لن يحقق الرئيس الأميركي دونالد ترامب جميع الأهداف التي حددها في حروبه المدهشة التي نزلت كالصاعقة على العالم في غضون أسابيع من رئاسته، لكنه لن يتراجع تماماً. رئيس السقف العالي يعتمد الصدمة كتكتيك في إستراتيجيته، ثم يراقب أثرها وردود الفعل نحوها، وبعد ذلك يقيّم بارامترات parameters إجراءاته.

دونالد ترامب لا يؤمن بالتقاليد السياسية ولا بالمعاهدات والاتفاقيات كما سبق واعتمدتها الدول. دونالد ترامب يقوم بإعادة ترتيب النظام العالمي القديم، لكنه لا يقدّم نظاماً عالمياً جديداً كبديل. يؤمن بأنّ الضغوط بتعريفها التقليدي ليست كافية بل يجب أن ترافقها التجارة والقيود والرسوم الجمركية كأدوات حادة. هذا الرئيس يبني سياساته على مبدأ الصفقة التي يطرحها انطلاقاً من الضغوط، بمعنى: خُذها كما هي، أو لا تأخذها take it or leave it.

هذا رئيس يؤمن بأن الله أنقذ حياته بعد محاولات اغتياله لأنه يريد له أن يجعل أميركا دولة عظيمة، وهذا ما قاله حرفياً في خطاب قبوله الرئاسة. هذه مهمّة إلهية، كما يراها، بتكليفٍ إلهي له شخصياً. لذلك يضرب دونالد ترامب الأرض بقدميه، يخطّ إمضاءه بقلم أسود عريض على أوامر تنفيذية، يرتجل السياسات بلا مشاورات لا مع فريقه ولا مع وزراء وخبراء. فهو البراغماتي الأذكى والأقوى والأغنى والأكثر جرأة على طرح أفكار خارج الصندوق، وكل هذا بتكليف إلهي، حسب اعتقاده، فمَن سيوقفه، وكيف؟ وهل أساليبه وطروحاته أثبتت نسبة عالية من النجاح، حتى الآن، أو أنّها تهدد بانهيارٍ آتٍ على أجنحة الغطرسة؟

الملفات عديدة، من الصين إلى غزة، من الضغوط الاقتصادية القصوى إلى التلميح بإجراءات عسكرية بالرغم من تكراره بأنه يكره الحروب. دونالد ترامب يريد إرثه أن يكون صانع سلام، لكنه يتبنى الآن سياسة زرع بذور الحرب. يتباهى بأنه رجل عادل، لكنه يتحدّث بلغة التهجير القسري وتحويل مأساة المدنيين في غزة إلى مشروع سياحي فوائده كبيرة على المستثمرين.

رئيس الاستثمارات والصفقات مقتنع في صميمه أنه يقدّم الحلول للفلسطينيين بلا أيّ تأنيب ضمير لاقتلاعهم من أرضهم وضمّ أراضيهم في مشروع “ريفييرا” على نسق مشروع صهره جاريد كوشنر في ألبانيا. في صميمه، يعتقد دونالد ترامب أنه يرأف بالفلسطينيين. إنما في صميمه أيضاً، دونالد ترامب يدرك أنه يتبنّى المشروع التوراتي لإسرائيل في الضفة الغربية وغزة التي يسميها الإسرائيليون “إيهودا والسامرة” وتريدها إسرائيل جزءاً من أراضيها بضمها الضفة الغربية وغزة الجديدة “النظيفة” من الفلسطينيين.

فلطالما توالت القيادات الإسرائيلية في رفضها الفعلي لقيام دولة فلسطينية لأن الأردن، في نظرها وسياساتها الأساسية، هو “الوطن البديل للفلسطينيين”. ولطالما غمزت إسرائيل بأنّ “القنبلة السكانية” داخل إسرائيل، إشارة إلى تزايد عدد الفلسطينيين، يتطلب من إسرائيل إفراغ غزة والضفة من الفلسطينيين عبر مشروع “ترانسفير”، وربما اتّخاذ خطوات نحو فلسطينيي إسرائيل أيضاً.

