ما هي إلا بضع ساعات وينتهي “العهد الأسود” في لبنان، لكن اللبنانيين الآملين بنهاية “جهنم” التي دفعهم ذلك “العهد” اليها محكومون بالانتظار من دون أي أفق. إذ يغادر ميشال عون رئاسة الجمهورية متشاركاً مع حليفه “حزب إيران/ حزب الله” في التخطيط بدم بارد لمرحلة جديدة من الشغور الرئاسي، غير آبهين بالدولة ومصيرها، ولا بمآسي الشعب اللبناني ولا بأن ثمانين في المئة منه (أو أكثر) أصبحوا بين فقراء وتحت خطّ الفقر، وهو ما لم يحدث لهم منذ عقود وأعادهم الى عهود ما قبل تأسيس الكيان والدولة اللبنانيَين.
كان الشغور السابق دام عامين ونصف العام، وقد افتعله “الحزب” لفرض ميشال عون رئيساً، وهو يفتعل الشغور الجديد لأن تغييراً طرأ في تركيبة المجلس النيابي فأفقده الغالبية المريحة وعرقل سعيه الى فرض أحد مرشّحَيه: إما بنقل الرئاسة من عون الى صهره/ وريثه جبران باسيل، أو وفاءً لوعد قطعه لحليف آخر هو سليمان فرنجية المفتخر دائماً بعلاقة “تاريخية” مع رئيس النظام السوري. يفضّل “حزب إيران” أياً من الرجلين، بعدما خبر اخلاصهما له ولسلاحه غير الشرعي على رغم أن هذا السلاح لم يعد “يقاوم” إسرائيل، بل يقيم معها “صفقات” ويُستخدم فقط للتسلط على اللبنانيين وقمعهم ولقتل السوريين والعراقيين واليمنيين. والواقع أن لا “الحزب” ولا هؤلاء ولا سواهم من حلفائه يعطون انطباعاً ولو ضعيفاً بأنهم واعون هول الأزمة الشاملة التي عصفت بالبلاد، وأن لديهم العزم والإرادة لإخراجها من هذه الأزمة. كلّهم يفكّرون في مصالحهم و”الحزب” يوهمهم بأنه يرعى مصالحهم، لكنه يشغّلهم جميعاً في مشروعه للسيطرة على لبنان كموقع للنفوذ الإيراني على المتوسّط.

الأزمة الاقتصادية والمالية الأكبر في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وفقاً للهيئات الدولية، بما فيها من “سرقة العصر” لأموال اللبنانيين ومدّخراتهم، لكن “حزب إيران” وأتباعه نصّبوا مطلع 2020 حكومةً كانت مهمتها الأولى دفع البلاد الى الانهيار… واحدٌ من أضخم الانفجارات (غير النووية) في العالم ضرب مرفأ بيروت ودمّر جزءاً مهماً من العاصمة، لكن “حزب إيران” وأتباعه وأطرافاً خارجية تواطأوا جميعاً للتعتيم على الأسباب واعفاء من كانوا في سدّة المسؤولية ويعرفون كلّ الحقيقة أو بعضاً منها، من أي مسؤولية… انتفاضةٌ شعبية عابرة للطوائف والمذاهب هبّت للاحتجاج على الفساد المستشري وعلى التآمر الداخلي لتدمير الدولة والاقتصاد والمجتمع، وللمطالبة برحيل منظومة سلطة تحميها الميليشيا والمافيا كعقاب طبيعي على جرائمها في حق الشعب والبلد، لكن “حزب إيران” تولّى محاربة “انتفاضة تشرين” وضمان بقاء المنظومة بعدما أصبحت من أدوات شغله وحلقةً أساسية في مشروعه.

استطاعت الانتخابات أن تُحدث اختراقاً في البرلمان، لكن “التغييريين” المنتخبين لم يتمكّنوا من اختراق المنظومة ولا خط دفاعها الأول المتمثّل بـ “حزب إيران”. وما بدا ويبدو حالياً من اختلافات “طبيعية” بين “التغييريين” لم يعد يرشّحهم لأي دور ايجابي ومفيد، وأشاع انطباعاً بأن المنظومة نفسها حيّدتهم وحاصرتهم بل اخترقت صفوفهم وحدّدت سقفاً لخطابهم. إذ أن إحجامهم عن نقد إيران و”حزبها” يعني أولاً وأخيراً أنهم يتجاهلون ما يفكّر فيه ناخبوهم، فغالبية الشعب تعتبر أن المنظومة سبب الأزمة وأن “الحزب” هو علة وجود المنظومة واستمرارها. ولا شك أن عدم استقطاب “التغييريين” أي حلفاء وامتناعهم عن رفد المعارضة، “سياديةً” كانت أو غير ذلك، أقصيا وسيُقصيان أي معنى لرفضهم المنظومة، وأي مغزى لوجودهم في البرلمان، ولن يؤدّي بالتالي إلا الى وضعهم على الهامش، ليكون ذلك في نهاية المطاف خدمةً “مجانية” للمنظومة واصطفافاً غير معلنٍ الى جانبها حتى لو لم يكن إرادياً.

