دخلت المفاوضات النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية مرحلة حاسمة بين خطوط حمر لإسرائيل ولإيران تحاول إدارة بايدن والحكومات الأوروبية وكذلك روسيا الإبحار بينها لتهدئة إيران وطمأنة إسرائيل وسط عزم عارم على إنجاز الصفقة لربما في غضون العشرة أيام المقبلة. إسرائيل انخرطت بقوة مؤخراً بمعارضة قوية لمسودّة الاتفاق الأوروبية وتحرّكت بخطوط حمر لها لدى واشنطن وعواصم أوروبية بإنذار واضح أنها ستتحرك عسكرياً ضد المفاعلات النووية الإيرانية إذا بقيت خارج المراقبة الدولية الدقيقة- كما تصرّ طهران وتبدو أوروبا جاهزة للنزول عند إصرارها.
إيران أوضحت أن لديها هي أيضاً خطوطاً حمراء خلاصتها إما تنصاع الدول الغربية لشروطها وتبرم معها صفقة إحياء الاتفاقية النووية JCPOA، وترفع عنها العقوبات، وتوافق على تقليص صلاحيات الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA، أو لا صفقة. وترجمة اللاصفقة هي أن طهران ستسرّع تصنيع السلاح النووي بلا أية مراقبة. هذا علماً أن الجميع يدرك أن إيران قطعت شوطاً كبيراً في امتلاك القنبلة النووية وأن الاتفاقية النووية التي تغدق الأموال على إيران تقيّد النشاطات النووية الإيرانية لفترة زمنية محدودة، وليس الى الأبد.
أوروبا تبدو أكثر هلعاً من الخطوط الحمر الإيرانية مما هي من الخطوط الحمر الإسرائيلية لأنها تعتقد أن في وسعها ووسع واشنطن احتواء إسرائيل ومخاوفها، ولأنها في أشد الحاجة الى النفط الإيراني في زمن الحرب الروسية في أوكرانيا. روسيا تتصرّف من موقع القيادة والتأثير في كل من إيران وإسرائيل لأن هذه المفاوضات تعيد اليها بعض الاعتبار في زمن العزلة الدولية لها والاستهتار بها. الصين تتصرّف – تتعالى عن التفاصيل وهي تحصل على النفط الإيراني والخليجي العربي معاً، وتحرص على نسج محورها الاستراتيجي في الشرق الأوسط في وجه الولايات المتحدة وأوروبا. أما إدارة بايدن فإنها توحي بتصرفاتها أنها باتت في مرتبة مختلفة من العلاقات مع الدول الأوروبية بسبب الحرب الأوكرانية وحلف شمال الأطلسي “الناتو”، وبالتالي إن إسرائيل ليست ذات الأولوية المعهودة لدى الولايات المتحدة.
والسؤال هو، هل ستستطيع إدارة بايدن تجاهل إسرائيل ومواقفها على عتبة الانتخابات النصفية وفي خضمّ الغضب والاحتجاج الإسرائيليين لدى الإدارة والكونغرس؟ أم أنها تقدّم الى إسرائيل ضمانات أمنية فوق العادة لترغيبها بعدم عرقلة الصفقة؟ وماذا عن المواقف والأدوار العربية عشية الاتفاق المرتقب؟ أهي يَقِظَة أم أنها في سبات؟
حين تحرّك العالم ضد العراق لدى شكوكه بامتلاك بغداد أسلحة الدمار الشامل، عَقَد العالم العزم ليس فقط على تجريد العراق من الأسلحة المحظورة ووضعه بكامله تحت الرقابة والمطالبة بإثباتٍ مستحيل لامتلاكه أسلحة بيولوجية بعدما قام بتدميرها هرباً من الاعتراف بامتلاكها. عقد العالم العزم على “تدجين” العراق ثم على تدميره لأنه تجرأ على العمل نحو امتلاك أسلحة دمار شامل. لكن إيران قصة مختلفة.
إيران ليست دولة عربية، وبالتالي فإن التعامل مع امتلاكها الأسلحة المحظورة تطلّب “الاحتواء” وليس “التدجين” مع النزول عند الابتزاز النووي بل ومكافأته، فنجحت إيران في ترويض أوروبا والولايات المتحدة لينزلا عند املاءاتها. أما إسرائيل، فإنها لم تحصل فقط على مباركة الغرب والشرق لامتلاكها القنبلة النووية، بل أتى امتلاكها لها عبر فرنسا وأخواتها.
اليوم، إن كلاً من إسرائيل وإيران دولة نووية مع اختلاف النسبة. بالرغم من إعلان إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا أنها لن تسمح للجمهورية الإسلامية الإيرانية بامتلاك القنبلة النووية، لكن الجميع يعرف أن إيران باتت دولة نووية ولذلك ترفض السماح للإشراف والتدقيق الدولي في كل منشآتها.
