تتكرّر في بعض الأوساط اليسارية عند اندلاع أيّ صراع مقولاتٌ ومواقف تبحث عن أصلٍ للشر أو عن محرّك علنيّ أو خفيّ له خارج حلبة الصراع المعنيّ، فتجد غالباً ضالّتها في أمريكا.
وحتى لو كان القتل يجري بقوامٍ ونيرانٍ واضحة المعالم والملكية وعلى أرضٍ لا حضور تاريخياً أو راهناً لأمريكا فيها، فلا بدّ من صلة وصلٍ تجعل واشنطن في قلب المعادلة أو مُصَدِّراً للشر المتسبّب بالقتل والنهب والخراب.
ولأمر التنقيب المتكرّر هذا عن مسؤوليات أمريكا ثلاثة أسباب.
السبب الأول، سياسات أمريكا الخارجية خلال الحرب الباردة ثم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتحوّلها إلى القوّة العظمى الوحيدة، وما في هذه السياسات من تدخّلات وانقلابات ومقاربات «احتواء مزدوج» اعتمدتها واشنطن واستحكمت ببلاد قريبة وبعيدة، من نيكاراغوا إلى تشيلي، ومن فييتنام إلى إيران وأفغانستان والعراق. رفد ذلك تأييدٌ أمريكي لأنظمة فاسدة ومستبدّة في أكثر من منطقة في العالم، واستخدامٌ لحقّ النقض الفيتو أكثر من خمسين مرّة لحماية إسرائيل من قرارات أممية تشجب احتلالها واستيطانها وانتهاكها القانون الدولي.
فسمح كل ما وردَ بتكوّن تصوّرات عن السياسة الأمريكية تستسهل التعميم وتعدّ كلّ نزاع أو صراع مرتبطاً بها كما ارتبط ما صرّحت هي نفسها به أو تدخّلت علانية فيه.
والسبب الثاني، جهلٌ بالنظام الأمريكي واعتماد تبسيطيات تجاهه تكتفي بترداد مقولات عن كتل ضغط ونفوذ ومصالح ثابتة لا تتغيّر وخطط مُحكَمة ومعقودة لسنوات طويلة قادمة تُملي الصراعات هنا وتفوّض حلفاء سريّين بإدارتها هناك، بما يلغي أي فهم لآليات عمل المؤسسات في واشنطن وحدود القدرة في التأثير على صناعة القرار فيها، ومما يلغي أيضاً كل ضرورة لفهم المجتمع الأمريكي وتحوّلاته وأولويّاته المتبدّلة ومعنى الانتخابات والتمثيل فيه.
وهذا يجعل اللاجدوى سمةَ العلاقة السياسية بأمريكا وبالسياسة ذاتها طالما أن كل شيء فيها مقرّر ومفهوم ومحسوم سلفاً.
أما السبب الثالث، ففكر غيبيّ يعتنق نظريات المؤامرة ويحيل إلى المكيدة كل حدث يصعب عليه تشريحه أو حتى الاكتفاء تجاهه بما كان الماركسيّون يعمدون إليه سابقاً من تعدادٍ لأسباب ذاتية وأُخرى موضوعية تفسّره.
والأرجح أن في حديث المؤامرات ما يُغري أصحابه باتّخاذ الدهاء لهم درعاً يُعين على «الفهم الثاقب لخفايا الأمور»، ويقي من اتخاذ موقف العامة من المتابعين أو ممّن تَحول المُجريات الظاهرة وصيروراتها دون قدرتهم على النفاذ إلى «الكواليس والمطابخ الداخلية» التي تصنع الأحداث وتحرّك الفاعلين.
وِفق ذلك، لا حاجة للاطّلاع على تاريخ الموضع الجغرافي حيث الحدث أو النزاع، ولا فائدة من قراءة ما يُنتجه علم السياسة من أدبيات حول المجتمعات المنخرطة بصراع أو توتّر، ولا ضرورة حتى لسماع ما يقوله المعنيّون بما يجري، أكانوا فاعلين أو مراقبين أو ضحايا وشهود ذوي تجارب وتماس مباشر مع المجريات. فذكر المؤامرة يكفي لحذف كل ذلك واستبداله بنظريّة يمكن نقلها وتبديل بعض مفرداتها والأسماء والتواريخ فيها وإعمالها في كل مكان وزمان.
