في السودان يتضح يوما بعد يوم أن طرفي الاقتتال الحالي لا يريان من حل سوى الحسم العسكري وإنزال الهزيمة بالطرف الآخر. لهذا لم تصمد الهدن المتتالية إلا قليلا إذ يحاول خلالها كل من الجيش وقوات الدعم السريع استغلالها لدعم مواقعهما والاستعداد للجولة المقبلة من المعارك ليس إلا.
دلالة الحسم العسكري في الحالة السودانية يختلف حسب مآل المعركة الحالية، إذا قدّر لها أن تستمر أكثر وإذا كتب لها أن تنتهي فعلا بغالب ومغلوب، ذلك أن انتصار الجيش سيقرأ على أنه انتصار للدولة السودانية في حين سيقرأ انتصار الدعم السريع على أنه انتصار للخروج عنها، مع أن كلا من عبد الفتاح البرهان ومحمد حميدتي لا يبدوان، على الأقل كما يوحي بذلك المشهد الحالي، معنيين بالدولة بقدر حرصهما على شخصيهما، على حساب أي شيء آخر، ولو كان سقوط كامل البيت على رؤوس قاطنيه.
الايمان بالحسم العسكري، في صراعات داخلية عديدة، طريقا وحيدا لـ«الخلاص» لم يكن في ساحتنا العربية شأنا سودانيا بالتأكيد، فقد تبنته وعملت به أكثر من دولة، في ظروف وسياقات تاريخية متباينة طبعا وبنجاعة متفاوتة وبنتائج على الأرض مختلفة. عمدت إليه الجزائر في تسعينيات القرن الماضي حيث سعت طوال تلك «العشرية الحمراء» إلى القضاء على جماعات إسلامية مسلحة ناصبت الدولة العداء وارتكبت الكثير من الأعمال الإرهابية، التي تخللت بعضها نقاط استفهام حائرة حول حقيقة مجرياتها ومن وقف فعلا وراءها، وانتهت تلك المنازلة، على كل، بانتصار الدولة ودخولها مرحلة مصالحة واسعة مع الراحل عبد العزيز بوتفليقة.
جرب هذا الخيار كذلك في ما عرف بحرب الانفصال في اليمن عام 1994 بين شماله وجنوبه والتي انتهت بتكريس الراحل علي عبد الله صالح الوحدة بينهما بالقوة بتكلفة دمار لا تقاس طبعا بما حصل في سوريا منذ 2011 والتي آلت، بفعل قمع وحشي لا مثيل له من قبل بشار الأسد وصل حد استعمال السلاح الكيميائي ضد المدنيين، إلى عكس ما آل إليه اليمن وقتها، أي بتقسيم عملي للبلد وجعله ساحة يرتع فيها الروس والإيرانيون والأتراك والأمريكيون، فضلا طبعا عن الإسرائيليين والتنظيمات المتطرفة من كل حدب وصوب.
خيار سعت إليه كذلك الأطراف الليبية المتصارعة فما أفلح أي منها، رغم دك العاصمة بالطيران ودخول أطراف خارجية مع هذا الطرف أو ذاك. وكان أن هدأت الأمور في النهاية ولكن بتقسيم فعلي للبلاد بين شرق وغرب وتعثر في الحل السياسي الجامع رغم تتالي الوسطاء الدوليين دون نجاح.
الحلول السياسية تحيل إلى مفردة أخرى مختلفة تماما، وإن كانت على وزن الحسم العسكري، وهي الحسم السياسي التي لا يُعرف لها تداول يذكر في لغة الأخبار والشأن العام. وإن كان الحسم الأول لا يتطلب سوى قوة نيران سواء جاءت من رشاشات أو دبابات وطيران (نعم طيران في صراع داخلي) فإن الحسم السياسي يحتاج إلى ما هو أصعب بكثير وهو رجاحة العقل والتفكير السليم، وتغليب الاستراتيجي على الظرفي، والمؤقت على الدائم، مع إعطاء الأولوية الدائمة لمصلحة البلد الحقيقية، وليس كما يراها المتشدقون بها في الحكم والتي لا تعني في الغالب سوى مصلحتهم الشخصية هم ليس أكثر.
البعض في البلاد العربية توصل فعلا إلى «حل سياسي» ولكن على طريقته الخاصة، التي لا تضمن له بالضرورة الديمومة، والذي ظلت تلاحقه دائما لعنة الشرعية المفقودة أو المهزوزة كما حصل في مصر مع عبد الفتاح السيسي واليمن مع الحوثيين وتونس مع قيس سعيّد. في كل هذه الحالات تم اللجوء إلى القوة، بدرجات مختلفة بطبيعة الحال، لفرض حل بعينه يفتقر إلى الإجماع بحيث لا يمثل حلا على المدى البعيد، حتى وإن بدت الأمور مستقرة لكن ما هو بالاستقرار المٌوحي بالطمأنينة التي يمثل الإيمان الوطني الواسع بها قلبها النابض.
في مصر قلَب العسكر الطاولة على الحكم المدني المنتخب متدثرين باستياء شعبي كبير، حقيقي ومصطنع في ذات الوقت، وفي اليمن خرج الحوثيون على ما اتفقوا عليه مع باقي الفرقاء ورأوا من الأنسب أن يستأثروا بالجمل بما حمل، أما في تونس فقد شهدت وضعا غير مسبوق في العرف السياسي وهو انقلاب الرئيس على المسار الدستوري، الذي جاء به هو نفسه إلى الحكم، فلم يجد بعض الإعلام الغربي ما يوصف به هذا النشاز سوى عبارة «المرور بالقوة» أو الانقلاب الدستوري».
الحسم السياسي الحقيقي لا يمكن أن يكون انفراديا، ولا أن يستمد شرعيته من لجوء الحاكم إلى القوة لصلب عوده، وإنما يقوم على قناعة مجتمعية عامة تبنى بالحوار والتفاهم بين كل القوى السياسية وقوى المجتمع المدني المختلفة ونخبه المتعددة المشارب، على أن يُسند ذلك كله ويُتوج بشرعية صناديق الاقتراع التي تحسم كل شيء في النهاية، مع قناعة تترسخ تدريجيا بين الناس والقوى السياسية، وهي التداول السلمي على السلطة، وعدا ذلك عبث في عبث.
القدس العربي
Be the first to write a comment.