منذ خروج سوريا من عباءة الإمبراطورية العثمانية، مرت العلاقات بين البلدين بمراحل خطرة وصلت إلى حافة الحرب، وسط سباق ضمني لسعي كل طرف لامتلاك “أوراق” ضد الطرف الآخر. ومن بين تلك “الأوراق”، استخدمت انقرة ملف مياه نهري الفرات ودجلة واستضافت “الاخوان المسلمين”، وأقامت دمشق علاقة مع “حزب العمال الكردستاني” وزعيمه عبدالله أوجلان.
في العام 1985 لجأ أوجلان الى سوريا وعمل على تنظيم أنصاره وتدريبهم في معسكرات الفلسطينيين في سوريا وفي لبنان في ظل الوجود السوري. كما ركز على الدعاية وترتيب مجموعات تتسلل إلى تركيا عبر الحدود أو عبر العراق.
كان على صلة بالفرع الخارجي في إدارة أمن الدولة (الاستخبارات العامة)، ثم انتقلت رقابته وعلاقته إلى إدارة الأمن السياسي. ولم يستقبله أي مسؤول سياسي حتى عام 1992 حين التقاه نائب الرئيس الراحل عبدالحليم خدام، للمرة الأولى ثم اجتمع به مرات عدة لإقناعه بالوصول إلى حلول سياسية مع تركيا ضمن وساطة دمشق مع نجم الدين أربكان.
فشلت الوساطات بين أوجلان وأنقرة، واستمرت دمشق باستضافته ورفض طلبات انقرة بتسليمه او طرده. وفي العام 1998، حشدت تركيا جيشها على حدود سوريا ووجهت انذاراً، وطلبت بوضوح إخراج أوجلان.
في أكتوبر/تشرين الأول 1998، توسط الرئيس الراحل حسني مبارك بين الرئيسين الراحلين السوري حافظ الأسد والتركي سليمان ديميريل. وبعد أخذ ورد، اتخذ الأسد القرار الصعب وهو طرد أوجلان، بدلاًمن تسليمه الى انقرة كما ارادت. بالفعل خرج اوجلان إلى اوروبا وروسيا ثم افريقيا قبل أن تخطفه الاستخبارات التركية (أو تسلمه نيروبي) بداية 1999 وتودعه في السجن حيث يقيم الى الآن.
وحسب وثائق رسمية سورية نقلها نائب السوري عبدالحليم خدام الى باريس قبل انشقاقه في 2005، وحصلت “المجلة” على نسخة منها، انه في الأول من أكتوبر عام 1998 استقبل الأسد خدام في اللاذقية، و”بينما كنا نتحدث حول لبنان دخل الحاجب وسلّمه مظروفاً قرأنا ما فيه وقد تضمّن تصريحاً لسليمان ديميريل الرئيس التركي وفيه تهديد موجّه إلى سوريا بالعمل العسكري إذا لم تسلّم أوجلان، وأن تركيا ضاقت ذرعاً بدعم سوريا للإرهاب الكردي الذي أدى إلى قتل عشرات الألوف من المواطنين الأتراك”.
بعد مناقشة الأمر، بين الاسد وخدام، كان الرأي أن التهديدات “تمت بالاتفاق مع إسرائيل والولايات المتحدة وهي مرتبطة بالضغوط علينا من أجل التسوية مع إسرائيل وفي إطار الحلف الجديد في المنطقة” حسب خدام. ويضيف: “اقترحت أن نقوم بحملة عربية ودولية لمواجهة الضغط التركي، وكان رأيه عدم الاستعجال حتى لا يفهم أحد أننا خائفون من هذه التهديدات. قلت للرئيس: غداً سيتصل بك الرئيس المصري حسني مبارك عارضاً وساطته، وبالفعل فقد اتصل الرئيس المصري في اليوم التالي، واتفق الرئيسان على زيارة الرئيس مبارك لدمشق في 4 أكتوبر 1998”.
وصل مبارك وجرى تحليل للأزمة مع تركيا ونتائج هذه الأزمة على المنطقة، وتساءل الرئيس المصري عن أهداف السياسة التركية “التي ستقود المنطقة إلى الدمار”. وتحدث الأسد عن الأزمة والتحالف التركي- الإسرائيلي.