المفاوضات النووية بين الأطراف الستة -الولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا- دخلت مراحلها الأخيرة لكنها لم تنتهِ الى اتفاق بعد لأسباب عدّة أبرزها عقدة المراقبة للمفاعل النووية الإيرانية. طهران ترفض السماح بمراقبة كاملة وشاملة فيما واشنطن تريد آليات مراقبة وضبط للنشاطات النووية الإيرانية. أوروبا تتنازل هنا وهناك وعلى حساب الوكالة الدولية للطاقة الذريّة في سابقة خطرة. وإسرائيل ترفض الصفقة برمتها ما لم تعالج مصادر قلقها النووية والتي تعتبرها وجودية:
أوروبا -وكذلك روسيا- تعتقدان أن بوسعهما التأثير في إسرائيل عبر الضمانات الأمنية وعبر الأموال والعلاقات التجارية والسياسية. أما في حال عناد إسرائيل ورفضها القاطع للصفقة، فإن أوروبا وروسيا مستعدتان للمجازفة بقصف إسرائيل لمواقع نووية إيرانية أكثر مما هما على استعداد للمجازفة بعدم إبرام الصفقة النووية مع إيران.
مأزق إدارة بايدن أصعب لا سيّما إذا قرّرت أن أوروبا أهم لديها من إسرائيل. فإسرائيل عنصر داخلي في السياسة الأميركية، وليس سهلاً على الحزب الديموقراطي أن يتخذ قرار الاستغناء عن إسرائيل أو تجاهلها. ثم هناك الإعلام الأميركي الذي سيكون بدوره في مأزق الاختيار بين الصفقة والضربة.
روسيا ستكون جاهزة لتجاهل إسرائيل إذا لزم الأمر، فأولويتها هي الصفقة النووية، لكن موسكو تبحث عن مخارج وتحاول التأثير في كل من إسرائيل وإيران. ولأن روسيا لم تعد قادرة على لعب الأدوار العالمية الكبرى ولم تعد لاعباً دولياً، فإنها تجد في الشرق الأوسط مجالاً لها لإبراز وجودها على الساحة، وقد وجدت في إيران “البديل السياسي” لها -حسب تعبير مصدر روسي- لا سيّما في سوريا حيث أوكلت موسكو الى طهران مهمة النيابة عنها في سوريا.
رأي روسيا هو أن “سياسة النفوذ الجديدة” تتطلّب دعم سيطرة إيران على سوريا وعلى لبنان، إنما مع الأمل والعمل بأن تتخذ تلك السيطرة الداخلية “مرونة حدودية” مع إسرائيل. الرسالة الروسية الى طهران هي: اهدأي لفترة Calm down for a while ولا تخلقي المشاكل وإلا، فلن تكون هناك صفقة.
مصدر روسي قال إن موسكو بعثت رسائل الى طهران تفيد بأن الصفقة النووية لا تعني أن لدى طهران الضوء الأخضر لكل شيء. وأضاف أن الأولوية في رسالة موسكو للتهدئة هي إسرائيل والدول الخليجية العربية. اليمن مسألة ثانوية في قاموس روسيا اليوم. أما أمن إسرائيل وأمن الخليج، فهما أولوية. وقال: “رسالتنا لإيران هي: لا تجعلوا من لبنان جبهة أمامية لكم مع إسرائيل. فأن يتحكّم “حزب الله” بلبنان داخلياً، حسناً. ولكن، لا تشنوا عمليات ضد إسرائيل عبر الحزب”.
رأي روسيا هو أنه لا يمكن إيقاف النفوذ الإيراني والإجراءات الإيرانية، المباشرة منها أو من خلال “حزب الله” في لبنان، “فنحن، بكل وضوح، غير قادرين على إيقاف النشاطات الإيرانية في لبنان. وفي نظرنا، أن إيران هي المسؤولة عن لبنان، ودورها تاريخي فيه. لبنان مسألة أمنية لإيران، وهذا من شأن إيران وليس من شأننا ولا يمكن تغيير شيء في لبنان من دون إيران”.
