على الاحتلال الأميركي لأفغانستان، بعد حرب استنزاف دامت عقدين من الزمان، اتّسمت فيها الحركة بالصلابة السياسية والبسالة العسكرية، وحافظت على وحدتها وتماسكها في بلد اشتهر بالتشظي السياسي والعسكري. وبهذا النصر المؤزر انطوت صفحة الغزو الأميركي الغاشم، الذي جاء كردة فعل غاضبة، تفجّرت في نفوس القادة الأميركيين بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، دون اعتبار لمحنة الشعب الأفغاني الناتجة عن الحرب، أو انتباه للمآلات الإستراتيجية المترتبة على التورط في صراع بقلب آسيا، على تخوم الغريمين الدوليين للولايات المتحدة؛ روسيا والصين. وقد كانت الولايات المتحدة قادرة على التعاطي مع تنظيم القاعدة بعيدا عن ردود الفعل الهمجية الكاسحة التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأفغان والعراقيين.
وقد وفرت المبادرة القطرية بالجمع بين حركة طالبان والحكومة الأميركية مساحة مفيدة للطرفين، ضمنت للأميركيين خروجا آمنا من أفغانستان بعد أن أصبح شعارهم قول امرؤ القيس “رضيتُ من الغنيمة بالإياب”، فخرجوا من أفغانستان دون أن يتكبدوا الخسائر المترتبة على الانسحاب تحت النار. كما وفرت لطالبان فرصة الرجوع إلى المشهد السياسي الأفغاني دون كلفة فادحة من الدم، بعد أن أصبحت السلطة المدعومة أميركيا على شفا السقوط. وبذلك قدمت دولة قطر خدمة جليلة للشعب الأفغاني، حين أسهمت في تجنيبه حربا أهلية طاحنة على السلطة تصاحب عودة طالبان، مثل الحرب الأهلية التي صاحبت صعودها الأول منتصف التسعينيات. لكن النصر العسكري والتصدر السياسي مجرد بداية، والتحدي الحقيقي يبدأ الآن حين تمسك طالبان بمفاصل الشأن العام في أفغانستان. فهل تغيرت طالبان واستخلصت دروس الماضي المرير؟ وهل هي مدركة للتحولات العميقة التي طرأت على الجغرافيا السياسية العالمية خلال الـ20 سنة الماضية؟
يقدم الأستاذ فهمي هويدي في كتابه الماتع “طالبان: جند الله في المعركة الغلط” الصادر عام 2001 والدكتور أحمد زيدان في كتابه “صيف أفغانستان الطويل من الجهاد إلى الإمارة” الصادر هذا العام؛ صورتين متناقضتين عن حركة طالبان الأفغانية. وليس كلّ من الرجلين بمتَّهم، إذ كلاهما ينطلق من منظور إسلامي، ويحمل حبا عميقا للشعب الأفغاني، وإشفاقا عليه من المحنة الطويلة التي يعيشها. وكلاهما يقدّر لهذا الشعب الأبي بسالته الحربية، وعزّته الإسلامية، على نحو ما عبّر عنه شكيب أرسلان في قوله الذي نقله هويدي في كتابه “لو لم يبق للإسلام في الدنيا عِرق ينبض، لرأيتَ عرقه بين سكان جبال الهملايا والهندكوش نابضا، وعزمه هناك ناهضا”.
أما الأستاذ هويدي فقد قدَّم لقرائه نقدا عميقا لطالبان في عام 2001، قبل هجمات 11 سبتمبر/أيلول بشهور، وهو نقد نابع من تعاطف قلبي، وحرص صادق على تسديد التجربة، وخوف على صورة الإسلام ومكانته بين العالمين من آثار الشطط الذي صاحب تلك التجربة. فأخذ هويدي على طالبان الفوضى في إدارة الدولة، حيث “لا رئيس ولا مرؤوس”، والسطحية التسلّطية في هندسة المجتمع، حيث أصبح “ثمة لحية لكل مواطن، وشودري لكل مواطنة”، وجاء في الأوامر الملزمة الصادرة عن قيادة الحركة أنه “يُمنع إطلاق الشّعر على الطريقة الإنكليزية والأميركية”. كما أخذ عليهم سذاجتهم في فهم عالم السياسة وسياسة العالم، فقد حسبوا أن “معرفتهم بالعلوم الشرعية توفّر لهم مرجعية وخلفية تمكّنهم من تبيان حدود الخطأ والصواب في (جميع) مجالات النشاط الإنساني”.