كما شرح الأسد العلاقات مع تركيا والاتصالات السابقة و”تهرّب تركيا من حل المشاكل القائمة، وفي مقدّمتها مشكلة المياه والإجراءات التي اتُّخذت منذ سنوات ضد جماعة أوجلان، مع التأكيد أن ليس هناك أي مساعدة سورية لحزب العمال الكردي- التركي، وليس هناك أي تسلُّل عبر الحدود السورية، وأن الجيش التركي وقوى الأمن موجودة على طول الحدود”.
طلب الأسد ومبارك أن يجتمع خدام ووزير الخارجية المصري السابق عمرو موسى ووزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع والمستشارون لمناقشة الأمر. يقول خدام: “في لقائنا أعدنا مناقشة أسباب الأزمة وعلاقاتها بالتحالف التركي- الإسرائيلي وبالأزمة الداخلية في تركيا، وتوصلنا إلى ما يلي:
لا بد من موقف عربي داعم لسوريا وأن يجري تحرك عربي في اتجاه تركيا وتأتي زيارة الرئيس مبارك في هذا الاتجاه، وأن يقول الرئيس مبارك للأتراك إن صدامكم مع سوريا سيدفع جميع العرب إلى أن يقفوا إلى جانب سوريا وتضعون المنطقة وأنفسكم في مشكلة لستم بحاجة لها، والعرب لن يتركوا سوريا.
يقول للأتراك: ما هي المشكلة؟ حزب العمال الكردستاني موجود في أوروبا، فلماذا الحملة على سوريا، والمهم أن سوريا لا تستخدم هذا الأمر ضدكم ويمكن التعاون الهادئ في هذا الموضوع وأن ليس لسوريا علاقة بحزب العمال الكردي، ولا بد من سحب التهديدات وتهدئة الوضع وعندئذ يجري حوار جدي.
إنكم متهمون عند العرب بأنكم تعملون لحساب إسرائيل، وهذا الأمر يجعلكم في مواجهة العرب والمسلمين”.
عرض الموضوع على الاسد ومبارك، فوافقا وتم الاتفاق على لقاء آخر إذا لم يستجب الأتراك لوساطة الرئيس المصري.
بيان ووثائق
قبل ذلك، صدر بيان رسمي سوري في 3 أكتوبر، جاء فيه: “من الغريب حقاً والحالة هذه ما جاء في التصريحات الرسمية التركية الأخيرة بأن سوريا هي التي تعرقل الجهود الدبلوماسية، في حين أن سوريا هي التي تتمسك باعتماد الحوار الدبلوماسي طريقاً لا بديل عنه، وهي التي حرصت دائماً على لهجة معتدلة تصالحية في جميع تصريحاتها الرسمية وفي البيانات التي شاركت في صياغتها في المؤتمرات العربية والإسلامية..
إن سوريا وهي تؤكد من جديد رفضها الحازم لسياسات المجابهة والتصعيد والتهديد من أية جهة أتت، فإنها تؤكد أيضاً حرصاً على علاقات حسن الجوار مع تركيا، واستعدادها لمعالجة المسائل التي تثير قلق البلدين وذلك بالطرق الدبلوماسية وفي أجواء من الثقة المتبادلة وبما يخدم المصالح المشتركة للبلدين ويعزز العلاقات العربية- التركية”. وكانت الخارجية السورية استدعت السفير التركي في دمشق لتسليمه صورة عن البيان، الذي قال: “أرجوكم سلّمونا عبدالله أوجلان أو أخرجوه من سوريا لتتولى تركيا أمره، فهناك في تركيا من يرى أن وجوده في دمشق يضمن له امتيازان:
قربه من عناصره وتوجيهها.
حماية سوريا له، فلو كان مثلاً في العراق لاستطعنا إسكاته بطريقة أو بأخرى.
وقال: «لا تقولوا لنا إنه غير موجود في سوريا فلقد اجتمع به النائب البريطاني فولكر في دمشق أثناء انعقاد مؤتمر الحوار البرلماني العربي- الأوروبي يومي 11 و12 يوليو/تموز 1998.
كما اجتمع به لورد بريطاني عند زيارته دمشق بتاريخ 15/8/1998.
والتقاه السيد بيدرو مارسيه عضو الوفد النيابي الإسباني من حزب إيزكوريدا أونيتو أثناء زيارة السيد مارسيه دمشق أيضاً بتاريخ 25/8/1998.
