كان جنكيز خان يحارب، خلال أعوامه الأخيرة، في أفغانستان. ومن الجبال العالية التي تطل على الامبراطورية الكبيرة، التي بدأ معارك فتحها عام 1209، قرّر أن يجمع حكماء الأمم والحضارات العديدة التي وقعت تحت حكمه ليشرحوا أديانهم، ويتناظروا فيها، فحضر رهبان وفلكيون وسحرة وخيميائيون ورجال دين ومتنبئون، سافروا لأشهر من أقصى حدود الإمبراطورية، عابرين الجبال والأنهار للعثور على المخيّم الذي يقيم فيه.

التقى جنكيزخان برجال الدين أولئك، واحدا بعد واحد، واستمع لتعاليم أديانهم، واستفسرهم عن طقوسها، وتقصى تأثيراتها، واختبر دعاواهم الأخلاقية، وقام بتفحص أفكار كل دين معروف في امبراطوريته. كان هناك مسيحيون، تاويون، بوذيون، مسلمون، مانويون، كونفوشيون، وكذلك ممثلو الطوائف الأصغر المشتقة من كل دين.

كان الغازي الرهيب يشارك في تسيير المعارك اليومية، عائدا في الليل للقاء أولئك الرجال، متابعا مباحثاتهم اللاهوتية في معنى الحياة، القدر، والقانون الذي ينظم حياة البشر. بعد لقاءاته مع ممثلي الأديان المختلفة توصل جنكيزخان إلى خلاصة أنه لن يكون لرجال الدين سوى دور محدود في امبراطوريته. لقد كان محاربا يتابع مشواره الدموي في السيطرة والهيمنة والسلطة، ولكنه كان يواجه يأسا ويفتش عن أجوبة لا تستطيع المعارك وحدها الإجابة عليها، وبذلك شكلت معارك أفغانستان خلفية لأحد أغرب وقائع النقاشات الفلسفية في التاريخ، بحيث أن أصداءها، كما يرى جاك ويذرفورد، في كتابه «جنكيز خان والبحث عن الله»، «ترددت بطرق مرئية وغير مرئية عبر العالم اليوم».

من يتيم طريد إلى امبراطور
كان «التاريخ السري للمغول»، هو الكتاب الوحيد من مصادر منغولية الذي سجّل حياة تيموجين (اسم جنكيز الحقيقي)، وقد تحوّل الكتاب نفسه، إلى نص سرّي تتداوله العائلة الحاكمة، أو أشخاص مخصوصون، وعرّضته هذه السرّية لأشكال من التغيير والمحو والتعديل، كما تمت زركشة حياة الفاتح الشهير لاحقا، بحيث تحوّل خبر أنه ولد وهو يقبض على كتلة دموية إلى حكاية أسطورية يذكرها كتاب بوذي عن جوهرة مشعة في يده، فيما كان قوس قزح يلمع في السماء، وستتابع بعض الكتب البوذية، وغيرها، خطّ جعله كائنا أسطوريا.
يمكن بدء حكاية جنكيز من كونه ابنا لامرأة سباها محارب يدعى يسوغاي، الذي تجاهل ابنه، الحقيقي أو العائد للزوج الذي سبيت منه، ولم يكن موجودا عند ولادته فحظي باهتمام شخص آخر أعطاه اهتمامه، والذي كان «رجلا حكيما يقرأ الإشارات» قدم له فراء هدية وتنبأ له بمصير مهم. حسب «زهرة المؤرخين» وهو كتاب لمؤرخ أرمني عام 1307 فإن المغول كانوا يعيشون مثل «الحيوانات المتوحشة، لا يكتبون وليس لديهم دين. يتنقلون بقطعانهم من مكان لآخر بحثا عن المرعى. كانوا قبائل مزدراة تدفع ضرائب للجميع».

في إحدى تنقلاته، ترك أبو جنكيز ابنه ورحل مع العائلة، وكان من حسن حظه أن أنقذه أحد الخانات، وضمه إلى أسرته، وبعد فترة عاد الولد لأسرته فأخذه أبوه مجددا، وهو في عمر الثامنة، ليعيش مع قبيلة أمه لكنه يجد في الطريق شخصا يعرض استضافة جنكيز وتزويجه ابنته بورتي، التي سيتزوجها شابا، وربما كان خطفها، مثلما حصل لأمه، ثم غزوته لاستعادتها، حدثا مؤسسا في التاريخ الأسطوري للفاتح الرهيب، الذي لم يخسر أي معركة، وتمكنت سلالته من الهيمنة على مناطق الدول الحالية لكازاخستان، أفغانستان، تركمانستان، طاجيكستان، قرغيزستان، أوزبكستان، أذربيجان، ايران، جورجيا، أرمينيا، جنوب روسيا وجزء من باكستان والصين. تمكن الطفل اليتيم، الذي هجّرت القبيلة عائلته لتموت في جبل قفر، من الانتقال من طفل مطارد جائع فقير إلى قائد عسكري هزم كثيرا من الملوك، ووحد قبائل سهوب منغوليا، على اختلاف أديانهم، وقادهم للهجوم على أفغانستان لمطاردة ابن سلطان خوارزم المتمرد، حيث سيتعرّض حفيده الأحب إلى قلبه للقتل، فيمنع الحداد عليه ويبدأ بانتقام مرعب من المدن والمناطق التي يستبيحها ويراكم جثث ساكنيها كالتلال.

