من حين إلى آخر، تتصدر أخبار الجرائم الفردية التي ترتكب من قبل أشخاص من المهاجرين في عدد من الدول الأوروبية، كما حدث في مدينة زولينغن بألمانيا؛ أو ترتكب باسمهم، كما حدث في مدينة ساوثبورت ببريطانيا؛ الأمر الذي يؤدي إلى توتر الأجواء، وتكوّن رأي عام ضاغط مناهض لفتح الحدود أمام المزيد من المهاجرين. بل تتعالى الأصوات من جانب الأحزاب والجماعات الأوروبية اليمينية المتطرفة، تطالب بإعادة اللاجئين والمهاجرين إلى أوطانهم بالقوة، أو مقابل مساعدات نقدية. وهناك من يطالب بسحب الجنسية من المهاجرين، وإعادتهم إلى بلدانهم إذا ارتكبوا جرائم كبرى تخل بالنظام والأمن في المجتمعات التي انتقلوا إليها.

واللافت أن الجريمة الأولى من الجريميتن المذكورتين ارتكبت في ألمانيا، وتبناها تنظيم داعش، وهو الكوكتيل المخابراتي الذي يظهر ويختفي وفق الظروف. بينما كانت الجريمة الثانية في بريطانيا، وراح ضحيتها ثلاثة أطفال، وألصقت التهمة بالمهاجرين المسلمين؛ ولكن سرعان ما تبين أن الإتهام يفتقر إلى أي أسس.

ومن المعروف أن بريطانيا تعد واحدة من أكثر الدول الأوروبية خبرة واستيعاباً في ميدان التعامل مع المسلمين ومعتنقي الأديان الأخرى؛ ومع أبناء القوميات من مختلف المجتمعات التي كانت في يوم ما خاضعة للامبراطورية البريطانية.

هذا في حين أن ألمانيا كانت الدولة التي استقبلت العدد الأكبر من المهاجرين واللاجئين في السنوات الأخيرة، لا سيما عام 2015 حينما استقبلت نحو مليون لاجئ سوري إلى جانب الأفغان والأفارقة، ومن بقية المناطق في العالم التي تعاني من الأزمات المعيشية والبيئية والصراعات البينية والحروب.

وما يستنتج مما تقدم هو وجود قوى تريد تفجير الأوضاع ضمن المجتمعات الأوروبية التي عُرفت بتسامحها، وبمساعيها الدائمة لادماج القادمين الجدد؛ وذلك عبر تأمين فرص التعليم والعمل أمامهم، خاصة الشباب منهم. وليس سراً أن هذه السياسة الأوروبية، إلى جانب أبعادها الإنسانية، لها جوانبها العملية المفيدة لصالح المجتمعات الأوروبية ذاتها. فالهجرة تساهم في تجديد هذه المجتمعات، وتنقذها من الترهل ومن آفات المجتمعات الهرمة التي تعاني اليوم من مخاطر كبرى تهدد مستقبلها وقدراتها على المنافسة، وعجزها عن تلبية موجبات التقدم. كما هو الحال في اليابان والصين على سبيل المثال، وحتى في بعض الدول الأوروبية التي سدت الأبواب أمام المهاجرين من جهة، وعزوف شبابها من جهة أخرى عن الزواج بفعل عوامل عدة منها: ارتفاع تكاليف تربية الأطفال، والرغبة في تحقيق مستقبل وظيفي ناجح، بالإضافة إلى انتشار ثقافة شبابية خلاصتها الاهتمام بالذات، وعدم تحمّل مسؤولية الآخرين…الخ.

ولكن على الجانب الآخر الخاص بالمهاجرين، لا بد من التوقف هنا عند ظاهرة ارتفاع مستوى الجرائم، خاصة تلك المتمحورة حول تجارة الممنوعات مثل المخدرات والأسلحة، وهي جرائم تتسبب في مقتل الشباب واليافعين بصورة شبه يومية نتيجة الصراعات حول مناطق الترويج والتسويق، وتصفية الحسابات بين المنتقمين في عالم العصابات. ومن المعروف أن هذه الجرائم تتسبب في الكثير من المآسي للأسر المنكوبة؛ كما أنها تكلف المجتمع مبالغ باهظة، تشمل نفقات الحماية والإجراءات القضائية، وتوفير أماكن رعاية وإصلاح اليافعين من الضحايا، وتنفيذ عقوبات السجن للبالغين. هذا بالإضافة إلى استخدام التقنيات الحديثة التي تساعد في عملية جمع المعلومات حول المجرمين، والوصول إليهم، سواء عبر مراقبة الاتصالات وتركيب الكاميرات، أم عن طريق حواجز التفتيش الدائمة والطارئة، ومراقبة الحدود؛ وكل ذلك استوجب تعديل القوانين القديمة، وسن أخرى جديدة.