والتقاه وفد شيوعي إيطالي مؤلف من السيدين مونتباني ودوسيزاريس خلال زيارة الوفد دمشق بتاريخ 13 و14/9/1998 وهو الذي نظم له في ما بعد اجتماع البرلمان الكردي في روما”.
اللقاء الأخير
ذهب مبارك إلى تركيا والتقى ديميريل، وعاد إلى دمشق في السادس من أكتوبر 1998 من أنقرة وعقد اجتماعاً مغلقاً مع الأسد، وأبلغ مبارك الأسد ما خلاصته:
أبلغ الأتراك خطورة موقفهم وأن العرب سيقفون إلى جانب سوريا وسينشأ عداء شديد بين العرب وتركيا وتضرب مصالح تركيا في العالم العربي، كما أن الوضع الداخلي في تركيا سيصاب بهزّة ولن يحتمل هذا الصراع.
إن سوريا جاهزة للحوار حول جميع المواضيع بما فيها موضوع حزب العمال الكردي وإن السوريين ينفون أصلاً وجوده كما ينفون تقديمهم أية مساعدات إلى الحزب المذكور.
إن هذه المسائل يجب أن تُحَلّ بالحوار وليس بالتصعيد”.
وكان الموقف التركي، كما ذكر مبارك للأسد، “متصلّباً ورفضوا اقتراحه بعقد اجتماع لوزيري الخارجية، وبعد نقاش طويل قال ديميريل ان على سوريا ان تخطو خطوة تقدمها للجيش حتى نستطيع التراجع لا سيما بعد التعبئة التي قمنا بها، وتم الاتفاق على الاقتراح التالي:
تصدر سوريا بياناً تندد فيه بالإرهاب وأعمال حزب العمال الكردي واحترامها لوحدة تركيا واستقرارها.
تجتمع اللجنة الأمنية لمناقشة القضايا الأمنية والاتفاق عليها.
يجتمع وزيرا خارجية البلدين لمناقشة القضايا العالقة”.
وأضاف الرئيس مبارك أن ديميريل، قال له إن “صدور بيان عن سوريا يساعدنا كثيراً أمام الجيش”.
رفض الأسد صدور بيان حول “حزب العمال الكردستاني”، وحول الإرهاب، ووافق على اقتراح بأن يقوم وزير الخارجية السوري بزيارة القاهرة وخلال لقاء صحافي “يجيب عن سؤال حول حزب العمال الكردي بأن سوريا جاهزة لبحث المواضيع كافة بين البلدين وإعطاء الأولوية للهاجس الأمني لدى تركيا”.
لكن الحملة السياسية والإعلامية والتهديدات التركية استمرت ضد سوريا.
في الخامس من أكتوبر، اتصل الشرع بخدام وطلب زيارته في المنزل لمناقشة موضوع يتعلق بتركيا. يقول خدام: “استقبلته (الشرع) الساعة الثامنة مساء، وناقشنا احتمال تطور الأزمة مع تركيا، وناقشنا مسألة أوجلان في سوريا والطلب إليه الخروج.
كانت وجهة نظري أن نطلب منه الخروج، وبالفعل كما أشرت سابقاً، فقد اجتمعت به في نهاية يوليو/تموز 1996 واتفقت معه على مغادرة الأراضي السورية إلا أنه تهرّب من تنفيذ هذا الاتفاق. كما أننا بعد الحوار مع (رئيس الوزراء التركي نجم الدين) أربكان واحتمال التوصل إلى حلول لم نتابع هذه المسألة.
كان لا بد من اتخاذ مثل هذا القرار لأنه لا يمكن أبداً تعريض سلامة البلاد من أجل شخص أو حزب، في الأساس قضيته ليست قضيتنا، نغامر بالمواجهة العسكرية من أجل قضايانا المركزية إذا كان لا بد من هذه المواجهة، أما أن نضع البلاد في احتمالات الحرب من أجل أوجلان أو غيره فلم يكن منطقياً، على الرغم من الإحساس بالمرارة والألم من اتخاذ مثل هذا القرار لأسباب إنسانية وأخلاقية”.