الأسباب الثلاثة هذه وسواها، باتت تحوّل السياسة ومواقفها بعرف بعض اليساريّين إلى مناسبات لتأكيد هجاء أمريكا، وللتذكير بمسؤوليتها عن الحروب وعن إطالة أعمار الأزمات أو خلق الشروط المناسبة لإعادة إنتاجها.
فإن قصفت روسيا أوكرانيا اليوم واجتاحتها، فالمسؤولية أمريكية. وإن سحقت الصين الإيغور في أقاليمها الغربية، فإمريكا هي المُفبرك أو المتسبّب بذلك، وإن تبادل الجزائر والمغرب التهديدات، فلا فهم للأمر من دون مراجعة أمريكا. وإن تقاتل الأثيوبيون أو الأريتريّون، وجب البحث عن أمريكا والتذكير بتدخّلها (الفاشل) ذات مرّة في الصومال.
والمشكلة أن الردّ على المنطق المتهافت هذا وغيبيّاته التي تجعل مقولاته متوقّعة سلفاً بمعزل عن ظروف أي حدث وعن خلفيّاته وعن هويات المنخرطين فيه، قد يبدو أحياناً دفاعا عن أمريكا أو نفياً لفكرة أن في السياسة مصالح هي على الدوام ما يحاول الأقوياء المحافظة عليه وتحسين شروطهم لتحصيل المزيد منه. على أن الفارق بين تعزيز المصالح والمكتسبات وبين المؤامرات التي لا تنضب، كمثل الفارق بين اعتبار المجتمعات ولّادةً لديناميات ولتناقضات تُفضي إلى صدامات وتحوّلات وبحث عن تحالفات، وبين النظر إليها بوصفها أدوات توظّفها المؤامرات وتقود حركتها عن بُعد.
كما أن السبب الأول المذكور أعلاه، أي تاريخ أمريكا الحديث وما فيه من تدخّلات، يتحوّل في سياق أي سجال محتمل حول المؤامرات والتعميمات إلى سرديّة ثابتة أو ما يُشبه الكلام المُنزل الدائم السريان، فتكفي الاستعانة بالصحيح منه لاعتباره قاعدة تفسّر العالم ودورانه وتقضي على أي تمييز ضروري بين الأحداث والسوابق وأنماط المسؤوليات المباشرة وغير المباشرة فيها. ولا يتساءل اليساريّون الغيبيّون مثلاً عن مغزى كون معرفتنا بمكائد أمريكا الفعلية وتدخّلاتها «السرية» تعود لفضح الصحافة الأمريكية لها إثر تحقيقات وتقصّي حقائق ومقابلات لا يخشى الصحافيون في أمريكا من إجرائها ونشرها والذهاب إلى المحاكم إن اقتضى الأمر دفاعاً عن حقّهم وحقّ المواطنين في الاطّلاع عليها. ولا يتساءلون عن معنى أن نَدين غالباً في تحليلنا للمواقف الأمريكية وأسبابها والمصالح القائمة خلفها لِمعلومات ينشرها مفكّرون أمريكيون في مراكز أبحاثهم وجامعاتهم، تماماً كما نَدين أكاديمياً للمُتداوَل من مناهج نقدٍ للإمبريالية ومن دراساتٍ «بوست-كولونياية» ظهرت في الجامعات ودور النشر الأمريكية إياها…
لإمريكا كقوة عظمى مسؤولية أكيدة في الكثير ممّا يجري في العالم. ولها كأيّ قوّة وسلطة مصالح مستعدّة للدفاع عنها ولاستخدام العنف والجريمة لتطويع من يتهدّدها. وهي بلا شكّ مسؤولة عن مقدار خطير من الفظائع في منطقة «الشرق الأوسط» حيث محور اهتماماتنا. لكنّ الانتقال من هكذا قول إلى اعتبار أي حدث أو مجرىً للأمور مبنيّاً على مكائد أمريكية، أو الزعم بقدرة أمريكا على الحسم النهائي لو شاءت تدخّلاً في أي موضع، أو تبرئة كل فاعل محلّي أو إقليمي أو دولي من مسؤولياته في احتدام صراع أو اشتعال حرب ونسبها إلى أمريكا وحدها، ضروبٌ من الغيب لا يغيّر من تطيّرها وتهالكها أن يساريّين يردّدونها وأن بطاركة لهم ذوي شهرة وسطوة، يعكفون على تكرارها على نحو كسول ومُضجر منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
Be the first to write a comment.