رغم اللغط الكثير عن سعي تركيا إلى المصالحة مع نظام الأسد، وإعادة المهجَّرين السوريين إلى بلادهم، ضمن تفاهم بين الطرفين ترعاه روسيا، فإن النظرة العملية تدل على أن هذا الأمر بعيد المنال في الأمد القريب، وأنه ليس من مصلحة تركيا على المدى البعيد. ويحاجِج هذا المقال بوجود حلٍّ لقضية المهجَّرين السوريين إلى تركيا، لا يتضمَّن مصالحة مع الأسد، ولا إرجاع السوريين قسرا إلى بلادهم، ولا بقاءهم في تركيا، بل رجوعهم إلى سوريا بكرامة، بالتوازي مع تحقيق مكسب إستراتيجي جوهري لهم ولتركيا. هذا الحل هو استرداد مدينة حلب من يد النظام السوري عبر الضغط التركي على روسيا.
لقد ربطت الثورة السورية بين مصير الشعب السوري والشعب التركي برباط وثيق، حيث اختلطت الدماء في الميدان، وتعمَّقت الوشائج البشرية والاقتصادية والثقافية
ولسنا نقلل من شأن المصاعب والعوائق التي تقف في وجه هذا الحل، لكنه يبقى أكثر الحلول العملية انسجاما مع مصلحة الشعب السوري ومع المصلحة الإستراتيجية التركية، كما أنه ليس حلا مستحيلا، إذا توفرت له العزائم السياسية والرؤية الإستراتيجية التي تقتنص فرص الاستقطاب الدولي الناتج عن حرب أوكرانيا.
لقد ربطت الثورة السورية بين مصير الشعب السوري والشعب التركي برباط وثيق، حيث اختلطت الدماء في الميدان، وتعمَّقت الوشائج البشرية والاقتصادية والثقافية. وهي وشائج لها جذور تاريخية ضاربة في التاريخ، فقد كانت حلب -منذ قرن واحد فقط- ثاني أكبر حاضرة في الإمبراطورية العثمانية بعد العاصمة إسطنبول.
ولا تزال حلب “مدينة سياسية” و”مدينة حساسة”، كما وصفها عباس محمود العقاد في كتابه عن المفكر الحلبي عبد الرحمن الكواكبي. صحيح أن عهد الإمبراطوريات قد ولى إلى غير رجعة، فلم يعد من الوارد أن يحكم الأتراك العرب، ولا العرب الأتراك، لكن بقيت بين الشعبين أرحام إنسانية وثيقة، وقربى ثقافية عميقة، ومصالح إستراتيجية راسخة، وهذا النسيج المركب يحدد معالم المصير المشترك بين الطرفين.
وليس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمتهم عندي في الشعب السوري، ولا في الثورة السورية. فقد وقف مع الثورة السورية ومع الثورات العربية في ساعة العسرة، وبذلت تركيا بقيادته ثمنا سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا باهظا، جراء هذا الموقف المبدئي والإستراتيجي المنحاز لحرية الشعوب العربية وكرامتها. وقدمت تركيا الكثير في نصرة الشعوب العربية الثائرة، واستقبلت ملايين العرب المهجرين من أوطانهم ظلما وعدوانا، فكفلت لهم العيش في أمان وحرية، بعد أن ضاقت بهم ربوع بلدانهم، واضطهدهم قادة أوطانهم. وليس من الوارد أن تُهدر القيادة التركية هذا الاستثمار الإستراتيجي في الثورة السورية، أو تفرط في الرأسمال المعنوي الذي بنته تركيا لدى الشعوب العربية خلال العقد المنصرم.
إن السعي إلى إعادة السوريين قسرا إلى أحضان حاكم سفاح، وبضمان دولة كبرى يقودها حاكم آخر سفاح، هو دفع بملايين السوريين داخل تركيا وفي الشمال السوري إلى حافة اليأس، وهو أمر يناقض الحكمة السياسية.
صحيح أن تركيا ليست قوة عظمى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، وهي لا تملك الموارد البشرية والعسكرية والمالية التي كانت تملكها أميركا حين هبَّت لإنقاذ أوروبا من النازية مثلا، كما أنها لا تستطيع الوقوف وحدها في وجه القوى الدولية المتعاضدة على حرمان الشعوب العربية من الحرية واستقلال القرار، فضلا عن أن صراع الحرية في الدول العربية لن ينجح إلا بفعل القوى الذاتية، مهما قدمت له تركيا من دعم وإسناد، وصحيح أن تركيا -بحكم الموقع- لديها مصالح إستراتيجية مع أطراف شتى، بما فيها الأطراف المتورطة في دعم النظام الدموي بدمشق، لكن تركيا قوة إقليمية صاعدة، وقيادتها تملك البصيرة السياسية والحاسة الإستراتيجية، فلا يزال لديها الكثير مما تستطيع فعله في الملف السوري، ضمن حدود الزمان والمكان والإمكان.