استدعى خدام والشرع إلى الاجتماع، اللواء عدنان بدر الحسن رئيس شعبة الأمن السياسي آنذاك، وناقشوا كيفية إبلاغه، و”علمتُ أن الأسد يفضّل أن أقوم بهذه المهمة نظراً إلى معرفتي بالرجل، واتفقنا مع الحسن، على ترتيب اللقاء معه في مكتبه (اللواء الحسن) بصورة سرية في اليوم التالي الساعة السادسة مساء بتاريخ 6 أكتوبر 1998″.
في الوقت المحدّد للقاء، توجّه خدام إلى مكتب اللواء الحسن و “لدى دخولي الغرفة توجّه إليّ السيد عبدالله أوجلان باندفاع وحاول تقبيل يدي، فأنهضته وعانقته وشعرت آنذاك بسكين تطعن في قلبي، ورأيت في عينيه الخشية والخوف والقلق وكأن عينيه تسألان الرحمة والشفقة. استجمعتُ نفسي الحزينة والمتألمة كما يستجمع الجرّاح نفسه عندما يمسك بالمبضع لأول مرة ليفتح بطن مريض، وسألته عن أحواله محاولاً خلق جو يساعد على نقاش موضوعي وعقلاني”. وشكك مسؤول كردي، كان قريباً من أوجلان، بصحة “محاولة تقبيل اليد، لأنها ليست من خصائله وصلابته”.
بعد مجاملات، سأله عما لديه من معلومات، فدار الحوار التالي، حسب محضر اجتماع سوري للقاء خدام وأوجلان:
أوجلان: وصلنا خبر عن اجتماع مجلس الأمن القومي التركي، وقد اعتمدوا كأحد القرارات ممارسة السياسة العسكرية أو الدبلوماسية العسكرية ضد سوريا، وعلى مراحل طويلة، وهذا القرار متفقون عليه مع إسرائيل، وتركيا تتحول إلى أداة عسكرية تسيّرها إسرائيل كما تريد بينما إسرائيل هي المظلة السياسية والاقتصادية، والمتتبع للأمور الداخلية في تركيا يصل إلى نتيجة ألا وهي أن كل ما يحدث في تركيا هو قرار إسرائيلي، سياستهم هذه بالتنسيق مع نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل في محاولة تهدئة المناخ حتى على الصعيد الدولي، فيما تحدث فضيحة كلينتون، وهي جزء من هذه التحركات، حتى ضرب السودان وأفغانستان كلها سيناريو واحد، وحتى الاتفاق الأخير بين برزاني وطالباني في واشنطن هو جزء منه وواصل الدور لنا.
خدام: كيف ترى التعامل مع الوضع؟ تقييمك للأمور صحيح، والعملية هي عملية تركية- إسرائيلية، وتركيا أداة، في المنطقة حالة حرب تستهدف سوريا وهي جزء من عملية فرض السلام الإسرائيلي ولضمان المصالح الأميركية، ومن ثم دخول تركيا الحرب واحتلال مناطق جديدة في سوريا وتبقى فيها كحزام أمني إسرائيلي وضرب المنشآت الاقتصادية في سوريا، هذه المعلومات أصبحت شبه مؤكدة لدينا.
ما رأيك بالتعامل مع ذريعتهم التي هي حزب العمال الكردي؟ كيف ترى التعامل مع هذا الوضع؟ أنا أسألك كقائد سياسي ومناضل وصاحب قضية، فكيف ترى هذا الوضع، وكيف تقيّمه، وكيف يجب التعامل معه؟
أوجلان: ما تفضّلتم به صحيح، صحيح مئة في المئة، مؤكد نحن الذريعة، وهذا واضح، هناك مخارج معيّنة أحب أن أطرحها.
صحيح أن عشرة آلاف جندي موجودون في شمال العراق، موجودون في آخر مرحلة تمشيطية لهم في المناطق المحاذية لسوريا، إذا كان في نيّتهم احتلال جزء من سوريا أو إشغالها ستكون هذه المنطقة في أقصى الشمال الشرقي في منطقة ديريك (المالكية) بالضبط وهي المحاذية لمنطقة زاخو العراقية.
خدّام: ستكون مناطق النفط، الثروات الطبيعية في محافظة الجزيرة، ونحن ليس لدينا قوات على الحدود التركية- السورية، قواتنا موجودة في مواجهة إسرائيل.