وقد أصبح موضوع انتشار الجريمة بين المهاجرين بندأ أساسياً ضمن برامج الأحزب اليمينية المتطرفة الانتخابية التي تدعو إلى إغلاق الأبواب أمام المهاجرين، خاصة المسلمين.

ومن بين التهم التي يوجهها اليمين المتطرف في مختلف الدول الأوروبية إلى المهاجرين القادمين من الدول الإسلامية أنهم لا يرغبون في العمل، ويعيشون على المساعدات الاجتماعية.

هذه التهم التي تأتي من جانب اليمين الأوروبي المتطرف لا تأتي من الفراغ بكل أسف. فالجريمة المنظمة باتت جزءاً من المألوف اليومي بين أوساط المهاجرين؛ أما ثقافة العزوف عن العمل، أو التوجه نحو الأعمال غير المسجلة بموجب القوانين، (الأعمال السوداء) التي لا يدفع أصحابها الضرائب المستحقة فقد باتت منتشرة. وهي تؤثر على المجتمع، ولكنها تنعكس في الوقت عينه سلباً على المهاجرين أنفسهم من جهة عدم حصولهم على التقاعد الوظيفي المناسب، كما تؤثر سلبا في نفسيات أبنائهم، وتغرس فيهم قيماً وأفكاراً غير سليمة تحول دون اندماجهم بصورة متوازنة في مجتمعهاتهم الجديدة.

وربما من المناسب هنا أن نلفت الانتباه إلى واقع اخفاق الجمعيات والمؤسسات الخاصة بالمهاجرين الوافدين من الدول الإسلامية في القيام بمهامها على صعيد توعية الشباب، وتوجيههم نحو المسالك الصحيحة التي تمكّنهم من التفاعل مع المجتمعات الأوروبية بصورة طبيعية سليمة. بل إن الكثير من هذه الجمعيات والمؤسسات باتت ميداناً للارتزاق، والمنافسة الطاحنة بين أعضائها؛ الأمر الذي يسيء إلى سمعتها، ويعمق الشروخ ويوسعها بين المنتمين إليها، ويترك آثاراً سلبية في نفسية وتصورات الجيل الشاب من المهاجرين، ويعطى المزيد من الحجج للقوى اليمينة المتطرفة لتطالب بالمزيد من التشدد في التعامل مع الهيئات المعنية، وخفض كمية المساعدات التي تحصل عليها من الحكومة إلى أدنى حد ممكن، بل ومراقبتها، وإغلاقها بموجب القوانين السارية إذا ما تم التأكد من مساهمتها في نشر الفكر المتطرف.

العلاقة بين المجتمعات الأوروبية وتلك التي باتت تعرف اليوم بالإسلامية سواء في آسيا أم في أفريقيا هي علاقة قديمة مستمرة، تعود إلى مراحل ما قبل الميلاد وقبل الإسلام. وقد استمرت تلك العلاقة بعد ظهور المسيحية والإسلام؛ واتخذت طرقاً مختلفة منها التواصل والتفاعل الحضاريين، ومنها التجارة، ومنها الحروب ومحاولات الهيمنة منذ حملات الافرنجة (الصليبية)، مروراً بالمرحلة العثمانية، وصولاً إلى مرحلة الاستعمار الأوروبي الحديث قبل وبعد الحرب العالمية الأولى.

وهذه العلاقة ستستمر مستقبلاً بفعل الاعتبارات الجيوسياسية، ونتيجة وجود نحو 50 مليون مسلم في أوروبا، ويشمل هذا الرقم المسلمين من الأوروبيين أنفسهم، خاصة في منطقة البلقان وروسيا والقسم الأوروبي من تركيا؛ كما يشمل المهاجرين المسلمين الجدد الذين بدأوا بالوصول لأسباب مختلفة، منها البحث عن العمل والفرص، ومنها الصراعات الداخلية في مختلف المجتمعات الإسلامية، إلى مختلف الدول الأوروبية منذ أوائل ستينات القرن المنصرم.

