«التهدئة» «إنهاء التصعيد» «وضع حد لدوامة العنف» «ضبط النفس»… مفردات أنهكت من فرط استعمالها عند الحديث عما يجري في الأراضي الفلسطينية وجميعها تعكس تمسكا أعمى، غبيا أو متغابيا، بتلك المقاربة الأمنية الصرفة التي تتعمد إغفال الإشارة، قريبة كانت أو بعيدة، إلى أن الاحتلال هو جوهر الموضوع.

لم تجد وكالة «رويترز» للأنباء من صيغة تعبر بها عما صدر عن اجتماع العقبة الأخير سوى القول بأن «الآمال تلاشت في التوصل إلى تهدئة» في أعقاب هذا الاجتماع الذي استضافه الأردن وحضره مسؤولون أمنيون إسرائيليون وفلسطينيون رفيعو المستوى وذلك عندما رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أي فكرة لوقف بناء المستوطنات.

لم تتلاش الآمال فقط بفعل هذا الموقف المتعنت من الاستيطان، بل كذلك بسبب عمليات المقاومة التي قام بها الفلسطينيون في الأيام الماضية في كل من ضواحي نابلس وأريحا وما أعقب ذلك من سعار لجموع مستوطنين أحرقوا عشرات البيوت والمحال الفلسطينية.

أي قيمة عملية لما جاء في البيان المشترك لاجتماع العقبة من أن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي «أكدا التزامهما بجميع الاتفاقات السابقة بينهما… وجددا التأكيد على ضرورة الالتزام بخفض التصعيد على الأرض ومنع المزيد من العنف» في حين أن إسرائيل، وخاصة مع حكومتها المتطرفة جدا الحالية، ليست في وارد التراجع قيد أنملة عن سياسة «ما لا يحل بالقمع يحل بمزيد القمع»؟!!

حتى الولايات المتحدة التي رحبت على لسان مستشارها للأمن القومي بهذا التفاهم لم تستطع أن تهنأ بترحيبها أكثر من يوم واحد لأن كل الظروف التي تهيأ لانفجارات متتالية ما زالت باقية، وبالتالي لا معنى للاستبشار بأي تهدئة محتملة طالما أن صواعق التفجير ما زالت مزروعة في كل زاوية بفعل استمرار الاحتلال وممارساته.

جاك سوليفان الذي اعتبر أن اجتماع العقبة يشكل «نقطة انطلاق» وأن «هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به خلال الأسابيع والأشهر المقبلة لبناء مستقبل مستقر ومزدهر للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء» وأن «التنفيذ سيكون أمرا حاسما»… بدا منفصلا عن الواقع تماما إلى درجة أخذ أمانيه على أنها حقائق يمكن أن تتجسم على الأرض والسبب واضح وجلي: تجاهل أن الأمر كله، قبل العقبة وبعدها، وقبل كل شيء وبعده، هو الاحتلال.

وإذا ما صدقنا ما ذكرته القناة 14 الإسرائيلية عن تفاصيل الخطة التي وضعها الجنرال الأمريكي مايك فنزل، منسق الشؤون الأمنية في السفارة الأمريكية في إسرائيل، والتي تتلخص بالخصوص في مشاركة أمريكية في التنسيق الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتدريب قوات خاصة فلسطينية مكونة من 5 آلاف عنصر أمني في الأردن ضمن برنامج تدريبي خاص بإشراف أمريكي للعمل لاحقا في جنين ونابلس للقضاء على المقاومة هناك، فإن ما جرى التفاهم بشأنه ليس فقط بعيدا عن معالجة سبب كل المآسي المتسبب فيها الاحتلال بل هو مشروع فتنة داخل الساحة الفلسطينية لن يقود سوى لاحتراب داخلي يقضي على ما تبقى من المشروع الوطني الفلسطيني الذي لم يتبق منه في الحقيقة سوى القليل القليل.

قد نبحث للسلطة الفلسطينية عن كل الأعذار، الواقعية أو المتعسفة، في ظل الاختناق المالي والسياسي الذي تعيشه، لكن وضعها بهذا الشكل الفج أمام شعبها، الذي سئم من عقود الاحتلال وتنكيله، لن يسهم إلا في مزيد تشويهها بجعلها، بشكل مفضوح ومستفز إلى أبعد الحدود، مجرد أداة لحماية الاحتلال وديمومته، مما يدمر مكانتها السياسية والأخلاقية بالكامل، حتى وإن استمرت في الظاهر، كما أنه سيفقد أي تحرك دولي لها المصداقية والدعم الوطنيين الضروريين.

أما الأردن ومصر والتي أشارت القناة الإسرائيلية نفسها إلى زيارات قام بها رئيسا جهازي مخابراتهما إلى رام الله في هذا الإطار وضغطهما على الرئيس محمود عباس للقبول بالخطة الأمريكية بالكامل، في لقاءات جرى بعضها بحضور الجنرال الأمريكي مايك فنزل المشرف عليها، فمسألة تستحق التوقف فعلا بغض النظر عما يقوله الإعلام الرسمي في كل من عمان والقاهرة. ومهما كانت نوايا مسؤولي البلدين، سواء كانت فعلا الحرص على أرواح الفلسطينيين وممتلكاتهم، أو التناغم مع كل ما تطلبه واشنطن منهما، فإن النتيجة في النهاية لن تكون سوى تكريس الاحتلال وتثبيت أقدامه، مع كل ما يعنيه ذلك من تبعات غير محبذة في أوساط الرأي العام في كلا البلدين، المتوتر أصلا بسبب قضايا داخلية مختلفة.

كان يفترض أن عمليات الاحتلال الإسرائيلي التي أودت بحياة 63 فلسطينيا منذ بداية السنة، أغلبهم من المدنيين العزل، ستعجل بإعادة طرح الجانب السياسي لمجمل القضية وإحياء المقاربة الدبلوماسية لحل يحترم القانون الدولي وعشرات القرارات الدولية لكن لا شيء من ذلك قد حدث، بل العكس هو الصحيح.

ما يجري هو أقرب ما يكون بطرح تهدئة معينة الآن بين روسيا وأوكرانيا مع إبقاء احتلال للمقاطعات الأربع الأوكرانية والتطبيع معه.. فلماذا يُستهجن هذا الطرح هنا ويُستحسن في فلسطين؟!

القدس العربي