أوجلان: هم يعتبرون أنفسهم مرتبين الوضع العراقي وبحسب شعورهم أن يكتمل الطوق المفروض على سوريا، الوحيدون الذين يعيقونهم هم نحن ومقاومتنا، وفي حال كسر مقاومتنا كما لو ضربونا ضربات كبيرة، يعتبرون أن الوضع أصبح جاهزاً لإكمال الطوق على سوريا وإشغالها.
الجنود العشرة آلاف الموجودين في شمال العراق هم طلائع القوات التي ستأتي لاحتلال شمال العراق وسينتهي الوضع هناك على شكل إسرائيل ثالثة في المنطقة، وسيأخذونها كنقطة انطلاق قوية لهم، هذا هو الاتفاق الذي وصلوا إليه، وفي المرحلة الثانية سيزيدون ضغوطهم على سوريا ولن يلتزموا هذا القدر، الطوق، هذه بداية، شيئاً فشيئاً، وسيحمّلون سوريا أعباءً إضافية وسيزيدون الضغوط على سوريا، المتتبّع للصحافة والإعلام التركي والحرب النفسية التي يحاولونها، واليوم هناك نبأ جديد، فإن خليفة أربكان في حزب الفضيلة له تصريحات شديدة ضد سوريا ويقول إن النظام السوري هو نظام فئوي وديكتاتوري ويهينون هذه الطائفة.
حتى التيارات التي كانت تعتبر نفسها معارضة للسياسات الإسرائيلية في الأوساط التركية صارت تقبل هذا الطرح وهذا الرأي، وهم يحضّرون الرأي العام التركي ويقولون إن نظام الحكم في سوريا لا يمثّل عشرة في المئة من الشعب السوري، و90 % من السنّة سوف يقفون إلى جانبنا، فليست هناك من مشكلة في اختراق العمق السوري لأن أغلبية السوريين سيكونون إلى جانبنا، وهم يبثّون إهانات إلى هذا المذهب وهي رخيصة كثيراً إلى درجة ينظمون حشودات جماهيرية، ويسلّمون الميكروفونات إلى أناس معينين، ويقولون ماذا تريدون من الرئيس الأسد ويبدأون بسباب رخيص خارج الأخلاق وخارج السلوك الإنساني، المهم في العملية هي تهيئة الرأي العام التركي، ليتماشى مع المخطط الذي وضعوه نصب أعينهم، فالهدف في النهاية في رأيهم تغيير النظام السوري حتى أنهم يعتبرون قرارهم شن الحرب على سوريا شبيهاً بقرارهم الذي اتخذوه أثناء 28 فبراير/شباط ضد أربكان، وعندما اجتمع مجلس الأمن التركي اعتبروا هذا القرار مهماً لإبعاد التيار الإسلامي واستلام زمام الأمور مجدداً. في رأيي هم متفقون في ممارسة وتصعيد الضغط العسكري على سوريا إلى حين إحداث تغيير في سوريا على صعيد النظام وقلب نظام الحكم، طبعاً هذا القرار إسرائيلي مثل القرار الذي اتخذوه عندما كان أربكان في الحكم وفي اعتقادي هم مصرّون على تنفيذ قرارهم هذا وتصعيد الموقف العسكري وسائرون به تماماً بشكل جاد.
لنعد إلى النقطة: لماذا يتخذون حزب العمال الكردي ذريعة؟
كنا نُفشل مخططاتهم، بالنسبة إلى شخصي والتركيز عليه منذ عام 1988 وعلى وجودي وهم يضغطون الآن في هذا الاتجاه وإسرائيل وراء ذلك.