قد تشاطر واشنطن والعواصم الأوروبية رأي موسكو في أن الأولوية هي للجم أية نشاطات عسكرية لإيران أو “حزب الله” عبر الحدود مع إسرائيل. قد تكون الصفقة مع إيران: لكم لبنان طالما أن حدوده مع إسرائيل هادئة. في مثل هذه الصفقة الوقحة قصر نظر وغباء لأن سماح واشنطن والعواصم الأوروبية بأن تستمر إيران في تحويل لبنان الى قاعدة عسكرية إيرانية بصواريخ ومسيّرات إنما يخدم الترويكا الصينية – الروسية – الإيرانية، ويقضي على سيادة دولة مستقلة ويهدّد باندلاع حرب أهلية فيها. ثم أنه قد لا يحقق هدف تجنّب المواجهة العسكرية وتحييد الحدود اللبنانية – الإسرائيلية بقرارٍ إيراني. فأين الذكاء في المواقف الأميركية والأوروبية؟ ولماذا كل هذا الصمت الكريه لبنانياً وعربياً؟
يجب على السفراء الغربيين المعتمدين لدى بيروت أن يتحرّكوا مع عواصمهم ليشرحوا مغبّة وقصر نظر عدم التنبّه لإفرازات الصفقة النووية وقضمها سيادة وأمن لبنان وأن يتقدموا بأفكار حول كيفية ضمان الأمن للبنان وليس مجرّد التهدئة الموقتة لإيران. يجب أن تتحرّك هذه الدولة اللبنانية الخائبة بسفراء لبنان في العواصم الست لطرح المخاوف على السيادة والاستقلال ولرفض الصفقات التي تُبرَم على حساب اللبنانيين. ويجب أن يتحرك اللبنانيون في الاغتراب بتظاهرات واحتجاجات جدّيّة كي لا يؤخذ صمتهم على أنه رضوخ للأمر الواقع. هذه ليست دعوة لمعارضة الصفقة النووية وإنما لمعارضة الصفقات الجانبية لتمريرها.
أما الدول العربية، فالرجاء منها التوقف قليلاً عند تداعيات الصفقة النووية على بلد مثل لبنان وكذلك سوريا والعراق وربما اليمن. ليت عُمان التي تلعب دوراً وراء الكواليس بين إيران والولايات المتحدة، ليتها تتذكّر أن بوسعها طرح تداعيات الصفقة النووية على دول عربية، ليس من أجل عرقلة الصفقة، وإنما من أجل عدم تحوّلها الى تأشيرة امتلاك الجمهورية الإسلامية الإيرانية القرار والسيطرة والهيمنة على لبنان وسوريا، وربما العراق واليمن.
يمكن لعُمان ولقطر، التي استضافت محادثات فيينا وتلعب أيضاً دوراً وراء الكواليس بين إدارة بايدن والحكومة الإيرانية، أن تطرحا في سلّة موازية للمحادثات النووية أفكاراً ومطالب تضمن أنهما ليستا طرفاً في تسهيل الهيمنة الإيرانية على الجغرافيا العربية في بلاد الشام. ويجب أيضاً على السعودية التي عقدت الجولة الرابعة والخامسة وربما تعقد السادسة والعاشرة من المحادثات مع إيران ألا تترفّع عن طرح مستقبل بلد كلبنان على الطاولة -مع احترام الأولوية اليمنية- لأن إيكاله الى “الحرس الثوري” الإيراني والى “حزب الله” ليس في المصلحة السعودية أو العربية ولا هو في صالح الأمن السلمي في لبنان.
واشنطن مسؤولة بالدرجة الأولى بالرغم من المسؤولية الأوروبية الكبرى، لأن من المفترض أن تكون الولايات المتحدة واعية وقائدة عالمية. اندفاع إدارة بايدن الى هذه الصفقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد يكون بهدف تجنّب الحرب -وهذا مفهوم- الى جانب اعتبار الصفقة إنجازاً ديموقراطياً في عهد باراك أوباما، أطاح به دونالد ترامب، ثم أتَت حرب أوكرانيا لتضيف الى الأسباب، النفط والغاز والمصالح العسكرية.
إنما لا يجوز لإدارة بايدن أن تتبنّى سياسة الغمّامات لأنّها منصبّة على الصفقة ولا تريد النظر في تداعياتها. إهداء لبنان المستقلّ الى النظام الأوتوقراطي في طهران ليصبح له قاعدة عسكرية هي سياسة ستندم واشنطن عليها وعلى غض النظر عن عواقبها، فيما تهدي روسيا سوريا الى إيران. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية مشروع عقائدي توسّعي، وما لم تتنبّه واشنطن لضرورة وضع السياسات والسلوك الإيراني الإقليمي في لبنان وسوريا والعراق في سلّة موازية للمفاوضات النووية -كما تسعى في تطميناتها لإسرائيل- فإنها سترتكب خطأً استراتيجياً ضخماً. إنها بذلك ستساهم في دعم الترويكا الأوتوقراطية بأموال الرأسمالية الأميركية وتترك المنطقة للصين فيما تتوجّه شرقاً أضعف وأضعف بقرار أميركي بامتياز.
النهار العربي
Be the first to write a comment.