وقد لخص هويدي في ختام كتابه تقييمه لتجربة طالبان في قوله إن “طالبان أثبتوا نجاحا نسبيا في إزهاق الباطل، لكنهم فشلوا في إحقاق الحق”، ولذلك “لم يبنوا فوق أنقاض الماضي شيئا ذا قيمة، يشرّف الإٍسلام والمسلمين”، وقدَّم خلاصة معبّرة وهي أن “التجربة (الطالبانية) تظل مفيدة للغاية، من حيث إنها تقدّم لنا نموذجا للكثير مما ينبغي الحذر منه وتجنُّبه في التطبيق الإسلامي”.
ومع ذلك لم يُغفل الأستاذ فهمي هويدي أن يفضح النفاق الغربي والازداوجية الدولية في تعاطيها مع قضايا الإنسان والإنسانية في أفغانستان، حيث وصف كثيرا من الأصوات المندِّدة بطالبان بأنها أصوات قوم منافقين، يدافعون عن “تراث الإنسانية” وهم “مجرمون في حق الإنسانية ذاتها”. وقد رأينا في مطار كابل خلال الأيام الماضية مشاهد متجددة من ذلك النفاق الغربي، والاستهتار بحياة الأفغان، واسترخاص حياتهم.
لكن الدكتور أحمد زيدان في كتابه الجديد والماتع أيضا “صيف أفغانستان الطويل” يقدم صورة مختلفة لطالبان اليوم عن صورتها القديمة التي تناولها فهمي هويدي في كتابه. ففي كتاب الدكتور زيدان ملاحظات مهمة عن التحولات التي طرأت على الحركة خلال الـ20 سنة الماضية “إن كان من حيث الممارسة العسكرية، أو من حيث السوك السياسي والإعلامي، وحتى الممارسة الاجتماعية”، وهو يرى أن “تعامل حركة طالبان مع الحاضنة الاجتماعية قد تغير كثيرا… لقد تغيرت طالبان كثيرا”. ويصف زيدان هذه التحولات في سيرة طالبان ومسيرتها بأنها “زلزال في ذهنية الحركة وممارساتها”.
وأتمنى أن تكون حركة طالبان قد تجاوزت المساوئ التي فصَّلها الأستاذ هويدي، وأن تكون قد تعلّمت بعد أن تألّمت. كما أتمنى أن يكون الدكتور زيدان مصيبا في تقييمه المتفائل لمن دعاهم “الطالبان الجدد”، فالجميع يتعلَّم، لكن الأذكياء يتعلمون بالحبر الأسود، والبلداء يتعلمون بالحبر الأحمر. والأهم من ذلك أن العالم تغيَّر كثيرا، وعلى طالبان أن تتغير بحق. فما طرأ على أفغانستان وعلى العالم خلال العقدين الأخيرين من أحداث جسام وتحولات عميقة يستدعي من طالبان أن تغير فكرها ومسالكها السياسية، لكي تكون فرحة التحرير من الاحتلال الأميركي الغاشم بداية تعاف للشعب الأفغاني الأبيّ من معاناته الطويلة. وإلا فإن صعودها الجديد إلى حكم أفغانستان قد يتحول -لا قدر الله- إلى مأساة متجددة، وخصم جديد من عمر هذا الشعب المسلم الذي عانى طويلا من ويلات الحرب والدمار.
ولا يختلف أهل النظر الإستراتيجي في أن أعظم تغيير في موازين القوة الدولية اليوم هو صعود الصين، وتحوُّلها من عملاق اقتصادي خامل إلى قوة دولية ذي طموحات عسكرية وسياسية. ويمكن القول إن القيادة الصينية كانت مستوعبة تماما لمعادلة العلاقة بين “القوى الصاعدة” و”القوى السائدة”. فقد أدركت أنها باعتبارها قوة صاعدة تحتاج إلى البناء والتمدد بهدوء، تجنبا لصراعات سابقة لأوانها قد تؤدي إلى وأد قوَّتها، أو تعويق مسيرتها. وقد استغلت الصين انشغال خصومها الأميركيين في حروب استنزاف عبثية في الشرق الأوسط، واستغراقهم في أوهامهم الإمبراطورية، وهي أوهام موروثة عن الماضي الاستعماري الأوروبي قد أكل الدهر عليها وشرب. ولم تصح أميركا من حربها في أفغانستان والعراق ومناوشاتها مع روسيا في أوروبا الشرقية، حتى أصبحت الصين تمسك بمفاتيح الاقتصاد العالمي، وتترجم ذلك إلى رأسمال سياسي ونفوذ عسكري في مواطن النفوذ الأميركي التقليدية، سواء البحري منها مثل بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي والمحيط الهندي، أو البري منها مثل غرب آسيا والشرق الأوسط.