في عام 1988 تعرّضنا لمؤامرة إسرائيلية، أرسلوا الكثير من جواسيسهم وعملائهم حولنا، وحاولوا إبراز بعض الشخصيات المعادية لي مثل أحد المحامين الذي وقف ضدي وكان مشروعهم المطروح عليّ عام 1988 أن المستشار النمساوي كرايسكي أعطانا وعداً باستقبالي وقبولي في أراضي النمسا، وإذا أنا بقيت في سوريا أو في البقاع خلال شهرين فسوف نصفّيك، كانت هناك محاولات لإخراجي من هذه الساحة، وإبعادي إلى أوروبا، تكرر السيناريو نفسه قبل ثلاثة أشهر معي، وقالوا لي إذا لم تخرج من سوريا في أسرع وقت ممكن فستكون نهايتك آتية، كانت هناك محاولات لإبعادي عن هذه الساحة، والآن الحملة مكثفة بصدد وجودي في هذه الساحة، المفروض أنه تسليمي أو إبعادي عن هذه الساحة، هم يعرفون في حال خروجي من سوريا سوف أقع تحت سيطرتهم بصورة مطلقة، إذا أُبعدت عن هذه الساحة في رأيهم فسيضعونني تحت رقابتهم، ولديّ خبر من دون أن يعرف أحد أني أخبرتك إياه، ممثل الاتحاد الوطني الكردستاني في واشنطن برهم صالح أخبرني أن الرأي في الأوساط الأميركية يقول طالما أوجلان موجود في سوريا عليه خطر كإرهابي على الساحة الدولية وإذا خرج من سوريا فستُفتح أمامه أبواب كثيرة وتُزال عنه صفة الإرهاب، وإرسال مثل هذا الخبر نوع من الترغيب، هذا هو مخططهم الذي يخصني شخصياً، لن آخذ من وقتك كثيراً، هناك بعض المخارج التي تحدثنا عنها، يجب أن يكون لدينا مخطط بديل أمام ما يعدّ ضدنا، وبكل الأحوال نحن جاهزون رهن إشارة السيد الرئيس، أي شيء يطلبه نحن جاهزون لتنفيذه من دون حدود.
خدام: ما هي المخارج؟ أنت صوّرت الوضع تصويراً حقيقياً وواقعياً، هناك مخطط إسرائيلي- تركي- أميركي لضرب النظام في سوريا واحتلال أراضٍ في سوريا. العنوان عبدالله أوجلان وحزب العمال الكردي- التركي، كيف يمكن إزالة هذه الذريعة لأن إزالتها تساعدنا أولاً بالضغط العربي من جهة وبالضغط الدولي من جهة ثانية لإفشال هذا المخطط؟
أوجلان: إني أرى أن الموضوع مهم جداً، بوجودي أم عدم وجودي أو ابتعادي عن هذه الساحة وحدي، هناك صعوبة في اتخاذ القرار لأني واقع تحت هذا الضغط أيضاً، ولكن ممكن أن نتساعد في هذه المسألة، إني متردّد.
خدام: السؤال كلنا مقتنعون بأن استخدام اسم أوجلان وحزب العمال ذريعة، لكن مع ذلك هناك أوساط عالمية وعربية تقول على السوريين بحث هذا الموضوع، هل نُسقط هذه الذريعة ونمنع تنفيذ هذا المخطط، أم نبُقي الذريعة ويتم تنفيذ المخطط، عندئذ سوف تصاب سوريا بأضرار كبيرة وحركة المقاومة الكردية ستُصاب بأضرار كبيرة، والقاعدة الخلفية للحركة الكردية ستنهار سواء في سوريا أو خارجها، وسيفتحون مع سوريا معركة، ومعركة في العراق لأن مصالحة برزاني وطالباني تأتي في هذا المخطط، لذلك إذا كان يريد أن يفكر أو يناقش مخرجاً أو يريد أن يستمهل إلى الغد ونلتقي ثانية فليست هناك مشكلة».
يروي خدام، حسب وثيقة أخرى، أنه «هنا تدخّل في الحديث اللواء الحسن، فقال: أنا تكلمت بالتفصيل مع الأخ عبدالله حول هذا الموضوع، موضوع خروجه منذ ثلاثة أشهر، يخرج إلى بلد آخر (شمال العراق ويعقد مؤتمراً صحافياً بصورة يُتأكد من خلالها وجوده خارج سوريا)، المهم أن ننتزع فتيل الانفجار، خروجه يعطي مصداقية لنا، بعد فترة تتغير الموازين».
أوجلان: ليس عندي مشكلة في هذا الموضوع، يبقى وضع التفاصيل حتى من الناحية الأمنية ولا تظهر لنا مشكلة.
خدام: إلى أين تفكر في الخروج؟
أوجلان: هناك خيارات ممكن قبرص. ممكن اليونان. ممكن إذا عملنا اتصالات مشتركة مع النظام العراقي، يوجد لدينا هناك معسكر للمتمرّدين الأكراد والأتراك قرب الموصل، أعقد مؤتمراً صحافياً في إحدى الساحات.