الكارثة تكمن في أن إسرائيل خلقت حركة “حماس” كي تقدّم لها الذريعة لإجراءاتها التعسفية وإستراتيجيتها الخبيثة. “حماس” اعتقدت أنّها وُجِدَت للتنافس على السلطة مع منظمة التحرير الفلسطينية، ثم وجدت نفسها تقدّم الذريعة، كما فعلت في أحداث 7 تشرين الأول / أكتوبر، التي أوصلتنا إلى تصريحات الرئيس الأميركي الخيالية.

دونالد ترامب، وهو في نشوة العظمة، أعطى لنفسه حقّ مطالبة مصر والأردن بفتح أبوابهما أمام الفلسطينيين من غزة، وقال علناً إنه يفكر بوسائل ضمّ الضفة الغربية لإسرائيل. لن تكون الزيارة المرتقبة إلى واشنطن لكلّ من العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي زيارة سهلة. فترامب يُحرج كلاهما بقوله إنهما سيلبّيان طلبه لأنّ أميركا تعطيهما الكثير، غير مبالٍ بالانطباع الذي يتركه وهو الابتزاز الاقتصادي والسياسي لمصر والأردن اللتين تتلقيان مساعدات أميركية. الرئيس الأميركي مقتنع بأنّ مواقفه لا تُعدّ تصعيداً، وإنما هي حلول عملية وبراغماتية تخدم الفلسطينيين، ومن الطبيعي للقيادتين المصرية والأردنية أن تتفهم وتفهم ذلك.

الإحراج الكبير سيكون لدى قيام الرئيس السيسي والملك عبدالله بزيارة الرئيس ترامب في البيت الأبيض. مهما تحصّنا بمواقف عربية، هذا لن يمنع الرئيس الأميركي من مواقف تصعق القيادتين تنطلق من اقتناعه بأنّ ما يطلبه منهما منطقي، وأن عليهما تلبية مطالبه.

الموقف السعودي الجلي بوضوحه على مستوى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان المعارض لأفكار ترامب والمصرّ على حلّ الدولتين موقف فائق الأهمية وله تأثيره على إمكانية هبوط دونالد ترامب من أعلى السلم الذي تسلّق إليه طبقاً لأسلوب السقف العالي الذي يتبناه. عسى ألّا يقصد الرئيس ترامب، غافلاً أو واعياً، توريط السعودية وقيادتها في دهاليزه معتقداً أن الرياض سترضخ لمطالبه ومواقفه البهلوانية. الأجدى بالرئيس ترامب أن يفهم كلفة نزول أيّ قائد عربي عند رغباته لمجرد أنّه رئيس أميركا العظمى، أو لأنّه يقدّم الشراكة الأمنية والاقتصادية الثنائية. هناك حدود، حتى لجنون العظمة و”للتكليف الإلهي”.

ما يتطلبه الوضع الآن هو أن تدرس القيادات العربية الأساسية الخيارات العملية المتاحة أمامها وأن تفرض على القيادات الفلسطينية أن تستدرك وتقوم بما عليها القيام به في هذه الحقبة الخطيرة. لا يجوز للقيادات الفلسطينية أو حتى للمتعاطفين مع المأساة الفلسطينية أن يبقوا في برج “القضية” الفلسطينية، وأن يخوّنوا العرب ويُبرّئوا أنفسهم.

هذه لحظة حقاً مصيرية لأنّ دونالد ترامب لا يمزح ولن يتراجع كلياً. قد يلطّف البعض من مواقفه المتطرفة، لكنّه لن يتنازل عن جميعها. إذا لاقى أمامه خريطة طريق للهبوط من أعلى الشجرة، قد يفعل ذلك تدريجاً. إذا وجد نفسه في الزاوية، قد يرتد ويضاعف مواقفه المتطرفة.

هذه ليست مجرّد “بروباغاندا” ترامبية، كما يحلو للبعض أن يقول هروباً إلى الأمام. إنها الترامبية البراغماتية. فلتسرع القيادات العربية، بالذات الفلسطينية، إلى التدقيق الجدّي في وسائل…..

صحيفة النهار العربي