لم تجد قطر مدافعا عنها أبلغ مما أنجزته على الأرض، فمتابع كرة القدم غير معنيٍّ بالسجال السياسي والثقافي. لا هو معني بحقوق العمّال ولا أرباح “فيفا”، ولا برفع علم المثليين ولا علم فلسطين. هم يذهبون لمشاهدة كرة القدم، ومن حضروا أكثر من مباراة يجمعون على أنها البطولة الأكثر تنظيما، منذ دخولك إلى المطار وصولا إلى الملعب. وصف أحدهم لي المشهد “إنك لا تذهب إلى ملعب كرة قدم، كأنك تذهب إلى دار أوبرا”.
سمعتُ هذا ممن حضروا بطولات سابقة وممن يقيمون في أوروبا وأميركا؟ لا يتوقف الأمر عند البنية التحتية من طرق ومواصلات ومطار وموانئ يشمل البنية التحتية الرقمية، فلك أن تتخيّل كل هذا العدد، ولم تتأثر خدمات الاتصال والإنترنت. لن يتمكّن أي بلد من تنظيم أي بطولة بهذا المستوى في المستقبل في البطولة التي ستتوزّع بين أميركا وكندا والمكسيك سيقطع فيها الجمهور بالطائرة مسافات شاسعة بين كل مباراة وأخرى، ولن يجد مترو بكفاءة وجمالية قطار الأنفاق في الدوحة الذي يغنيك عن استخدام الطائرة وسيارة في بلد متقارب متكامل.
هذه هي الصورة الحقيقية للمظاهرة التي يخرج بها المشاركون من كأس العالم، في العالم الافتراضي ترسم صورة أخرى لكأس العالم، تستخدم فيها أسوأ أساليب الكذب والتشويه لاعتباراتٍ لا علاقة لها بالمنافسة الرياضية، وإنما تعود إلى انقسامات سياسية وثقافية على مستوى العالم والمنطقة، وهي انقسامات قد تصلح بعض حالتها الرياضة، في المقابل، تفسد أكثر في حالات أخرى.
https://18250e4eb42a0e0def1b90b58f5df683.safeframe.googlesyndication.com/safeframe/1-0-40/html/container.html
لم تشهد كأس عالم صراعا ثقافيا سياسيا كالذي تشهده كأس العالم في قطر، فبدلا من أن يناقش الإعلام طريقة اللعب وتطور اللعبة والتحكيم والجمهور، كان النقاش على قضايا لم تحسم حتى في المجتمعات الغربية.
ففي الوقت الذي قتل فيه أكثر من مائتي مثلي في أميركا العام الماضي بحسب موقع أكسيوس، واستهدفوا بزخّات الرصاص في أماكن تجمعاتهم تحاسب قطر لأنها تمنع ترويج المثلية، ولا تختلف في ذلك عن روسيا التي أقيمت فيها آخر بطولة لكأس العالم، وهي من أكثر البلدان تشدّدا في موضوع المثلية إلى درجة أن أكبر مروّجي المثلية Netflix رضخت لشروطها واستسلمت. كتب جون بارنز في التايمزاللندنية، وهو الذي خاض 79 مباراة دولية مع إنكلترا من 1983 إلى 1995 وسجل 11 هدفا: “لقد دعت قطر “الجميع” إلى كأس العالم، مثليين كانوا أم لا، لكنها تطالب “الجميع” باحترام أساليبهم وقوانينهم وثقافتهم، ما يعني أنه يجب الحد من العروض العلنية للجنس.
لكل فرد الحق في أن يعيش حياته بالطريقة التي يختارها، ولكن إذا طالبنا الناس بقبول قوانيننا في بلدنا، سواء كانوا يؤمنون بها أم لا، فعلينا أن نفعل الشيء نفسه في البلدان الأخرى”. وأضاف “المثلية الجنسية غير قانونية في بلدان أفريقية عديدة أيضًا، على الرغم من أنه ينبغي القول إن قوانين كثيرة مناهضة للمثليين في المستعمرات السابقة هي قوانين بريطانية قديمة ننفذها، فهل يجب أيضًا منع هذه الدول من المشاركة في نهائيات كأس العالم؟ ينتشر التمييز من نوع ما في جميع أنحاء العالم، لذا فإن خلط الرياضة بالسياسة والأخلاق والدين عمل معقد.
