شرفتُ الأسبوع الماضي بدعوة كريمة من محمد بوزداغ منتج مسلسل “قيامة أرطغرل” ومسلسل “المؤسس عثمان”، وغيرهما من أعمال الدراما التاريخية. وهو شاب تركي عبقري، وضع بصمته على وجدان مئات الملايين من البشر، وأحيا العزة الإسلامية في النفوس بإنتاجه الفني البديع. ويتضمن هذا الإنتاج الغزير -إلى جانب هذين العملين اللذين يرويان قصة الجذور في تاريخ الدولة العثمانية- أعمالا أخرى مهمة، منها مسلسل “منديرمان جلال الدين” الذي يروي الصفحات الأخيرة من تاريخ الدولة الخوارزمية في وسط آسيا وهي تقاوم العاصفة المغولية، ومسلسل “يونس إمره” (1238-1328م) الشاعر التركي ورائد الشعر الصوفي في بلاد الأناضول، ومسلسل “كوت العمارة” عن حصار العثمانيين للجيش البريطاني وإرغامه على الاستسلام المهين في مدينة “الكوت” العراقية، حيث اختلطت الدماء التركية والعربية عام 1916 في إحدى أروع الملاحم العسكرية التي عرفتها الحرب العالمية الأولى.
وكان محمد بوزداغ قد أسس في غابة بضواحي إسطنبول عددا من المواقع المطابقة للمواقع التاريخية القديمة، من أجل إنتاج مسلسلاته التاريخية؛ فبنى مضارب لخيام القبائل التركية، ومواقع للجيوش المغولية، ونماذج من القلاع الصليبية. وقد سمح لي مشكورا بزيارة خيمة أرطغرل وعثمان، والتجوال في مضارب قبيلة (الكايي)، وقصور السلاجقة والخوارزميين، ومضارب المغول، وقلاع الفرنجة. فسعدت بالتجوال في تلك الربوع، في رحلة تاريخية ساحرة، ترجع بالخيال إلى القرون الخوالي. وزاد من سعادتي أن أخبرني الأستاذ بوزداغ أنه قرأ الترجمة التركية لكتابي “أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية”، وهو كتاب يتناول صفحة معقدة من الحقبة التاريخية التي يركز عليها بوزداغ في أعماله الدرامية.
وكانت مضارب قبيلة (الكايي) التي ينتمي إليها عثمان -مؤسس الدولة العثمانية- أكثر تلك الأماكن سحرا ومداعبة للخيال، فقد جذبتني أصالتها وبساطتها الفطرية، وربما كان لخلفيتي البدوية أثر في هذا الانجذاب. وفي داخل “خيمة السيادة” التي قاد منها سليمان شاه قبيلته، وتربى في ظلالها ابنه أرطغرل وحفيده عثمان، تربعت في صدر المجلس، معتمدا على أحد السيوف التي وجدتها معلقة داخل الخيمة، فأحسست بالرهبة في ذكرى الخالدين، وسبحت بخيالي في عالم الدول والشعوب الإسلامية، في القرنين السادس والسابع الهجريين، وهي تخوض معركة بقاء، بين العاصفة المغولية التي اجتاحتها من الشرق، والموجة الصليبية التي اخترقتها من الغرب، والنخر الباطني الذي سعى لهدم أركانها من الداخل.
لكن صديقي لطيف كيناتاش -مدير دار “معنى” للنشر في إسطنبول -وقد تشرفت بصحبته وصحبة صديقي الإعلامي طوران كيشلاكجي في هذه الرحلة- قطع علي سباحتي الخيالية في التاريخ، حين امتشق سيفا من السيوف المعلقة في الخيمة، وهاجمني به، فخضت معه مبارزة رمزية بالسيوف، لم تكن نتيجتها في صالحي. فقد اتضح أن صديقي التركي أمهر مني في القتال، فحشرني في موقف دفاعي ضعيف، ولم أستطع مجاراته في لعبة السيوف العثمانية.ثم جلستُ إلى جانب الأستاذ بوزداغ، فشرح لي رؤيته ومطامحه العظيمة، التي تدل على وعي عميق بالحروب الثقافية التي يموج بها عالـمنا اليوم. فهو عازم على انتزاع مساحة لائقة برسالة الإسلام وقيمه وحضارته في الدراما العالمية، متسلحا في ذلك بعبقريته الفنية، وعزيمته الفولاذية، وإحساسه العميق باحترام الذات الذي هو منبع كل إبداع أصيل. وهو مصر على أن يتجاوز المسلمون حالة الانفعال وردود الأفعال في هذا المضمار، وأن يخوضوا معركة القيم بأدوات الدراما التي هي أعمق أثرا وأسرع نفاذا إلى القلوب من قوالب الفكر المجرد. وقد ذكرني حديثه بقول الشاعر الفيلسوف محمد إقبال “إن جفاف المنطق لا يقوى على مقارعة نضرة الشعر”.