خدام: ليس بيننا وبين العراق اتصال سياسي والثقة غير موجودة، فكيف الوضع مع أرمينيا؟
أوجلان: أرمينيا أيضاً ممكنة.
خدام: كما قلت لا بد من عملية التفاف لأن الوضعين الإقليمي والدولي سيئان، وسيأتي وقت تتغير فيه هذه الأوضاع، على كلٍّ عندما تخرج يجب أن تنتبه لأنك يجب أن تعقد مؤتمراً صحافياً وتختفي عن الوجود.
أوجلان: المناورة في هذا الموضوع مفيدة، وأطلب من سوريا مساعدتي لتنفيذ مشروع خروجي من خلال العلاقات السياسية.
خدام: نحن لا نستطيع لأننا نعلن أنك غير موجود في سوريا، فإذا نحن أخذنا المبادرة بالاتصال فسوف نفقد مصداقيتنا، يمكن أن ترتّب الوضع عبر أصدقائك.
أوجلان: ممكن أن أرتّب الموضوع عبر رفاقي في اليونان أو غيرها، وسأباشره وأعمل اتصالاتي، ممكن أن يتطلب بعض الوقت لترتيبها بشكل جيد.
خدام: كم من الوقت يستغرق الترتيب.
أوجلان: الأمر يتعلق بالأماكن التي سأتوجه إليها.
خدام: المشكلة الزمن مهم، يجب الاستفادة من الزمن حتى نبعد تنفيذ المؤامرة».
تدخل الحسن ثانية، قائلاً لأوجلان: «نحن اتفقنا انه من المفيد لنا ولك أن تنتقل لنزع فتيل الانفجار مع تركيا، الأمور تسير بسرعة وهي تتصاعد بشكل كبير ونحن لا نعرف تخطيط أعدائنا، هل يضربون اليوم أو غداً، نحن ننادي بالحوار السياسي وهم ينادون بالقتال، بالتأكيد لهم خطة وتوقيت».
خدام: تحدّث الأخ عبدالله عن الخطة العسكرية التركية، والمناطق المستهدفة موجود فيها القمح والنفط، إذا ضُرب النفط شُلّت سوريا، وإذا ضُرب القمح جاع الناس، والمرحلة الثانية ضد النظام والتعبئة الطائفية، ولذلك نحن نعمل لتفادي الانفجار، لسنا مستعدين لحرب مع تركيا لأن تركيزنا على الصراع مع إسرائيل، تركيزنا في الجنوب وليس في الشمال.
أوجلان: اتصل بي بعض الأطراف وقيل لي إذا أعلنت وقف إطلاق النار مع تركيا من الممكن أن يكون له صدى، ومنذ أول سبتمبر/أيلول هناك وقف إطلاق نار والضغط على سوريا من أجل دعوة سوريا إلى حوار سياسي بين منظمة حزب العمال الكردستاني وتركيا كما حدث في مرحلة أربكان.
اللواء الحسن: لا أذكر. ليس كذلك.
خدام: أبداً هذه الصورة غير صحيحة، في الحوار الماضي قدّمت تنازلات نحن تفاجأنا بها واعتبرها أربكان خطوة كبيرة عرضها على رئيس الأركان ولم يقبل بها، العملية أميركية- إسرائيلية- تركية، وتركيا لها مصلحة في ضرب حزب العمال ولها مطامع في سوريا وهي تريد تخطيط الحدود واعتراف سوريا بالتخلي عن لواء الاسكندرون، خطة الحرب موجودة لدى الأتراك وليست خطة حوار سياسي. الرئيس مبارك قبل وصوله إلى تركيا بساعتين صرح رئيس الحكومة التركية مسعود يلماظ بأن لا فائدة من زيارة الرئيس مبارك وكأنهم يقولون له لا تأت إلينا.