إن قضية إرجاع السوريين المقيمين في تركيا إلى بلادهم قد لا تتجاوز التسريبات الإعلامية والتصريحات السياسية ذات المدلول الانتخابي، والناظر إلى الموضوع بحاسة سياسية وروح عملية يدرك أن الأمر ليس بالسهولة التي يتحدث عنها الإعلام، أو يزايد بها السَّاسة. فإرجاع بضعة مواطنين إلى أي دولة من دول العالم قسرا وقهرا أمر معقد من كل النواحي: الأخلاقية والإنسانية والقانونية، فضلا عن آثاره على صورة الدولة التي تفعل ذلك، وعلى سمعتها ومكانتها في قلوب الشعوب وفي العالم أجمع.
القيادة التركية ذات حاسة إستراتيجية مرهَفة، وطموح سياسي عظيم، واعتداد كبير بالذات، وهي تسعى لتحويل بلادها من قوة إقليمية إلى قوة عالمية، طبقا للشعار المحبب إلى الرئيس أردوغان: “العالم أكبر من خمسة”. ولن تورط تلك القيادة نفسها في مغامرة إرجاع أكثر من 3 ملايين سوري إلى سوريا قسرا، وهي تدرك أكثر من غيرها أن الأمر مستحيل عمليا. وحتى لو افترضنا أنه ممكن التنفيذ -وهو افتراض خاطئ- فإنه تترتب عليه آثار سلبية ضخمة لا تستطيع تركيا تحملها: إنسانيا وقانونيا وأمنيا ومعنويا.
إن السعي إلى إعادة السوريين قسرا إلى أحضان حاكم سفاح، وبضمان دولة كبرى يقودها حاكم آخر سفاح، هو دفع بملايين السوريين داخل تركيا وفي الشمال السوري إلى حافة اليأس، وهو أمر يناقض الحكمة السياسية القائلة بعدم حشر الخصم في الزاوية، أو دفعه إلى “قتال اليائس”. هذا عن الخصم والعدو، فكيف بالصديق والحليف! ففي سوريا اليوم يوجد عشرات الآلاف ممن لديهم تجربة قتالية وأيديهم ملأى بالسلاح، كما يوجد ملايين ممن لديهم خبرة المواجهة النضالية المدنية مع النظام السوري، وليس لدى هؤلاء ولا أولئك ما يخسرونه بعد أن خسروا كل شيء. فالدفع بهم إلى خيارات يائسة ليس من مصلحة تركيا سياسيا وأمنيا، ولا من مصلحة الشعب السوري بطبيعة الحال.
وقد ينتهي هذا المسار -إذا أريد فرضه بالقوة- إلى الدفع بآلاف الشباب إلى العودة إلى مسارات الغلو والتطرف التي انحسرت كثيرا بعد التدخل التركي في الشمال السوري. والأسوأ من ذلك -من منظور الأمن القومي التركي- هو الدفع ببعض الفصائل الثورية السورية إلى الانحياز إلى المليشيات الانفصالية في شمال شرق سوريا، مما يعني تعاظم الخطر الأمني على الدولة التركية ووحدتها وانسجامها الاجتماعي.
ينضاف إلى ذلك أن هذا الخيار يقود إلى تفريط تركيا بكل الاستثمار السياسي والاقتصادي في الشمال السوري، وهذا أمر مستبعد، فالمتابع للسياسية الخارجية التركية بإمعان يجد أنها قد تنقصها روح المبادرة والمخاطرة أحيانا، وأنها تتحرك غالبا بحذر شديد وحيطة زائدة، لكنها لا تفرط في المكتسبات التي تحصل عليها بالكثير من الصبر الإستراتيجي، فتفريط تركيا في ما أنجزته في الشمال السوري غير وارد.