وبالمناسبة فإن الأستاذ محمد بوزداغ لم يتخرج من أكاديميات الفنون الغربية، ولا حرص على التمسح ببريقها، سعيا وراء الاعتراف والتقدير. كما أنه لا يتحدث لغة غير اللغة التركية التي ارتضع لبانها في صباه. بل هو خريج جامعة “صقاريا” التركية، ومتخصص في علم الاجتماع. ولكنه بنى على تاريخ طويل من التراث الفني والثقافي لشعبه وأمته، واستثمر ومضات العبقرية الفطرية التي منحه الله إياها، وحمل الهم الثقافي والأخلاقي نيابة عن شعبه وأمته. ولو كان من الشغوفين بثقافة الغرب لربما كان إنتاجه تقليدا باهتا لأعمال الغير، لا إبداعا ذاتيا نابعا من ثقافة أمته ووجدانها. وقد نالت أعمال بوزداغ التشجيع من الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي صرح مرة بأن مسلسل أرطغرل “رد على أولئك الذين يستخفون بقدرات تركيا وشعبها”.
ويمكن اعتبار “قيامة أرطغرل” و”المؤسس عثمان” -بدون مبالغة- ثورة ثقافية في الزمن الحاضر، فقد حقق هذان العملان وأعمال محمد بوزداغ الأخرى نجاحا قل نظيره، فقد ترجم مسلسل أرطغرل -مثلا- إلى أكثر من 25 لغة، وبث على قنوات تلفزيونية في أكثر من 80 دولة، ووصل مجمل المشاهدات التي حصلت عليها حلقاته على قناة يوتيوب إلى أكثر من 3 مليارات مشاهدة. وكان النجاح الأكبر لأعمال بوزداغ الدرامية في دول العالم الإسلامي، بحكم الاشتراك في الوجدان القيمي والثقافي بين شعوبه، وجاذبية الرسالة الإسلامية التي تحملها هذه الأعمال في ثنايا حبكتها المحكمة وإخراجها البديع، وتركيزها على مرحلة صعبة من التاريخ الإسلامي، تشبه المرحلة التي نعيشها اليوم من أوجه عدة؛ إذ العالم الإسلامي محشور اليوم بين القوى الشرقية والغربية، الطامعة في وضع اليد على ثرواته، والطامحة إلى تقرير مصائره السياسية على هواها، وهو يعاني من تمزق داخلي خطير؛ تماما كما كان الحال في أثناء العاصفة المغولية، والاختراق الصليبي، والنخر الباطني، منذ 80 قرنا خلت.
وقد تحولت أعمال محمد بوزداغ إلى رسالة للجمهورية التركية إلى العالم، ومنفذا دخلت منه تركيا والثقافة التركية إلى قلوب مئات الملايين من البشر، خصوصا في العالم الإسلامي. ففي الدول العربية بلغ مشاهدو “قيامة أرطغرل ” و”المؤسس عثمان” وغيرهما من أعمال بوزداغ، عشرات الملايين، بل تجاوز عدد مشاهديهما داخل تركيا ذاتها أحيانا، رغم وفرة عدد المواطنين الأتراك الذين شاهدوهما بشغف. ولم تكن الشعوب الإسلامية الأخرى أقل شغفا بهذه الأعمال، فقد حصلت على متابعة الملايين في دول إسلامية أخرى، كما تشير إلى ذلك سلسلة مقالات بصحيفة “ديلي صباح” التركية. ومن هذه الدول -على سبيل المثال لا الحصر- باكستان، وبنغلاديش، وتنزانيا، وأوغندا، ونيجيريا. ولا ننسى دول وسط آسيا، التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي، فهي دول تنتمي شعوبها إلى الفضاء الحضاري والتاريخي ذاته، وقد شارك بعضها في إنتاج بعض أعمال محمد بوزداغ، كما هو حال أوزبكستان -مثلا- التي شاركت حكومتها في إنتاج مسلسله عن الدولة الخوارزمية.