ويبدو أن تحولات النظام الدولي خلال العقدين الأخيرين هي التي تفسّر الفرار الأميركي السريع من أفغانستان، دون أية محاولة لترتيب الوضع الأفغاني الداخلي، أو اهتمام بحلفائها المحليين الذين وصلوا إلى السلطة على ظهور الدبابات الأميركية وتحت مظلة القصف الأميركي. فقد شهدت السنوات الـ20 المنصرمة تحولات عميقة في ميزان النظام الدولي، وتغير الكثير من المعطيات الإستراتيجية في آسيا والعالم، مما جعل الأميركيين يعيدون حساباتهم بشكل جذري، ويسعون إلى مراجعة إستراتيجيتهم الدولية بشكل عام، والآسيوية بشكل خاص. وفي هذا السياق تحديدا جاء الانسحاب الأميركي من أفغانستان متعجلا ومرتبكا. وهو الانسحاب الذي ترك فراغا إستراتيجيا، ستسعى قوى إقليمية ودولية عديدة إلى ملئه، أهمها الصين وروسيا، وباكستان وإيران وتركيا.
الصينيون يتنفسون الصعداء اليوم بابتعاد الأميركيين عن خاصرتهم البرية الغربية، وسيتفرغون أكثر لمواجهة أميركا في نطاقهم البحري، خصوصا في بحر جنوب الصين. ولعلهم سيبدؤون التخطيط لجعل أفغانستان -بثرواتها الطبيعية المهدرة- جزءا من زحفهم الاقتصادي غربا، ذلك الزحف الذي رأينا ملامحه من قبل في البنية التحتية الهائلة التي يؤسسونها في قلب باكستان وسواحلها، وفي دول وسط آسيا بشكل عام، كما رأيناه في الاتفاق الإستراتيجي بين الصين وإيران الذي يفتح الباب أمام الصين للنفاذ المباشر إلى منطقة الخليج وطاقتها.
الروس سعداء بالهزيمة الأميركية في أفغانستان، وابتعادهم عن الخاصرة الجنوبية لروسيا، وإن كانوا يتمنون أن يظل الأميركيون مستنزَفين هناك، ومنشغلين عن مواجهة روسيا في جبهات أخرى، خصوصا في شرق أوروبا. وقد نقل أحمد زيدان في كتابه “صيف أفغانستان الطويل” عن بوتين قوله مرة “نشكر الولايات المتحدة وقوات الناتو على أخذهم (تحملهم) عبء مكافحة الإرهاب في أفغانستان، ونتمنى أو يواصلوا ذلك إلى النهاية”. لكن حكم طالبان يفتح على الروس بعض التحديات، خصوصا مع إصرار بوتين على إرجاع دول آسيا الوسطى التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي إلى الحضن الروسي.
الباكستانيون هم أكثر الناس سعادة بعودة أفغانستان إلى الصدارة، بل هم ليسوا بعيدين عن الاشتراك العملي في تلك العودة، إذ طالبان كانت -ولا تزال- امتدادا إستراتيجيا لباكستان داخل أفغانستان. وقد وقعت الحكومة الأفغانية التي ظهرت تحت الرعاية الأميركية خلال العقدين الأخيرين في الكثير من الفجاجة والغباء السياسي في تعاملها مع باكستان، وانحاز بعضها انحيازا مشينا ضد باكستان لصالح غريمها التاريخي الهند، انتهازية وتقربا للأميركيين. فصعود طالبان الجديد يخدم باكستان، ويفتح أمامها فرصة جديدة لترسيخ نفوذها الإقليمي في آسيا الوسطى، وتوثيق حلفها الإستراتيجي مع الصين.