اختراع الأمة المنغولية
هذه التجربة القاسية غيّرت الغازي الكبير، وأطلقت أسئلة دينية وروحية لديه، وبدأ فقهاء الأديان والفلسفات يتقاطرون عابرين المدن التي ذبح أهلها ودمرت مبانيها. كان جنكيز خان يرى أن الدين هو مرادف للسياسة، ولكن مساره كان شديد الاختلاف عن سابقيه ولاحقيه. بمفاهيم اليوم، يمكننا أن نعتبر أن الأيديولوجيا التي حولت جنكيز من مجرد قائد عسكري صغير لفاتح كبير ارتكزت على عمودين: القومية التي نحتها لعشائر السهب بتسميتهم المونغول، وقرار اعتماده الأبجدية السريانية، التي أخذها من الأويغور المانويين، أما الدين الإحيائي الذي كان يرتكز على تقاليد غير كتابية فلم يكن عائقا لتقبل الأديان الأخرى. مع نهاية تلك النقاشات الدينية والفلسفية خلص جنكيز خان إلى أهمية الديانات العالمية لكنه قرر ألا تكون لديانة واحدة سيادة على الأديان الأخرى، وأن يؤمن قانونه السلام بين أتباعها.

لعب صعود جنكيز علاقة كبيرة بمسألة التسامح الديني مع الآخرين، ويمكن اعتبار واقعة صراعه مع تيب تيغيري، الشامان الأكبر (الذي عيّنه فبدأ بجمع سلطة كبيرة وحشد الأعداء ضد جنكيز وعائلته) حدثا مؤسسا، فقد انتهت ليس بقتل الشامان فحسب، بل بإلغاء وظيفة رجل الدين الأكبر للأمة المنغولية وبتجميع القداسة المدنية والدينية في الحاكم. بعد ذلك، ساهم القضاء على ممالك وضم أفرادها المنتمين لأديان مختلفة، في خلق حاجة ملحة للتوفيق بين تلك العناصر القبلية والدينية واللغوية المختلفة، وهو ما تم، بداية، عبر صهر القبائل والممالك في السهب المنغولية تحت راية قومية واحدة، وعبر التزاوج المتبادل، الذي أدى، مثلا، إلى زواج الامبراطور وأبناءه من مسيحيات، وزواج بناته أيضا من أبناء ملوك أو زعماء، وأدى اتساع الامبراطورية، التي ضمت أديانا وإثنيات ولغات ومدارس فكرية كثيرة، معطوفا على تجارب الاستعارة المفيدة من معارف (العمارة والسياسة للكونفوشيوسيين الصينيين والحساب والتجارة للمسلمين…) وأفكار ومهارات الأمم الأخرى، إلى حاجة أكبر للوصول إلى حل فريد.

من جنكيز إلى جيفرسون
بعد قرابة 500 عام على تأسيس جنكيزخان لامبراطوريته (بحدود عام 1685) نشرت باحثة بروتستانتية فرنسية تدعى آن دي لاروش ـ غيليام كتابا فتح بابا جديدا لرؤية جنكيزخان غير أنه فاتح همجي ودموي، وتوالت بعد ذلك أعمال أدبية وموسيقية عالمية حوله، وفي عام 1710 قام مترجم فرنسي يدعى فرنسوا بيتي دي لاكروا، بنشر سيرة لجنكيز قال فيها إن قانون الفاتح المنغولي جعلته مختلفا عن الفاتحين الآخرين، وتلقى الكتاب تقبلا من الأمريكيين الذين رأوا تشابهات بين آراء المنغول والهنود الحمر حول الحرية الفردية والانفتاح الروحي المتناقضة مع إرث المسيحية الأوروبي. كان توماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسسين لأمريكا، أحد المثقفين الذين اهتموا بإرث جنكيز، ورغم أنه كان مؤمنا بالتسامحية الدينية قبل معرفته بذلك الإرث، لكن الساسة والمفكرين الأمريكيين كانوا بحاجة لمثال، وهو ما شكله قانون جنكيز خان الذي لم يمنع أو يعاقب أي إيمان بأي دين يخالف دينه فحسب، بل إنه منع أيا كان من إزعاج أو إيذاء أي شخص بسبب دينه، وأمر بترك أي شخص لحريته في الاعتقاد الذي يناسبه. بدأ جيفرسون في كتابة قانون الحرية الدينية عام 1777 واستغرق قرابة 10 سنوات لإيجاد الصيغة التي وافقت عليها ولاية فرجينيا عام 1786، وهو القانون الذي دخل لاحقا باعتباره المادة الأولى في دستور الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أسبقية في تاريخ السياسة الحديث للعالم.

كان الصراع بين أبنائه أحد أسباب الرغبة في جمع زعماء الأديان، وقد أدى هذا الصراع لاحقا، إلى قيام أحد أحفاده بكسر تقاليد قانونه المقدس بقتل وتعذيب عشرات من العائلة الحاكمة، وامتدت موجة الإرهاب نحو الأديان وقادتها، فعذّب وقتل قائد التاوية، وقائد الإسماعيلية النزارية، والخليفة العباسي المسلم وأبناؤه، وكان ذلك نذيرا بسقوط العائلة نفسها التي قادت أكبر امبراطورية معروفة حتى ذلك التاريخ.

القدس العربي