وقد نالت أعمال محمد بوزداغ مكانة رسمية في الدول الإسلامية التي يتسم قادتها بالوعي الثقافي والحاسة الإسلامية. ففي قطر كانت الريادة في دبلجة مسلسل “قيامة أرطغرل” إلى اللغة العربية، وبثه للمشاهد العربي على شاشة تلفزيون قطر الرسمي. كما يدين ملايين المشاهدين العرب للمواطن القطري عبد الله أحمد الهاشمي بترجمة أعمال بوزداغ إلى اللغة العربية عبر منصته “النور تي في”. وفي باكستان شجع رئيس الوزراء السابق عمران خان مواطنيه على مشاهدة مسلسل أرطغرل، وأحال عليه أكثر من مرة في خطاباته وتغريداته على “تويتر”. وفي إحدى تلك التغريدات كتب عمران خان عن مسلسل أرطغرل “إن فيه الرومانسية، والتاريخ، والأهم من ذلك القيم الإسلامية، وسيكون من المفيد تعليم شبابنا تاريخ الإسلام وقيمه”.
وقد نشرت الكاتبة الباكستانية فاطمة بوتو مقالا في سبتمبر/أيلول 2020 بمجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأميركية، تحت عنوان لافت للنظر، وهو “كيف غزت القوة التركية الناعمة باكستان؟”، ركزت فيه على تأثير مسلسل أرطغرل في الوجدان الباكستاني. وأوضحت السيدة بوتو أن هذا المسلسل نال الرقم الأول في نسبة المشاهدة في باكستان على منصة “نتفليكس” (Netflix)، وأن ربع مجمل المشاهدات التي حصلت عليها حلقاته على قناة يوتيوب -وهي أكثر من 3 مليارات مشاهدة- كانت من باكستان. وختمت فاطمة بوتو مقالها بخلاصة معبرة، هي أن هذا النمط من الدراما التاريخية ذات النفس الإسلامي، تدل على أن تركيا ستنتصر على غيرها “في حروب القرن الـ21 الثقافية”.
ولم يتوقف تأثير الدراما التاريخية التي أنتجها بوزداغ عند حدود العالم الإسلامي، بل تجاوزها إلى مناطق بعيدة عن تركيا مكانا ووجدانا، مثل أميركا اللاتينية. فحين وصلت مكان تصوير المسلسلين، وجدت سفير فنزويلا في زيارة للأستاذ محمد بوزداغ، وحدثني الأستاذ بوزداغ أن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادور كان في زيارته قبل ذلك بأسبوع، وأنه طلب منه أن تنتج شركته (شركة بوزداغ للأفلام) عملا دراميا تاريخيا عن البطل الفنزويلي الأسطوري سيمون بوليفار (1783-1830)، الذي اشتهر بلقب “المحرر” (El Libertador) لأنه حرر 5 من دول أميركا اللاتينية من الاستعمار الإسباني، هي فنزويلا، وكولومبيا، والبيرو، والإكوادور، فضلا عن بوليفيا التي استمدت اسمها من اسمه.
ولم تكن رحلتي في مضارب قبيلة “الكايي”، وقصور السلاجقة، ومواقع المغول، وقلاع الصليبيين، خالية من الهموم. فقد كانت أسئلة تشغل بالي طيلة تلك الرحلة التاريخية الساحرة، وهي؛ أين الإنتاج العربي في مجال الدراما التاريخية البديعة والهادفة خلال العقود الأخيرة؟ هل انتهى ذلك الإنتاج مع اغتيال الراحل مصطفى العقاد الذي ترك لنا أثره الخالد في فيلم “الرسالة” وفيلم “عمر المختار”؟ لماذا تجتهد بعض الحكومات العربية في تبديد أموال طائلة من خزائن شعوبها المنكوبة في إنتاج الدراما الهابطة، التي تهدم ما بقي من عناصر المناعة المعنوية والأخلاقية في نفوس شعوبها؟ ولماذا تحرص هذه الحكومات على تسخير الدراما -حتى في شهر رمضان المعظم- في هدم أسوار العقائد والقيم الإسلامية، وزرع الذلة واحتقار الذات في ضمائر الأجيال الجديدة، وترويضها على مركب النقص أمام الغير، ونشر الإباحية والعدمية بين صفوفها؟