ومع اخفاقات ثورات الربيع العربي بفعل توحش السلطات الاستبدادية، وحصولها في الوقت ذاته على دعم كبير من الأنظمة المستبدة الإقليمية والدولية التي لم تجد مصلحة لها في نجاح الثورات المعنية، بل كانت تخشى انتقال تأثيراتها إلى دوخلها، توجهت قوافل كبيرة من المهاجرين إلى مختلف الدول الأوروبية، الأمر الذي أثار ذعر السياسيين الأوروبيين من مختلف الأحزاب السياسية. فكان التوافق على التشدد في موضوع الهجرة عبر تعقيد الإجراءات الخاصة بالحصول على الإقامة سواء المؤقتة أم الدائمة، أو لمّ الشمل، وفرض شروط صارمة لمنح الجنسية من بينها إلزام المهاجرين بالدراسة والعمل. وقد أدى كل ذلك إلى خفض عدد القادمين، ولكنه لم يحل المشكلة بصورة جذرية، لأن المعالجات كانت، وما زالت، عرضية، ولم تنتقل إلى مستوى معالجة الأسباب الحقيقية للهجرة. فما يدفع الناس لترك أوطانهم ومجتمعاتهم، وتحمّل مخاطر الطريق وتحمل عذاباته، والصبر على ظروف الإذلال والتنمّر في المجتمعات الجديدة التي يجهلون ثقافتها ولغتها، ليبدأوا من الصفر، يتمثل في وصولهم إلى الشعور باستحالة الاستمرار نتيجة الاستبداد والفساد الشمولي في مجتمعاتهم الأم. وكل ذلك يؤدي إلى انعدام الحريات، وغياب المساواة وفقدان العدالة.

لقد كانت الفرصة متاحة أمام أوروبا بفضل ثورات الربيع العربي أن تقدم المساعدة لشعوب تلك البلدان لتمكينها من القطع مع أنظمة الاستبداد، والبدء بعمليات الدمقرطة؛ الأمر الذي كان سيفتح الآفاق أمام الاستقرار والتنمية، ويمكّن المجتمعات المعنية لتتحول إلى عنصر منتج، يساهم في عملية التحاور والتمازج الحضاريين مع العالم بصورة عامة، ومع أوروبا على وجه التحديد بحكم الجوار الجغرافي، والإرث التاريخي، والفهم المتبادل، والثقافة المشتركة بين شعوب ضفتي المتوسط، والجدير بالذكر هنا هو أن المسيحية أدت دوراً إيجابياً كبيراً في هذا المجال.

إلا أن أوروبا لم تستغل هذه الفرصة كما ينبغي بكل أسف لأسباب كثيرة يطول الحديث عنها.

واليوم، ها هي أوروبا مضطرة مرة أخرى للتعايش مع الأنظمة المستبدة المسؤولة عن إرغام مواطنيها على البحث عن فرصة تضمن لهم أبسط مقومات العيش الكريم في أوطان الآخرين.
والنموذج السوري يفرض ذاته في هذا المجال باستمرار، إذ لم يسبق لأي شعب أن خرج أكثر من نصفه من دياره، وعانى من الظروف المعيشية التعيسة في المخيمات والمهاجر، وتحمّل الإهانات من القائمين على الحملات العنصرية في مختلف المهاجر، كل ذلك في سبيل الحرية والكرامة والعدالة. فالمحنة السورية التي تقترب اليوم من عامها الـ 14 تستوجب التعامل معها بجدية، ومعالجة أسبابها الحقيقية، على أمل الوصول إلى حل يطمئن الناس، ويجدد عندهم الأمل، ويشجعهم على العودة إلى وطن يحتضنهم مع ضمانات أكيدة بأنهم لن يكون ضحايا انتقام وحشي من قبل سلطة كانت السبب في الكارثة التي حلت بهم. وهذا فحواه أن مشكلة المهاجرين السوريين ستظل من دون حل ما دامت السلطة الأسدية قائمة تتغنى بالانتصارات الوهمية، وتتوعّد السوريين المناهضين لاستبدادها وفسادها بالعقاب، وذلك سواء بصورة صريحة أو مبطنة.

ويبقى السؤال الملح: هل أوروبا مستعدة لتحمّل مسؤولياتها دفاعاً عن مصالحها قبل كل شيء من خلال مساعدة السوريين للخروج من النفق المظلم؟ أم أنها ستختار مجدداً أسلوب التكيف مع السلطة المستبدة، وهذا معناه ديمومة توجه قوافل المهاجرين عبر مختلف الطرق؟

القدس العربي