يقترح “لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والازدهار والفقر” لمؤرخي الاقتصاد الأمريكيين دارون أسيم أوغلو وجيمس روبنسون جوابا للغز كبير حاولت الأديان والأيديولوجيات وانهمك الفلاسفة، والمنظّرون السياسيون، على مر العصور، على حلّه. من “جمهورية أفلاطون”، و”مقدمة” ابن خلدون و”أحكام” الماوردي السلطانية، مرورا بـ”أمير” ميكيافيلي و”لفياثان” توماس هوبز و”بيان” ماركس الشيوعي. يستهلك الجواب، مجمل تفكير ونضال الأحزاب، وهموم البشر في كل مكان.
يقدّم الكتاب ربطا شاملا وعميقا وعابرا للجغرافيات والتواريخ، بين قضيّة فشل الأمم حين ترسخ تحت نظم دكتاتورية، تحارب الإبداع والعلم، وتحتكر السلطة فيها فئة محددة تتوارثها وتمنع باقي المواطنين منها، وتنجح في النظم التي تسمح لسكانها بالمشاركة في السلطة، وتشجع نتاجاتهم العلمية والاقتصادية.
هل هي صدفة أن يبدأ المؤلفان مقدمتهما للكتاب بسؤال: لماذا امتلأ ميدان التحرير للإطاحة بحسني مبارك؟
أغلب الظن، أنه بدا لمؤلفي الكتاب، في تلك اللحظة التاريخية التي يستعيدها الكتاب، أننا كنا نعيش مرحلة فارقة عالميا وأن شعوب العرب، قد بدأت مشوارها الذي سبقتهم إليه الكثير من أمم الأرض الأخرى، وأنهم كانوا في صدد حلّ ذلك السؤال المعضل الذي حكم على أمتهم بالفشل، الذي جعل منطقتهم خارج معايير التطور السياسي في العالم، بل وجعل بعض دولها من كبار المستثمرين في مناهضة الديمقراطية، ليس في المنطقة العربية فحسب، بل في كل أنحاء العالم!
ردا على سؤالهما: ما هي القيود التي تمنع المصريين من أن يصبحوا أكثر رخاء وهل ظاهرة الفقر في مصر غير قابلة للتغيير، يستشهد المؤلفان ببعض المصريين الذين تمكنوا من التقاط العلاقة بين السياسة والاقتصاد، حيث قال أحدهم “آمل أن يكون لدينا حكومة منتخبة تطبق مبادئ الحريات العامة وأن نضع نهاية للفساد. وحسب الكتاب: لقد رأى المصريون والتونسيون “أن مشاكلهم الاقتصادية ترجع بصورة جوهرية لحرمانهم من ممارسة حقوقهم السياسية”، وأن جميع العوائق والصعوبات الاقتصادية التي يواجهها المصريون “تنبع من المنهجية التي تمارس وتحتكر بها السلطة السياسية من قبل قطاع ضيق من النخبة”.
يقوم الكتاب بتفنيد بعض أساطير النخب السياسية الأثيرة، ومن ذلك قضية الثقافة، فسكان مدينة نوغاليس هم من الطبيعة الثقافية نفسها، لكنهم مقسومون بين دولتين، الأولى في ولاية أريزونا الأمريكية، والثانية في مقاطعة سونورا المكسيكية. يمكن تطبيق هذه المعادلة على سكان ألمانيا قبل الاتحاد، وسكان كوريا الشمالية والجنوبية حاليا.
تلوم فرضية الثقافة الأفريقيين لافتقادهم أخلاقيات العمل وإيمانهم بالسحر ومقاومتهم التكنولوجيا، والأمريكيين اللاتينيين لأنهم مسرفون ومفلسون ويؤمنون بثقافة التأجيل الايبيرية، والصينيين لأن ثقافتهم معادية للنمو والتطور الاقتصادي، ويستنتج الكتاب أن “العلاقة بين الدين الإسلامي وحالة الفقر الموجودة في الشرق تعد زائفة إلى حد كبير”.
يحفر الكتاب عميقا في جذور الاستبداد التاريخية، مشيرا إلى أن قائمة الثلاثين دولة التي تقع في قمة الثروة العالمية، وبينها أمريكا الشمالية، وأوروبا الغربية، وأستراليا واليابان، لم تكن تختلف عن الثلاثين دولة التي تقع في أسفل الترتيب الآن، مثل دول أفريقيا جنوب الصحراء، وأفغانستان، وهايتي، ونيبال. التقسيم بين الدول الغنية والفقيرة، هو تقسيم تاريخي يرتبط بتطور المؤسسات السياسية، في القائمة العليا، ويعود لفترة يمكن أن تصل لمئة وخمسين عاما.
في استعراضه للإرث التاريخي الذي تركه الاستعمار الاسباني لأمريكا اللاتينية، الذي بدأ عام 1490، يوضح المؤلفان كيف كانت مبادئ السياسة تعتمد اعتقال الزعيم الأصلي للجماعة البشرية واستخدام ذلك للاستيلاء على الثروة المتراكمة، ثم تنصيب الاسبان أنفسهم كنخبة جديدة للمجتمع الأصلي، الذي يعمل سكانه الأصليون على دفع الضرائب وتوفير خدمات العمالة، “مقابل مساعدتهم في اعتناق الديانة المسيحية”.