كما نعلم من التجربة في هذا البلد، فإن التغيير الحقيقي يستغرق وقتًا”. ذكّر رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، البريطانيين بأن بلادهم كانت تجرّم المثلية عندما استضافت كأس العالم عام 1966. على الجبهة المقابلة لدواعش الليبرالية، فتحت على قطر جبهة دواعش السلفية، اقتنص موقع للذباب الإمارتي خطبة لشيخ مجهول يخطب الجمعة في قرية مجهولة عن كأس العالم، يهاجم الحفاة العراة الذين يتطاولون في البنيان، ويهدرون أموال الأمة طبعا الشيخ وقريته في مناطق السلطة الفلسطينية لا يزالان تحت الاحتلال الصهيوني.
تمثلت الجبهة الثالثة في الهجمة الإسرائيلية، فمع أن قطر استجابت لشروط “فيفا”، ولم تمنع الإسرائيليين من الحضور إلا أن الصهاينة يريدون من قطر أن تغيّر مشاعر الناس، بحيث يصبحون أكثر ودّية مع الغزاة المحتلين، وينسون قضية فلسطين. وهو ما دفع الإعلام الإسرائيلي إلى وصف المونديال بكأس العرب، وعنون موقع واللا “نجحتم في جعله كأس العالم العربية. لكنكم أفسدتم البطولة علينا” “لقد استنزفتنا بالكامل. أزالت كل الفرح منا.
ليس هناك أجواء احتفالية هنا، وليس من قبيل المصادفة أن المنتخبات العربية فقط هي التي تحتفل هنا”.
اعتبرت صحيفة الفايننشال تايمز البطولة “مصدرا نادرا للوحدة العربية”، وهو اعتراف بنجاح قطر في جعلها بطولة للعرب جميعا لا لقطر. تقول الصحيفة “طغى الجدل السياسي ولفتات الدعم البارزة لحقوق الإنسان على الأسبوع الافتتاحي لبطولة كأس العالم في قطر. لكن ما يُنظر إليه في الخليج على أنه تحريف غربي، حول بطولة كرة القدم إلى شيءٍ نادر في العالم العربي: مصدر للوحدة العربية”.
أيد العرب تعامل قطر مع كأس العالم، ودعوا إلى ما يعتبرونه “نفاقًا غربيًا لانتقادهم افتقار الدولة المحافظة للديمقراطية، والقيود المفروضة على الكحول، وحظر المثلية الجنسية، بينما طلبوا، في الوقت نفسه، من الدوحة المزيد من الغاز الطبيعي ليحل محل الإمدادات الروسية. وبعد أن فشل في فحص البطولة السابقة في روسيا بقوة”، بحسب “فايننشال تايمز”.
وتنقل عن محمد اليحيى الباحث في معهد هدسون: “لقد جاء الكثير من التضامن العربي نتيجة لانتصار السعودية على الأرجنتين. لقد بعث برسالة إلى كل ما يمكن للعرب أن ينتصروا فيه”. ” المنتخب السعودي هو فريق جديد، يعكس التغيير 180 درجة في البلاد، مع هذا التميّز الجديد الذي يريد السعوديون تقديمه”.
كما أعرب المعجبون الذين التقتهم الصحيفة في شوارع الدوحة عن دعمهم الفلسطينيين برفضهم إجراء مقابلاتٍ مع الصحافيين الإسرائيليين وأصحاب النفوذ على وسائل التواصل الاجتماعي. لم تقم قطر، على عكس بعض جيرانها، بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، لكن تماشياً مع قواعد الفيفا، سمحت للطائرات بنقل وسائل الإعلام والمشجّعين الإسرائيليين إلى البطولة.
انتشرت المواجهات الصعبة بين الصحافيين الإسرائيليين وأنصار العرب، وغيرهم على وسائل التواصل الاجتماعي. نجح أحد المعجبين المصريين في إدخال “تحيا فلسطين” في مقابلة مباشرة. ما يخشى منه هو أسطرة قطر بعد أن حاول كثيرون شيطنتها، فهي لم تقم البطولة لتحرير فلسطين، ولا لإنصاف مظالم العمال، ولا لتحقيق الوحدة العربية.
نجحت في تنظيم بطولة رياضية قدّمت قطر والعرب والمسلمين بأجمل صورة.
المقصود هو نجاح تنظيم البطولة لا أكثر، وهو ما تحقق بجدارة. بالنتيجة حقق المونديال قبل اختتامه أهدافه، رغم الحملة الضارية عليه. والمأمول أن تصل البطولات القادمة إلى مستواه.
العربي الجديد
Be the first to write a comment.