لقد حلمت في رحلتي إلى التاريخ مع الأستاذ محمد بوزداغ بأن أرى “شبكة الجزيرة” تضم إلى صرحها العظيم قناة جديدة باسم “الجزيرة دراما”، تحمل على عاتقها تقديم الأعمال الدرامية الأصيلة، التي تجمع بين الإبداع والرسالة الهادفة، وتنقذ الوجدان العربي من سموم الدراما الهابطة، التي تقتحم كل بيت عربي اليوم. فلا توجد مؤسسة مثل “شبكة الجزيرة” تملك الخبرة والهمة والإمكان لملء هذا الفراغ الخطير في الثقافة العربية اليوم، ومزاحمة أعداء الهوية العربية والقيم الإسلامية بالمناكب، وهزيمتهم في ساحة الدراما. لقد هزمت شبكة الجزيرة خصومها وخصوم الشعوب العربية في عالم الإعلام السياسي، وأثبتت قوتها وجدارتها بشكل اعترف به الأعداء قبل الأصدقاء، لكنها -بكل أسف- تركت لهم عالم الدراما فارغا خلال ربع قرن من عمرها، ولا يتمكن باطل إلا على فراغ من الحق. فهل تستدرك شبكة الجزيرة هذا الأمر اليوم؟ وهل ستسد هذه الثغرة في دفاعات الشعوب العربية؟
وعودا على بدء أقول إن الدراما التاريخية البديعة التي ينتجها الأستاذ محمد بوزداغ اليوم تشبه صوت ذلك “الزارع” الذي ناجاه مالك بن نبي في أنشودة رمزية صدر بها كتابه القيم “شروط النهضة”. وهو زارع يبذر البذور بهمة وأمل في المستقبل، ويترك للرياح حمل تلك البذور إلى كل الآفاق. ويشبه ضجيج الدراما الهابطة تلك الأبواق المهرجة ومنابر الإلهاء التي تحدث عنها مالك في أنشودته، وهي أبواق ومنابر تسعى إلى التشويش على أصوات العزة والحرية، وصرف الناس بعيدا عنها بكل حيلة. ولذلك سنختم هذا المقال بأنشودة مالك بن نبي الرمزية التي نورد هنا نصها كاملا، ونترك للقارئ الكريم متعة التأمل فيها، واستخلاص العبرة منها. يقول مالك بن نبي:
“أي صديقي!
لقد حانت الساعة التي ينساب فيها شعاع الفجر الشاحب بين نجوم الشرق..
وكل من سيستيقظ بدأ يتحرك وينتفض في خدر النوم وملابسه الرثة.
ستشرق شمس المثالية على كفاحك الذي استأنفته هنالك في السهل، حيث المدينة التي نامت منذ أمس ما زالت مخدرة.
ستحمل إشعاعات الصباح الجديد ظل جهدك المبارك في السهل الذي تبذر فيه، بعيدا عن خطواتك..
وسيحمل النسيم الذي يمر الآن البذور التي تنثرها يداك بعيدا عن ظلك.
ابذر يا أخي الزارع من أجل أن تذهب بذورك بعيدا عن حقلك، في الخطوط التي تتناءى عنك في عمق المستقبل.
ها هي بعض الأصوات تهتف، الأصوات التي أيقظتها خطواتك في المدينة، وأنت منقلب إلى كفاحك الصباحي..
وهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم، سيلتئم شملهم معك بعد حين.
غن يا أخي الزارع!
لكي تهدي بصوتك هذه الخطوات التي جاءت في عتمة الفجر نحو الخطو الذي يأتي من بعيد..
وليدو غناؤك البهيج كما دوى من قبل غناء الأنبياء، في فجر آخر، في الساعات التي ولدت فيها الحضارات.
وليملأ غناؤك أسماع الدنيا أعنف وأقوى من هذه الجوقات الصاخبة التي قامت هنالك.
ها هم ينصبون الآن على باب المدينة التي تستيقظ السوق وملاهيه، لكي يميلوا هؤلاء الذين جاؤوا على إثرك، ويلهوهم عن ندائك..
وها هم قد أقاموا المسارح والمنابر للمهرجين والبهلوانات، لكي تغطي الضجة على نبرات صوتك..
وها هم قد أشعلوا المصابيح الكاذبة لكي يحجبوا ضوء النهار، ولكي يطمسوا بالظلام شبحك في السهل الذي أنت ذاهب إليه..
وهاهم قد جملوا الأصنام ليلحقوا الهوان بالفكرة.
ولكن شمس المثالية ستتابع سيرها دون تراجع، وستعلن قريبا انتصار الفكرة، وانهيار الأصنام، كما حدث يوم تحطم هبل في الكعبة”. (مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 17-18).
موقع الجزيرة نت
Be the first to write a comment.