إن أكثر ما يمكن لتركيا تحقيقه من المصالحة مع الأسد، وتسليمه المناطق السورية التي تخضع الآن لسيطرة تركيا وحفائها من الثوار، هو أن يتولى الأسد ضبط الأمن في المناطق التي تسيطر عليها اليوم المليشيات الانفصالية في شمال شرق سوريا، فيُعفي ذلك تركيا من مواجهة التهديدات الأمنية النابعة من تلك المناطق. لكن أي تعويل تركي على التزام النظام السوري أو الضمان الروسي في هذا المجال لن يكون سديدا؛ فقد أصبح للأميركيين اليد الطولى في تلك المناطق، وهم حريصون -ضمن لعبة تمزيق المنطقة واستنزافها- على منع أي قوة من تصفية المليشيات الانفصالية، علما بأن دعم أميركا للمليشيات الانفصالية مجرد لعبة قذرة لتمزيق المنطقة وهدْم مناعتها، وواهم من يظن أن الأميركيين سيبنون له دولة قومية مستقلة، فلو كانوا ينوون ذلك حقا لأنشؤوا دولة كردية في العراق حين كانوا يحتلونه تماما.
وإذا كانت تركيا بقوتها العسكرية الضاربة، وبحلفها الإستراتيجي القديم مع الولايات المتحدة، لم تستطع تجاوز هذا الحاجز الأميركي المنيع، ولم تستطع تصفية المليشيات الانفصالية في شمال شرق سوريا بسبب الرعاية الأميركية، فلا يتوقع من النظام السوري أن يستطيع ذلك أو يجرؤ عليه. هذا إذا افترضنا أن النظام السوري سيكون صادقا في مصالحته مع الأتراك، وهو أمر غير وارد قطعا، بسبب أيديولوجيته البعثية، وعصبيته الطائفية، وارتهانه لمآرب إيران، وحقدِه العميق على تركيا بسبب دعمها للثورة السورية على مدى عقد من الزمان.
الإستراتيجية التي يجب أن تتضافر على تحقيقها جهود المعارضة السورية والحليف التركي في اعتقادنا هي تحرير حلب من النظام المتهالك، وجعْلها مركزا مزدهرا، ومنطقة استقطاب واستيعاب للمهجَّرين السوريين، ونموذجا سياسيا واقتصاديا يتميز على منطقة سيطرة النظام المتهالك، ويُظهر للسوريين كافة الفرق بين الحرية والعبودية.
ولعل سائلا يسأل: ما العمل؟ فإذا كانت المصالحة مع الأسد لا تفيد تركيا، وهي مجحفة بالشعب السوري، وكان إرجاع السوريين لبلادهم قسرا أمرا متعذرا من الناحيتين الأخلاقية والسياسية، فما الذي في وسع تركيا فعله؟ وما الذي يتعين على الثوار السوريين المراهنة عليه؟ وجوابا عن هذا السؤال الجوهري، يمكن أن نلخص المسارات الإستراتيجية المتصوَّرة في 3 مسارات: أدنى وأعلى وأوسط:
مسار الحد الأدنى
أما مسار الحد الأدنى فهو السائد الآن، وهو سيطرة تركيا وحلفائها من الثوار السوريين على شريط حدودي ضيق داخل الأراضي السورية، خصوصا في ريف حلب، وفي إدلب ذات الكثافة السكانية الكبيرة. وقد تحقق الكثير على هذا المسار حيث تسيطر فصائل الثورة وحلفاؤها الأتراك على نحو 11% من الجغرافيا السورية في الشمال السوري، وبكثافة سكانية كبيرة تناهز ثلث مواطني سوريا، طبقا لتقديرات مركز “جسور” للدراسات.
وقد استطاعت تركيا أن تنتزع من الروس تفاهما حول هذا الموضوع منذ عام 2020، مما حمى تركيا من هجمات المليشيات الانفصالية إلى حد بعيد، وثبَّت ملايين السوريين في الشمال السوري المحاذي للحدود التركية، وحقق لفصائل الثورة مرتكزا إستراتيجيا وورقة تفاوض قوية. فهذا المسار قد تحقق بنجاح إلى حد بعيد، لكنه مجرد تجميد للصراع، دون فتح آفاق جدِّية لحله حلا مرضيا للشعب السوري، ومحققا المصلحة الإستراتيجية التركية.
مسار الحد الأعلى
أما مسار الحد الأعلى فهو دعم تركيا للثوار السوريين في تحقيق انتصار حاسم يترتب عليه إسقاط نظام الأسد، وقيام سلطة ديمقراطية في دمشق متحالفة مع تركيا، بما يجعل سوريا بوابة تركيا إلى المشرق العربي كله، بكل إمكاناته الإستراتيجية والاقتصادية. وهذا هو المسار الإستراتيجي الذي لا ينبغي التنازل عنه في المدى البعيد، مع الإقرار بأنه غير وارد عمليا في الأمد المنظور لأسباب كثيرة، أهمها الاعتراضات الروسية والإيرانية والأميركية على هذا المسار، لأنه يحْرِم الروس والإيرانيين من نفوذهم داخل سوريا، ويمنع أميركا من الاستمرار في لعبة “إعطاء الحرب فرصة” التي تنتهجها، لتدمير الثورات العربية، وتحويلها مصهرة دموية عدمية، ضمن العبث بمصائر الشعوب الثائرة.
