في سنتَي 2008 و2011 رفضت محكمة الناصرة طلباً للأسير وليد دقّة للقاء زوجته سناء سلامة التي تزوجها في السجن. وكان الأسير يطلب حقّه في الحياة والحب والإنجاب. عللت المحكمة الإسرائيلية رفضها للطلبَين بأن هذا اللقاء يشكل خطراً على الأمن الإسرائيلي. لكن ميلاد، طفلة وليد وسناء، استطاعت التسلل من بين قضبان السجن نُطفة استولدت الحياة منها حياة لها. ولقد فهمت من الأصدقاء أن ميلاد ستكون معنا في هذا اللقاء. انظروا إلى عينَي هذه الطفلة وسترون أن المحكمة الإسرائيلية كانت على حقّ في خوفها، فأكثر ما يخيف المحتلين والطغاة هو العيون التي تشرق فيها الحياة.

اسمحوا لي أيتها السيدات والسادة أن أبدأ كلمتي بتوجيه تحية حب إلى ميلاد، فزمن الولادات تخطى “الزمن الموازي” لأنه صار نقطة لقاء بين الكتابة والحب. فالكتابة هي ابنة الحب، والحب هو ما يجعل من فلسطين نصاً متعدد الاحتمالات.

ربما احتفظ وليد وسناء بسر النُّطفة لفترة ما، لكنهما لم يستطيعا الاحتفاظ بسر الحمل طويلاً، أمّا الولادة فلم تكن سراً. وهذا لا يعود فقط إلى الاستحالة المادية، ولا إلى قرار الزوجين في إعلانه كموقف، بل إلى دلالات كلمة “سر” نفسها أيضاً. فالسرّ في علم البديع من الأضداد، والأضداد كناية عن مشترك لفظي يتجلى في احتواء الكلمة الواحدة على معنيين مشتركين في اللفظ، متضادين في المعنى. كلمة سر تعني المخفي والمعلن، وعلينا استكشاف أحد هذين المعنيين من السياق.

الأضداد تشبه الطباق لكنها ليست طباقاً، فالطباق واضح في إشارته إلى التضاد، أمّا الأضداد فتختزن في داخلها المعاني المتناقضة. هكذا قرأتُ كتابَي وليد دقّة: “سر الزيت”، و”سر السيف”، فالبُنية الضدية في كلمة سر ليست استبدالية، ذلك بأن الإخفاء يتدرج من أجل الوصول إلى الإظهار، كأن الضدين ينصهران معاً، من أجل اكتناه مسارات الحكايات ومعانيها.

ثلاثة أسئلة استوقفتني في هذين الكتابين:

السؤال الأول هو النوع. هل هو قصص أم حكايات؟ شعرت بأن هناك شيئاً ناقصاً في تعريف النوع، وتساءلت لماذا لا نستخدم الكلمة العامية في تحديده. ففي اللهجة الفلسطينية تُستخدم كلمات خراريف وخرافية، فنقول خرّف كي نصف ما يقوم به الراوي. لماذا لا نُغْني لغتنا بهذا التعريف العامي الذي يجسد نوعاً خاصاً من القصّ يمزج الخيال بالحقيقة، ويستنبط الخرافة والأسطورة من الحاضر؟

السؤال الثاني هو في الكلمة التعريفية التي وضعها منظمو هذا اللقاء لتحديد المتلقي. فقد وُصف نص “سر السيف” بأنه حكاية للفتيان. وهنا تساءلت هل هذا الوصف صحيح، وإذا كان كذلك، فلماذا سحرني هذا الكتاب وجعلني أصدق كل كلمة فيه؟

القصد من هذين الكتابين هو التوجه إلى الفتيان، لكن هذا الأدب لا عمر له. إنه أدب شعبي ورفيع في الآن نفسه، ولذلك فإنه يخاطب الأعمار كافة. هل كتب أوزوب أو غريم أو ابن المقفع للأطفال أو اليافعين؟ الجواب الذي يقدمه تاريخ الأدب هو كلا، فهذه النصوص كُتبت للقراءة، أمّا لماذا تُستخدم اليوم كأدب أطفال ويافعين، فهذا سر الخرافية الكامن في قدرتها على مزج الوعي باللاوعي والظاهر بالباطن.

أمّا سؤالي الثالث فليس سؤالاً، إنه ملاحظة تتخذ شكل السؤال. الإنسان الفرد أسير الزمن، يكبر ويهرم ويموت، أمّا زمن الأدب فمختلف، فالأدب لا يهرم بل يزداد شباباً مع الزمن، بل أجرؤ على القول إنه يختزن في داخله الأعمار كلها من الكهولة إلى الطفولة.

في سرَّي الزيت والسيف، نعثر على سر كاتب هذين النصين، فهو كاتب يصنع من الخرافية تورية لآلامه وأحلامه. وليد دقّة تحرر من السجن من زمان، وربما هو بيننا الآن، لكنه مختفٍ خلف الزيت السري الذي سال من كلماته، وينتظر اللحظة الملائمة كي ينتقل من الإخفاء إلى الإظهار، وهذا الانتقال ليس لحظة فردية، بل هو الحقّ وقد تحول حقيقة.