الأتراك شديدو الاهتمام بالمشاركة في ملء الفراغ الإستراتيجي في أفغانستان. فرغم أن تركيا بعيدة جغرافيا عن أفغانستان؛ فإن توجهها شرقا في الأعوام الأخيرة أصبح واضحا للعيان. ويشمل هذا التوجه إحياء الأرحام التاريخية مع شعوب وسط آسيا ذات الجذور التركية، من الأذريين والأوزبك والقرغيز والكازاخ، وغيرهم. كما يشمل هذا التوجه توثيق العرى مع الشعوب الإسلامية بشكل عام، والاستفادة من ثروات الطاقة في آسيا الوسطى. وقد دخلت تركيا فيما يشبه الحلف الإستراتيجي مع باكستان في الأعوام الأخيرة، وتعتبر أفغانستان بوابة مهمة لها إلى دول وسط آسيا. ولدى تركيا الخبرة والإرادة للإسهام الجدي في إعادة إعمار أفغانستان ولملمة جراحها.
الإيرانيون فرحون برحيل الأميركيين عن خاصرتهم الشرقية، وهم يعتبرون ذلك تخفيفا للطوق الذي فرضته عليهم الولايات المتحدة في البر والبحر. ورغم التباين الأيديولوجي بين النظامين الإيراني والطالباني، فإن لكل منهما مصلحة في التعايش مع الآخر في المدى القريب على الأقل. كما أن كلا منهما يستطيع أن يؤذي الآخر إذا لم يتعايشا بالمعروف. وربما يساعد على التعايش بين طالبان وإيران أن كلا منهما يحتاج الارتباط بعلاقة طيبة مع الصين وباكستان، وهذا ما يجعل البيئة الإستراتيجية المحيطة بهما مرجّحة لمسار التعايش بينهما.
فهل تدرك حركة طالبان ضرورة التعامل مع القوى الاجتماعية الداخلية بسماحة واتساع باع، وبما حضَّ عليه القرآن الكريم من الحكمة والموعظة الحسنة، بعيدا عن الوصاية الدينية والقهر السياسي؟ وهل تفهم الحركة ضرورة توسيع قاعدة حكمها ليكون أكثر تمثيلا للشعب الأفغاني بمختلف أطيافه، وأكثر تحقيقا لمعاني الشورى والعدل، وهو الشرط اللازم لتحويل الانتصار إلى استقرار، لا مجرد تبدل عابر في موازين القوى؟ وهل تدرك طالبان أن الشعب الأفغاني يحتاج اليوم إلى من يبلسم جراحه ويجدد في نفوسه الأمل، ويكون قدوة له في النزاهة وخدمة المجتمع، أكثر مما يحتاج إلى من يفرض عليه منظوره للقيم والأخلاق من أعلى بالقوة والقهر؟ وهل الحركة قادرة على رؤية الثغرات التي انفتحت أمامها وأمام أفغانستان في المنظومة الدولية، وعلى حسن استغلال هذه الثغرات لإبعاد قوى الشر والطمع الدولي عن بلادها، وبناء مساحات مشتركة مع الجميع بما يخدم الشعب الأفغاني الجريح؟ أسئلة لا أملك عليها جوابا، لكن الأيام ستجيب عليها من دون ريب في المستقبل الآتي.
وتوجد مؤشرات تبعث على الأمل في خطاب طالبان الجديدة، خصوصا في المعاملة السمحة مع فلول النظام السياسي المنهار، والحاسَّة الدبلوماسية التي تتعامل بها مع القوى الخارجية. كما ظهرت مؤشرات أخرى تدل على أن الحركة لا تزال فقيرة في مجال الفقه السياسي الإسلامي، خصوصا في موقفها من الديمقراطية، ونظرتها الاختزالية لمفهوم الحكم السياسي الإسلامي. لكن الوقائع العملية هي التي ستقطع الشك باليقين في الأسابيع والشهور القادمة.
لقد برهن الأفغان دائما على بسالتهم الحربية، وعزّتهم الإيمانية، وقدرتهم على صد أي عدو طارق؛ لكنهم لم يبرهنوا حتى الآن على حنكتهم السياسية، وقدرتهم على إدارة السلم بحكمة وتعايش وتوافق. وأتمنى أن يكون رحيل الاحتلال الأميركي فاتحة تفكير سياسي جديد، يناسب جسامة التضحيات، ويوقف معاناة هذا الشعب المسلم الأبيّ، الذي لا يعطي الدنيّة في دينه أو أرضه أو عِرضه.
Be the first to write a comment.