المسار الأوسط
أخيرا يبقى مسار الحد الأوسط، الذي نراه المسار الأمثل والأكثر واقعية. ويقضي هذا المسار بسعي تركيا وحلفائها من الثوار السوريين إلى توسيع الحزام الحدودي في الشمال السوري وتعميقه، ليشمل محافظة حلب بالكامل (بما في ذلك حلب المدينة)، وأجزاء من محافظتي الحسكة والرَّقَّة، لبناء منطقة استيعاب للسوريين المهجَّرين، ومنح المعارضة السورية ورقة إستراتيجية في مفاوضات الحل النهائي، وضمان أمن عميق للحدود التركية، وخنق المليشيات الانفصالية.
وفي القلب من هذا المسار استرداد مدينة حلب، لأنها هي القادرة على استيعاب عدد وافر من السوريين المهجَّرين، الذين سيرجعون إليها طواعية، بحكم حجمها ومركزيتها وإمكاناتها الاقتصادية؛ وبذلك يصبح نحو نصف سكان سوريا ضمن المناطق المحرَّرة. وهذا المسار هو ما نراه الخيار الأصوب، والأكثر تحقيقا للمصلحة التركية، ولمصلحة الشعب السوري، ضمن معادلات القوة الحالية، إلى أن يتحقق إسقاط أو سقوط النظام الدموي في دمشق.
فالإستراتيجية التي يجب أن تتضافر على تحقيقها جهود المعارضة السورية والحليف التركي في اعتقادنا هي تحرير حلب من النظام المتهالك، وجعْلها مركزا مزدهرا، ومنطقة استقطاب واستيعاب للمهجَّرين السوريين، ونموذجا سياسيا واقتصاديا يتميز على منطقة سيطرة النظام المتهالك، ويُظهر للسوريين كافة الفرق بين الحرية والعبودية، بين العدل والظلم. ومفتاح تحقيق هذه الإستراتيجية اليوم هو استثمار تركيا في المأزق الروسي في أوكرانيا، واستغلالها حاجة روسيا إلى المتَنَفَّس التركي في مواجهة التطويق الغربي، من أجل انتزاع تنازل جدِّيٍّ من الروس في موضوع حلب.
وليست هذه الإستراتيجية بالسهلة، ولن يكون تحقيقها بغير عوائق، لكن بعض المؤشرات المشجِّعة تجعلها أرجح من غيرها. فلنستعرض أهم هذه المؤشرات والعوائق. أما المؤشرات المشجعة فمنها:
أولًا: أن تركيا قد ارتفعت أسهمها الإستراتيجية كثيرا بعد حرب أوكرانيا، لحاجة الطرفين الروسي والأميركي إليها في الصراع، وهذه فرصة تستطيع تركيا استثمارها في الضغط على الروس، لقبول سيطرتها وحلفائها الثوار على حلب، فيتحقق حلٌّ جذري لقضية اللاجئين السوريين.
ثانيًا: أن روسيا تواجه خطرا وجوديا في أوكرانيا، بعد أن حوّلها الأميركيون والأوروبيون إلى شراك لاستنزاف القوة الروسية، فليس لدى روسيا في الزمن الحاضر من القدرة والإرادة ما يمكِّنها من مقاومة الاندفاع التركي في الشمال السوري، وإن كانت المواجهة بين الدولتين غير واردة أصلا، وهي لا تخدم أيا منهما.
ثالثًا: رغم أن الإستراتيجية الأميركية كانت دائما تدفع إلى استمرار الحرب، طبقا لنظرية “إعطاء الحرب فرصة” التي صاغها الصهيوني الأميركي إدوارد لوتواك، وخصصنا لها مقالا سابقا بهذا الموقع، فإن حرب أوكرانيا تجعل الأميركيين أقرب إلى قبول الضغط على النظام السوري التابع لروسيا.