فترة الشغور الرئاسي البادئة قد تقصر أو تطول، لكنها تختلف عن سابقاتها بأن لبنان في أزمة آثر “حزب إيران” و”التيار العوني” وسائر أطراف المنظومة مفاقمتها واستخدامها لإخماد انتفاضة الشعب ولدفع الدولة الى الإفلاس واسقاط الاقتصاد والعملة الوطنية الى قاع القاع. وفي الأثناء ظل ميشال عون يتفاخر بصواب أخطائه، والمطالبة بصلاحيات كان بإمكانه أن يمارسها لو اختار أن يكون رئيساً حقيقياً مدركاً واجباته، بدل أن يتباكى لأن خصومه “ما خلّوه” أي لم يمكّنوه من طرح الإصلاحات الملحّة التي يحتاجها البلد أو من محاربة الفساد، كما أدّعى، علماً بأن الفساد الأعظم حصل بعلمه ورعايته في مجالين: الأول في قطاع الكهرباء، كما تشير المؤسسات الدولية المختصّة، وقد تولّاه صهره باسيل منذ 2009 وراكم فيه أكثر من نصف المديونية الحالية للبلد. أما الآخر، وهو أكثر خطورة، فكان بتمكين إيران و”حزبها” من السيطرة على لبنان وتشويه صورته في الداخل والخارج، والأهم بجعله سلعة في مزادات إيران ومساوماتها الدولية لتثبيت نفوذها، بدليل اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.

شكّل هذا الاتفاق البداية الفضلى لإدارة مرحلة الشغور الجديدة بالنسبة الى إيران و “حزبها”، فالترسيم لم يكن ممكناً لولا موافقتهما ودفعهما منظومة السلطة اللبنانية الى التوقيع عليه، وإلى إبقائه سرّياً وإبعاد الجيش عنه لأنه بُني على شروط مجحفة في حق لبنان. إذ أن التذبذب بين الخطّين 23 و29 انتهى الى منح لبنان “حقل قانا” منقوصاً ومتضمّناً حصة لإسرائيل، وحرم لبنان حصةً هي له في “حقل كاريش” الذي ابتلعته إسرائيل كاملاً. كان في الإمكان، على الأقل، أن يحصل لبنان على “حقل قانا” كاملاً بدلاً من تقاسم بعض العائدات (17%) مع إسرائيل، لكن الامتيازات (النفطية والسياسية) التي اكتسبتها إيران برّرت التنازل للوسيط الأميركي والطرف الإسرائيلي. هذا التنازل لمسه اللبنانيون ولم تكن هناك مبالغة في اعتبارهم أن هذا الترسيم حصل عملياً بين “الاحتلال الإيراني” و”العدو الغاشم”. أما المبالغة فهي تهليل “حزب إيران” و”التيار العوني” بـ “الانتصار” الذي تحقّق بهذا الاتفاق.

لكن هناك “انتصاراً” يتمثّل في أن “الحزب” و”التيار” أعدّا العدة للاستحواذ على الثروة البحرية عبر شركات وسيطة وأخرى وهمية، بحيث لا تحصل الدولة إلا على نذر قليل منها. أما “الانتصار” الأكبر والأهم فيعود الى “الحزب”، إذ أن أحداً لم يعد يشير الى سلاحه غير الشرعي، ثم أن دوره في مفاوضات الترسيم بلور قبولاً ضمنياً، أميركياً – فرنسياً – اسرائيلياً، باعتباره “الحاكم الفعلي” للبنان شرط أن يضمن “الهدوء والاستقرار” في منطقة الغاز والنفط، كما ضمن تمرير التنازلات الحدودية من دون احتجاجات تذكر. وبذلك لا تكون “جهنم” إرث ميشال عون فحسب، بل تلك التنازلات، وإذا لم يتمكّن من توريث صهره الرئاسة فإنه يورّث لبنان لإيران و”حزبها”.

النهار العربي