لعبة وليد دقّة في الكتابين واضحة المعالم، وهي تتشكل في ثلاثة مستويات:

المستوى الأول، هو العلاقة بين الظاهر والباطن انطلاقاً من لعبة الأضداد في كلمة سر، وهذا ما أعلنته الزيتونة المعمرة أم رومي حين قالت: “ظاهر السر إخفاء، وباطنه إظهار”. هذه العلاقة تختزن سحر الحكاية أو الخرافة وقدرتهما على التوغل في المعاناة الإنسانية انطلاقاً من الحاضر الفلسطيني.

المستوى الثاني، هو إدخال الحيوانات الأليفة كلاعب أساسي: قط يتكلم؛ حمار يعبّر؛ كلب يقاوم؛ عصفور يستطلع. أصدقاء جود هؤلاء هم المتخيل وقد صار حقيقة. نشعر بأننا مع ابن المقفع وقد تحرر من فصاحته العباسية، أو أننا نتجول في ليالي شهرزاد بعدما تخلت عن متوالياتها. وتصل الحكاية إلى ذروتَيها مع الزيتونة أم رومي التي خبأت زيتها كي يكون مدخلاً إلى سر المعرفة والحرية، وباباً إلى حكايات الأسرى، ومع سيف الحاج صالح النصار، وقد تحول مفتاحاً لذاكرة النكبة واللجوء، وسيفاً لحقّ العودة الذي لا يموت.

المستوى الثالث هو الغرابة والعجائبية اللتان تشكلان متن السرد. العجيب والغريب يحرران النص من اللحظة السياسية المباشرة، ويدخلان في العلاقة الغامضة بين الوعي واللاوعي التي تشكل جوهر لعبة الحكاية الخرافية. نحن في فلسطين، في القرية والسجن، نلتقي بالأسرى، ونستمع إلى حكايات الجدة فريدة، لكننا نجوب مع السرد العجائبي في عوالم غريبة تسحرنا، وتجعل من فلسطين حكاية كونية، فينقلنا المجاز إلى آفاق إنسانية تتخطى المكان والزمان.

النزول إلى الخابية في قرية قاقون لا يقل غرابة عن لعبة الهاتف النقال في السجن، ننتقل من الحاضر إلى الماضي، فيحضر الماضي، ويصير الحاضر الموجع ماضياً.

أم رومي روت ولم تعظ، وَجُود اكتشف ولم يُطع.

تعالوا معي في رحلة قصيرة إلى سرَّي هذين الكتابين كي نكتشف سر الكاتب، وسر المكان الذي ترويه الحكايات.

في النص الأول نكتشف أن “سر الزيت” هو الإخفاء، وفي النص الثاني يدهشنا “سر السيف” بقدرته على كشف المخفي وإظهاره، لكن الإظهار والإخفاء ليسا سوى مرحلتين متداخلتين بحيث يصير السر مجرد عتبة للوصول إلى اكتناه المعاني الخفية والمضمرة.

في “سر الزيت” نحن أمام محاولة الفتى جود لقاء والده الأسير. الفتى ليس وحيداً، فهو محاط بأصدقائه الحيوانات: القط: خنقور، والكلب: أبو ناب، والأرنب: السمور، والعصفور: أبو ريشة. محاولة عبور الجدار من خلال حفر نفق تحته تفشل، لأن الصعوبات تبدأ بعد هذا العبور، وهي تتلخص في استحالة الوصول إلى داخل السجن لزيارة الأب المعتقل. هنا يتدخل الحمار ويأخذ جود للقاء شجرة الزيتون المعمرة: أم رومي. أم رومي التي ستقطعها جرافات الاحتلال تأخذ جود ورفاقه إلى داخل جذعها، وهناك تدلّهم على سر الزيت. الزيت موجود في حبات جرجير مطفأة، وما عليهم سوى دهن أجسادهم بزيتها كي يختفوا عن الأنظار. الزيتونة تروي أن هذا الزيت سيساعدهم على التغلب على وباء العصر الذي هو فقدان الحرية.

يمسح جود جسمه وأجساد أصدقائه بهذا الزيت فيختفون وينجحون في الوصول إلى السجن

اللقاء بين جود ووالده يقدم مشهداً ساحراً؛ الوالد لا يرى ابنه بل يلمس يده، والابن يعطي والده هاتفه النقال الذي يضم الصور كلها. لقاء بين الفتى الذي يخفيه الزيت وبين الأب وزملائه خلف الأسلاك الشائكة، جو من الألفة والغرابة ونقاش مدهش في عمقه عن معنى الحرية.

“السجن والجدار هما ظاهر الوباء، أمّا باطنه فهو فقدان العقل والجهل وفقدان الأخلاق.”

تنتهي “سر الزيت” بمشهد مئات الأطفال الذين يختفون بالزيت ليظهروا على الشاطئ الذي حُرموا منه، كأن الإخفاء كان الخطوة الأولى لاكتشاف البحر.