حاول المستعمرون الإنكليز الأوائل في أمريكا الشمالية استخدام السيناريو الاسباني لكنهم فشلوا، واضطرت شركة فيرجينيا التي أرسلتهم اعتماد “نظام حكم جديد” لا يقوم على استغلال السكان الأصليين بل تقديم محفزات للمستعمرين عبر تبني “نظام منح الأراضي” والمنازل، وإنشاء جمعية عامة، مكنت الرجال البالغين من المشاركة بآرائهم بشكل فعال في القوانين والمؤسسات التي تحكم وتدبر شؤون المستعمرة. تمكنت المستعمرات الثلاثة عشرة من تشكيل الكونغرس الأول لها عام 1774 والذي مهد لاستقلال الولايات المتحدة وكان ذلك بداية نشوء الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية.
تشبه الديمقراطية، بهذا المعنى، الطفرة بالمعنى البيولوجي، فقد حصلت نتيجة ظروف معينة، وكانت بداية انطلاق عمليّة تطوّر طويلة في التاريخ البشري. ورغم أن تلك الطفرة صارت متاحة، لمجمل النخب الاسبانية في أمريكا اللاتينية بعد ظهور حكومة اسبانية قيّدت الملك دستوريا عام 1812، فقد رفضت تلك النخب التغيير وحكمت على نفسها والشعوب التي تحكمها بسياق تاريخي طويل من الاستبداد، وصار تاريخ أمريكا اللاتينية هو تاريخ الثورات والحروب الأهلية والحكومات العسكرية، ورغم بدء ظهور أنظمة ديموقراطية منذ تسعينيات القرن الماضي فإن الإرث التاريخي الطويل للاستبداد ما زال ينوخ عليها.
انتهك دياز، أحد قادة المكسيك العسكريين، حقوق الملكية الخاصة بالشعب فصادر مساحات شاسعة من الأراضي وقام بمنح وسائل الاحتكار والامتيازات لمؤيديه في شتى مجالات الأعمال، ومن المثير لتفكر قارئ الكتاب العربي، أن يلاحظ كيف أن الآليات الوحشية التي أطلقها الاستعمار ونظم احتكار النخب المستعمرة للثروة والسلطة، تتطابق مع ما فعلته الأنظمة التي أنشأتها أيديولوجيات ثورية مناهضة للرأسمالية (كما هو حال الاتحاد السوفييتي السابق) أو مناهضة للاستعمار (كما هو حال الحكومات العسكرية التي نشأت في الجمهوريات العربية).
تظهر هذه المفارقة أن أيديولوجيات النخب الحاكمة، والتسميات التي تعطيها لأنفسها غير مهمة. ما يهم هو قدرة المواطنين على تغيير الساسة ومراقبتهم ومنعهم من إساءة استخدام السلطات المخوّلة لهم لتكديس ثرواتهم الشخصية وصياغة القوانين التي تناسبهم (واختراقها عندما يريدون) وانتهاك حقوق البشر. هذا ما يحدد نجاح الأمم أو فشلها، وهذا الفشل يشمل النخبة المحتكرة أيضا لأنه يدمر المحفزات والفرص الاقتصادية ويحقق القليل من الموارد التي يمكن الاستحواذ عليها، وهو ما يجعل انجرار البلاد نحو الحرب الأهلية مسألة وقت.
يشير الكتاب لـ”نمط مثير للاهتمام يوجد في الشرق الأوسط”، حيث أن الدول الغنية بالنفط فيها مستويات دخل قريبة من الدول في أعلى القائمة “غير أنه اذا انهار سعر النفط، فإن هذه الدول سوف تنحدر لأسفل القائمة بمعدل سريع”. يشير الكتاب أيضا لمثال الأرجنتين، التي كانت واحدة من أغنى الدول في العالم ثم دخلت مرحلة انحدار طويل، والاتحاد السوفييتي الذي شهد نموا سريعا بين 1930-1970 ثم شهد انهيارا سريعا.
مهم أيضا شرح الكتاب لحدود التجربة الصينية الحالية، فهو يقول إن المعدل السريع للنمو، ما زال يحدث في ظل مؤسسات استحواذية، وفي ظل سيطرة الدولة، وبالتالي فإن هذا النموذج لن يحقق نموا اقتصاديا مستداما، وعندما تصل إلى سقف حدودها فإن النمو سيتوقف، ورغم أن المركزية السياسية سمحت للاتحاد السوفييتي، والصين حاليا، بالتفوق في مجالات عديدة، فإن هذا النمو سينحدر نحو نهاية مفاجئة.
نتيجة مهمة يخلص لها الكتاب وهي أن الصراع بين السلطات في الدول التي تستحوذ فيها نخبة معينة على السلطة، يمكن أن يفكك الأنظمة الحاكمة وقد يتحول لحرب أهلية وربما لدمار وانهيار تام للدولة (كما نشهد بوادر ذلك حاليا، في اليمن وسوريا).
القدس العربي
Be the first to write a comment.