أما العوائق التي قد تعوق خيار تحرير حلب، واتخاذها مرتكزا إستراتيجيا جديدا للثورة السورية، وللنفوذ الإستراتيجي التركي، فمنها:
التشرذم المستمر في قوى الثورة السورية، حتى في مناطق السيطرة التركية، وآخر ذلك الاقتتال في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بين هيئة تحرير الشام، وفيلق أحرار الشام، ومجموعة الحمزة، ومجموعة السلطان شاه. فمن الصعب التعويل على فصائل متقاتلة لتحقيق إنجاز عسكري وسياسي كبير مثل تحرير حلب.
احتمال الرفض الروسي لأي تنازل لتركيا بشأن حلب، بل حدوث مواجهة مع القوات الروسية أو الإيرانية أو الأميركية؛ وهذه مخاطرة كبرى ليس من مصلحة تركيا ولا الشعب السوري الوقوع فيها. وإذا حدثت تلك المواجهة على الأرض السورية فسيتعقد الوضع أكثر، وقد تفقد الثورة مناطقها الحالية في إدلب.
أن العلاقات الإستراتيجية التقليدية بين تركيا والولايات المتحدة تشهد انحدارا غير مسبوق، بعد أن بدأ الأميركيون يطوّقون تركيا بقواعد عسكرية في اليونان، تشبه الطوق التقليدي التي تضربه أميركا على روسيا والصين. وفي ضوء انهيار الثقة مع الولايات المتحدة، لا تستطيع تركيا المخاطرة بخسارة روسيا.
ومع كل هذه العوائق، فإن السيطرة على حلب تبقى أفُقًا إستراتيجيا مشحونا بالإمكان، سواء بالنسبة للثورة السورية، أو بالنسبة للمصلحة التركية. وعلى هذا الأفق ينبغي التركيز في المستقبل، لا على المصالحة مع الأسد، أو إرجاع السوريين إلى بلادهم، في ظل نظام دموي، يرعاه حلفاء دمويون جرب الشعب السوري فظاعاتهم على مرّ أكثر من عقد من الزمان.
ما يحتاج السوريون اليوم أن يأخذوه في الاعتبار هو أن القضية السورية مجرد تحدٍّ واحد من التحديات التي تواجهها تركيا دولة وكيانا، حيث تواجه تركيا اليوم من الشمال مخاطر تمدُّد الحريق الأوكراني إلى مياهها الإقليمية والاقتصادية في البحر الأسود، وهو بحر بدأت بشائر الغاز التركي تعطي ثمارها منه.
كذلك تواجه تركيا من الغرب الانزياح الأميركي في اتجاه اليونان على حسابها، وبناء قواعد عسكرية أميركية تطوِّقها وتكاد تخنقها في بحر إيجه. وجنوبا في البحر المتوسط تواجه تركيا مواريث الأزمة التقليدية في قبرص، وتحدّي رسم الحدود البحرية مع ليبيا ومصر، وسعي فرنسا وإسرائيل إلى تطويقها من تلك الجهة.
وذلك دون أن ننسى التحديات الداخلية الكبرى في ظل موسم انتخابي حساس: من الانشطار السياسي، والتراجع الاقتصادي الناتج عن وباء كورونا، والعقوبات المالية التي يَفرِضها من يُفترَض أنهم حلفاء تركيا الغربيون، سعيا منهم إلى إسقاط الرئيس أردوغان، وإرجاع تركيا إلى بيت الطاعة وحالة التبعية.
ومع ذلك فليس من الوارد -في تقديري- أن تتخلى تركيا عن قضية الشعب السوري، التي هي قضية إستراتيجية تركية أيضا. وستبقى تركيا -رغم كل هذه التحديات والمخاطر- هي الرئة التي يتنفس بها الشعب السوري، والعمق الإستراتيجي للثورة السورية، ولن يوجد حليف للسوريين مثل تركيا مكانًا وإمكانًا. وقد عبَّرت الجماهير السورية عن رفضها للمصالحة مع الأسد من دون لجلجة خلال مظاهرات الأيام الماضية، وهذا أمر مطلوب ومرغوب ما لم يبلغ حدَّ التأزيم مع القيادة السياسية التركية، لأن هذا التأزيم قد يغذي الاستقطاب الحاد داخل تركيا قبيل الانتخابات، ويزيد من إشعال المزايدات السياسية والإعلامية بين الأحزاب التركية على حساب السوريين. والأصوب أن ينصبَّ جهد قوى الثورة السورية على تسويق الإستراتيجيات العملية التي تخدم الطرفين، وأهمها اليوم استرداد حلب من يد السفاح. فحلَب هي الحل اليوم للثوار السوريين وللدولة التركية.
الجزيرة نت
Be the first to write a comment.