“سر الزيت” هو الإخفاء، لكن كان على جود أن يكتشف سر الإظهار. وهنا لن تفيده أبحاثه في الكيمياء والفيزياء، ويجد نفسه عاجزاً.

بدأت ملاحقة جود بعدما شكّ الإسرائيليون فيه بصفته منظماً لرحلات الأطفال إلى البحر، فيضطر الفتى إلى التخفي في منزل رؤية، لكنه يحافظ على تقليد زيارة الجدة فريدة التي كان يقوم بها مع أقرانه من أحفاد هذه المرأة العجوز التي فقدت ذاكرتها.

وفي أحد هذه اللقاءات تحدث المعجزة عندما يُخرج زين سيفاً كان يحمله فتصرخ الجدة : “المفتاح، المفتاح”.

من السيف المفتاح الذي يفتح الجدران إلى خابية الشيخ صالح النصار في قرية قاقون، تنهض الذاكرة لتشكل باباً إلى إظهار السر.

الجدة تروي حكاية الطرد من منشية وادي الحوارث، وذهابها وهي طفلة مع والدها إلى قاقون من أجل تخبئة الكواشين والأشياء المهمة، على أمل العودة واستعادتها. تروي الجدة عن لعبتها المصنوعة من القماش التي خبأتها في الخابية.

من كلام الجدة تبدأ رحلة جود ورفاقه المليئة بالمغامرات الشيقة، واللحظات الخطرة: يعبرون النهر على ظهر التمساح عمران، ويحملون السيف – المفتاح معهم، كي يُظهروا الحقّ.

القرية في مكانها، البيوت يكسوها العشب، لكنها تنتصب كحاضر وليس كذاكرة، وعندما يفتح جود الحيطان بالسيف، تتكشف الأشياء، كأن الذي كان يكون الآن. أخذ جود ورفاقه البراهين التي تُظهر الحق، وحملوا حبات جرجير كثيرة تختزن الزيت وعادوا الى الجدة التي انتصبت صبية من جديد، وقد جلبوا لها دميتها.

لينا التي رافقتهم مع حصانها تنظر إلى كواشين الأرض وتقول: “إحنا الكواشين، إحنا نسل الذاكرة.”

وتنتهي الحكاية بعشرات الأطفال وقد عادوا إلى قراهم في يوم ذكرى النكبة، بينما احتلت البالونات والطيارات الورقية المضيئة السماء، وقد أُطلق على هذا الحراك اسم “نسل الذاكرة لن ينسى”.

هل تنتهي الحكايتان هنا؟

ليس تماماً، فهذه النهاية تعلن بداية ما، والبداية مرتبطة بعلاقة الإنسان بالأرض وبالطبيعة. شجرة تحكي، وأشجار تنحني لتدل جود ورفاقه على الطريق، وحوت لا ينسى أهل القرية الذين طُردوا منها، والأشياء لا تموت بل تختبئ في الضلوع.

الطبيعة امتداد للروح، فالكاتب لا يؤنسن الطبيعة والحيوانات، وإنما ينطلق من أنها تشكل جزءاً من الطبيعة الإنسانية، ذلك بأن الإنسان جزء من الطبيعة وهي جزء منه.

العلاقة بالأرض وكائناتها دخلت الأدب العربي المعاصر من بوابة فلسطين، وما قام ويقوم به وليد دقّة، ليس في هذين الكتابين فقط، بل في مجمل أعماله الفكرية والأدبية أيضاً، هو قدرته على تجديد هذه العلاقة، واكتشاف آفاقها غير المحدودة.

وليد دقّة يروي لنا حكايته: الأسير الذي اختفى خلف أسوار السجن، يُظهر الكاتب الذي يكسر الأغلال بالكلمات التي تضيئها الرؤيا.

كلماته تشبه حبات الجرجير التي أهدتها أم رومي لجود كي تدله على أن الاختفاء هو عتبة يتم عبورها من أجل الوصل إلى إظهار الحقّ.

بعد “سر الزيت”، أي سر الأسرى، و”سر السيف”، أي سر اللاجئين، ماذا يخبئ لنا وليد دقّة في “سر الطيف”، وهو الكتاب الثالث الذي يختتم به هذه الثلاثية.

لا أعرف الجواب عن هذا السؤال، لكن ما أعرفه هو أن أطياف الأحبة الشهداء تعيش معنا في هذا الألم الذي لا ينتهي.

كيف نستطيع أن نحكي معها، ونروي حكاياتها؟

هذا هو السر الثالث الذي ننتظره، كي يكتمل فينا السر الفلسطيني.

* أُلقيت هذه الكلمة في احتفالية إطلاق كتاب “حكاية سر السيف” لوليد دقّة، في مركز خليل السكاكيني في رام الله، يوم السبت 1 / 10 / 2020. والجدير ذكره أن هذا الكتاب يأتي كاستكمال لكتاب وليد دقّة “حكاية سر الزيت”، والكتابان صدرا عن رام الله: مؤسسة تامر للتعليم.

مؤسسة الدراسات الفلسطينية