ها هي أوروبا تمسك تونس من اليد التي توجعها وتضغط، وها هي تونس تريد سحبها فتتألّم أكثر. تدرك أوروبا جيدا أن تونس في ضائقة مالية شديدة، وأن قرض الملياري دولار الذي تلهث وراءه منذ أشهر من صندوق النقد الدولي ليس وشيكا، ولذا فهي عازمة على استغلال هذا الوضع إلى النهاية. أوروبا التي لم تسع أبدا إلى نجدة الديمقراطية التونسية المتعثرة وهي تئن، لا ترى اليوم ما يعيب في دعم حكم الفرد، طالما أمّن لها ما تريد.
أوروبا هنا هي إيطاليا بالأساس، فقد بدت روما في الأشهر الماضية، ومع حكم اليمين المتطرف بزعامة رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني، وكأنها الوصيّة على تونس والراعية لمصالحها لدى الأوروبيين. وهي حين تفعل كل ذلك، وفي تناغم واضح مع حكم تونسي هو الأقرب إلى أفكارها، لا نراها مهمومة بالوضع التونسي إلا من زاوية الهجرة غير النظامية إلى بلادها لا أكثر، ولهذا تزور تونس مرتين في أقل من أسبوع، مصطحبة في الثانية كلا من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين ورئيس وزراء هولندا ماك روته.
وحين تتحدث أوروبا عن مساعدة تونس في ضائقتها الشديدة الحالية التي قادت إلى تخفيض جديد في تصنيفها الإئتماني الذي يقترب بها من حافة الإفلاس والعجز عن سداد ديونها لأول مرة في تاريخها، فإنها لا تتحدث إلا بلغة «الاستعداد» لذلك وليس الانجاز الفوري. انتقت فون ديرلاين المفردة بعناية وهي تقول إن الاتحاد الأوروبي «يدرس» حزمة دعم مالي لتونس تصل إلى 900 مليون يورو، وهو «مستعد» لتوفير مبلغ 150 مليون دولار إضافية لكن كليهما «بعد التوصل» إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي أو «بمجرّد التوصل» إليه، كما أن الاتحاد «مستعد» لتقديم 100 مليون يورو لتونس لمساعدتها في مكافحة الهجرة غير النظامية.
واضح تماما لغة رهن هذا بذاك، في لحظة تدرك فيها أوروبا جيدا ضيق الخيارات أمام الحكم الحالي في تونس ما يجعلها تدفع أكثر في اتجاه أن كل شيء مرتبط في النهاية بـ«التعاون الجيد» في لعب دور الحارس لحدودها، بالتوازي مع الاتفاق مع صندوق النقد، وكلاهما مؤلم للرئيس قيس سعيّد الذي يريد الظهور في موقف المتمرّد على كليهما، وله في ذلك تصريحات عديدة.
تونس مع سعيّد تدور في حلقة مفرغة من التناقضات، فهي في حاجة ماسة لصندوق النقد ولكنها لا ترى حرجا في تقريعه والتشهير المتكرر بسياساته، كما أنها في حاجة ملحة إلى المساعدات الأوروبية، وأية مساعدة أخرى، ولكنها ترفض، علنيا على الأقل، الدور الذي تريده لها أوروبا حارسة لحدوده. وفي كلتا الحالتين، تبدو تونس الرسمية وكأنها في غنى تام عن أية مثل هذه المساعدات، بل وتمنّ على من قد يقدّمها.
قيس سعيّد يريد أن يجمع الحسنيين، يريد كما يقول المثل الفرنسي «الزبدة وثمنها في آن معاً» أي يريد الحصول على كل شيء دون التنازل عن أي شيء، مع أنه لا يمتلك البديل المقنع، اللهم إذا كان يريد فقط الظهور بهذا الشكل «البطولي» المغري، مضمرا في الوقت ذاته تقديم كل التنازلات المطلوبة، طالما أن ذلك يعني إقرارا بديمومة حكمه وكف الغرب عن «إسطوانة» الحريات وحقوق الإنسان المشروخة.
كان لافتا أن تقوم وزارة الخارجية التونسية بحذف إشارة من بيان على موقعها الرسمي تنص على «تعزيز التصرّف في الحدود (مع أوروبا) والتسجيل وإعادة القبول في كنف الاحترام الكامل لحقوق الإنسان» وهي الإشارة التي فهمها الجميع على أنها قبول من الحكومة التونسية بالخطة الأوروبية التي تهدف، بعد تعديل نظام الهجرة واللجوء للاتحاد الأسبوع الماضي، إلى تحويل تونس إلى نقطة حدودية متقدمة لأوروبا وذلك بترحيل كل القادمين إليها بطريقة غير نظامية إلى تونس طالما هم انطلقوا منها، بغض النظر عن بلدانهم الافريقية الأصيلة جنوب الصحراء.
لكل ما سبق، عبّرت منظمات تونسية عدة عن رفض هذا التوجه الأوروبي الذي وصفه «المرصد التونسي لحقوق الإنسان» بـ«الطُعم» مقابل مساعدات مالية تونس في أمس الحاجة العاجلة إليها، فيما وصف «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» هذه السياسة الأوروبية بأنها «مسار قديم متجدد لابتزاز تونس وانتهاز الهشاشة السياسية والاقتصادية والاجتماعية» التي تمر بها، بل وذهب إلى حد الحديث عن أن القادة الأوروبيين ينقلون إلى تونس «خطاب الكراهية ضد المهاجرين» وأن «هذه السياسات تجد صدى لها للأسف في تونس» وصولا إلى «تحالف غير معلن مع خطابات اليمين المتطرف الذي يستهدف التونسيين في أوروبا بنفس الذرائع».
لم تهرع إيطاليا ولا فرنسا ولا الولايات المتحدة، ولا غيرها، حين كان بالإمكان مساعدة تونس على السباحة في بحر الديمقراطية الوعر المتلاطم، لكنهم الآن يتسابقون إليها وهي تتخبط بألم في مستنقع الاستبداد، ليس بهدف انتشالها منه، فهذا لا يعنيها في شيء، ولكن فقط لإبقاء الرأس مرتفعا قليلا، وربما الأنف لا غير، حتى يستمر التنفس ليس أكثر.
القدس العربي
Be the first to write a comment.