صدر تصريح أميركي أن الولايات المتحدة تتفهّم الموقف التركي بقيامه بضربات في سوريا، والأمر اللافت أيضاً هو أنه تم وقف إطلاق النار منذ سبتمبر وليس هناك عمليات فعلاً، وهذا الوضع لا يستدعي الحماسة التركية، ومع ذلك فالحرارة والحماسة في تركيا للحرب أكبر بألف مرة من الوضع العسكري مع حزب العمال الكردي، إذاً هذه الذريعة وهناك أهداف أخرى يجب أن نراها، حملتهم على السيد الرئيس ومحاولتهم إثارة النعرات المذهبية كما أشرتم، هذا الأمر لا علاقة له بالمفاوضات مع حزبكم، وقد قلت في تحليلك إن الهدف إسقاط النظام في سوريا، إذاً هناك ذريعة والموضوع ليس موضوع تفاوض مع حزب العمال الكردي.
أوجلان: سأتصل بأصدقائنا في اليونان لترتيب الموضوع.
خدام: عامل الزمن ليس في مصلحتنا، والوضع الآن مختلف عما كان عليه قبل عام عندما بحثنا الموضوع نفسه.
أوجلان: سأعمل ترتيباتي في وقت سريع”.
“دمعة في عينيه”
هنا انتهت المقابلة و”ودّعته وكانت الدمعة في عينيه”، حسب خدام. ويضيف: “في الوقت نفسه الألم يعتصر نفسي لأن ليس من السهل أن تقول لإنسان أخرج إلى الموت، وأنا واثق أن هذا اللقاء سيكون الأخير معه.
كان الأمر صعباً بالنسبة إليّ كما إلى القيادة، ولكن الأصعب مصالح البلاد وأمنها وسلامتها، والتي إذا كان لا بد من تضحية فليس بهذه المصالح”.
وغادر الرجل سوريا إلى اليونان يوم الخميس في 8 أكتوبر، وكادت اليونان تلقي القبض عليه فتوصّلت جماعته إلى ترتيب لإخراجه إلى روسيا حيث بقي هناك حوالي أسبوعين، ثم لجأ إلى إيطاليا بعد ضغط أميركي على موسكو، على الرغم من قرار مجلس الدوما إعطاءه اللجوء السياسي.
وفي إيطاليا بقي بعض الوقت ونتيجة الضغوط الأميركية والتركية وبالترتيب مع اليونان رحل إلى كينيا وهناك في عاصمتها اختطفته المخابرات التركية في فبراير / شباط 1999، وأحيل إلى المحاكمة وحُكم عليه بالإعدام بعد أشهر ولايزال في السجن الى الآن.
ما بعد أوجلان
اتصل الرئيس مبارك بالرئيس سليمان ديميريل وأبلغه الموقف السوري واتفق الرئيسان على زيارة وزير الخارجية مصر يوم الاثنين 11 أكتوبر. وفي لقاء صحافي سئل الوزير الشرع عما يمكن أن تتخذه سوريا، فأجاب: “نحن مستعدون لمناقشة الهواجس الأمنية لدى تركيا”.
وقام الشرع بتسليم الرئيس المصري ورقة عمل تتناول العلاقات السورية- التركية وهي في الأصل الورقة التركية بعد إدخال تعديلات عليها.
وفي الثاني عشر من أكتوبر زار عمرو موسى وزير خارجية مصر انقرة واجتمع إلى الرئيس التركي ووزير خارجيته إسماعيل جيم، وعرض الرد السوري وكانت الأجواء إيجابية وتم الاتفاق على ما يلي:
عقد اجتماع أمني على الحدود السورية- التركية خلال أيام.
يعقبه اجتماع لوزيري الخارجية لدراسة جميع المشاكل العالقة بين البلدين، الأمن، المياه، والانتقال بالعلاقات إلى مناخ إيجابي وتعاون.
مر السيد عمرو موسى بدمشق وأبلغ وزير الخارجية السوري هذه النقاط. وفي 13 أكتوبر، أبلغ السفير التركي الخارجية عن نقاطٍ، من بينها:
اتفق البلدان على عقد اجتماع ثنائي سري في مكان ما في تركيا قرب الحدود السورية.
سوف يكون موضوع الأمن هو الموضوع الوحيد للمباحثات، كما قيل للسيدين عمرو موسى ووزير خارجية ايران كمال خرازي، وتم إبلاغ السفير التركي بموعد في 19 أكتوبر وبعد مناقشات بين الجانبين تم الاتفاق على الموعد وأن يكون في أضنة التركية، حيث عقد الاجتماع وتم توقيع اتفاق أضنة للتعاون الأمني في أكتوبر 1998.
مجلة المجلة
Be the first to write a comment.