برزت في المراجعات الجادة في العقدين الأخيرين إعادة الاعتبار إلى العديد من المصطلحات والمفاهيم الأساسية التي كانت بُنيت عليها التصورات والمحددات البكر الأولى لطبيعة الصراع القائم في فلسطين، والتي عرّفت أطرافه بتعريفات بالغة الوضوح. لكن بفعل عوامل الحتّ والتعرية، فقد دَرَست تلك المفاهيم والمصطلحات، ووصل الاغتراب عنها إلى ذروته في اللحظة الأوسلوية التي بلغ فيها فقدان المعنى أقصاه!

في بعض تلك المراجعات التي جاء كثير منها في واقع الأمر، كردة فعل عكسية على بؤس اللحظة الأوسلوية، وجرّاء الوعي المتأخر بفداحة كارثيّتها، وفي إثر اليأس أيضاً، من أي رهان أو أمل يُرتجى ممّا كان يُدعى مسيرة أو عملية السلام، أو “حلّ الدولتين”، تتفاجأ تلك المراجعات بمَن أعاد اكتشاف أننا نعيش حالة “استعمارية”، وأعاد تعريف الصهيونية و”إسرائيلها” بأنها حالة كولونيالية متناسلة من حقبة الاستعمارية المديدة. وفي مثل تلك المراجعات التي أعادت الاعتبار إلى مصطلح “استعمار”، لا يصعب على المدقق أن يُحصي في المقالة الواحدة ذات الصفحات العشر مثلاً، ورود مفردة “استعمار”، أو “كولونيالية”، وتصريفاتهما، من دون الضمائر الملحقة بهما، ستين أو سبعين مرة إن لم يكن أكثر! كأن تكرار المفردة يأتي في حد ذاته، تعبيراً عن حالة الاحتفاء بالاكتشاف الجديد ونأكيده وترسيخه.

وكان بين هؤلاء المراجعين مَن امتلك الشجاعة، وقاده هذا المنطق الذي أعاد تعريف الصهيونية بأنها حالة كولونيالية ذات شحنة عنصرية مثقلة، إلى خاتمة تسلسله السليم، وذلك بإعادة تعريف حالة المواجهة التي يفرضها الوجود الاستعماري الاستيطاني الإحلالي، بأنها “حالة تحرر وطني”. ويأتي هذا الاستنتاج كأنه رد على جميع النقاشات والمحاججات والأطروحات والتنظيرات التي بشَّرت عند اتفاق “أوسلو” بأن “مرحلة التحرر الوطني” قد انتهت وطُويت صفحتها، وأننا بصدد “مرحلة البناء الوطني”! في تلك الآونة، أصبح لدينا مؤسسات من نوع “جمعية المقاتلين القدامى” وشرع البعض يحدّثك عن تجاربه القديمة في العمل السرّي، كأنها صفحة انطوت وآن أوان البوح بأسرارها! وانتصب هناك مَن نعى على “التنظيمات” التي كانت مشتغلة بـ “التحرير” تقصيرها الفادح في قضايا المجتمع والبناء المجتمعي، بينما ذهب آخرون إلى تعريف مزدوج للمرحلة بأنها “مرحلة تحرر وبناء وطني” في الآن معاً، وأخذوا يحدثوننا عن نظريات في التنمية المستدامة أو نصف المستدامة، بعد أن طُوي الحديث القديم عن اقتصاد الصمود!

لكن حتى هؤلاء الذين أوصلهم استنتاجهم المنطقي إلى إعادة الاعتبار، واعتماد أننا في “مرحلة تحرر وطني”، لم يصل بهم الأمر إلى الذهاب باستنتاجهم إلى منتهاه الطبيعي، وهو الخلوص إلى الدعوة إلى “تحرير فلسطين”، ولا سيما أن العديد من أصحاب هذه المراجعات مَن كان أسقط من حسابه هذا الخيار أو الهدف في العقود الماضية في إثر الوقوع تحت تأثير “التفكير الواقعي” الذي أنضجته الهزائم العسكرية، أو ربما تحت تأثير “القناعات الأيديولوجية” لدى البعض الآخر التي كانت نظّرت للتعايش والتصالح والسلام.

لقد كان “تحرير فلسطين” ولا شيء غيره، هو “الدين السياسي” الذي اعتنقه الفلسطينيون بعد سقوط البلاد في سنة 1948. وكان هو أبو الأهداف الوطنية العليا التي تتفرع عنه، وتقع دونه، أي أهداف أُخرى. وعندما نشأت التنظيمات الفلسطينية منذ بواكيرها بين ظهراني الشعب الفلسطيني في أواخر خمسينيات القرن الماضي، حملت أسماؤها وبرامجها وأدبياتها هدف “التحرير”، ولا شيء غيره. فكان هناك جبهة “تحرير” فلسطين، كما أن حركة “فتح” لم تكن غير حركة “التحرر” الوطني، وعندما تأسست المنظمة لم تكن سوى منظمة “التحرير”، ولاحقاً ستأتي الجبهات: الشعبية، والديمقراطية، والعربية، والفلسطينية، والقيادة العامة، وليس لها من مهمة إلّا “تحرير” فلسطين!

وعندما صاغ الفلسطينيون مواثيقهم وعهودهم الغليظة التي أقسموا عليها، والتي طالما وُصفت في حينه بأنها “إنجيل الثورة”، فإنها لم تكن سوى مواثيق تحرير، ولا شيء غيره! فـ “الميثاق القومي” الذي صيغ في أيام أحمد الشقيري، وردت فيه لفظة “تحرير” من دون كلمات: حرّ وحرية وأحرار، 22 مرة في 29 مادة. أمّا في “الميثاق الوطني” الذي جاء كتنقيح على سابقه “القومي”، وتطوير له، فوردت فيه هذه اللفظة 34 مرة في مواده الـ 34! ومن اللافت أنه لم يرد في الميثاقَين أي ذكر أو حتى مجرد إشارة إلى موضوع “الدولة” أو “الدولة الفلسطينية” كهدف من الأهداف التي يسعى الفلسطينيون لتحقيقها! وإنما كان هناك مواد فيهما ترشد وبصورة واعية إلى أنه لا توجد مهمة تفوق مهمة التحرير، حتى لو كان ذلك كياناً أو دولة!

لقد مرّت عملية استبدال هدف “تحرير فلسطين” المقدس (مثلما ورد النص على قداسته حرفياً في المادة 13 من الميثاق القومي، والمادة 15 من الميثاق الوطني) بأهداف ثانوية أُخرى “أقل قداسة”، الأمر الذي تدخّل في إمكان التفاوض بشأنها، بعملية “تعقيل” الفلسطينيين وترويضهم، والتي كانت تعتمد بالدرجة الأولى على ضربهم إلى الحدّ الذي يجعلهم يتعلمون فيه “الدرس” جيداً، لينحوا ويجنحوا في اتجاه “الواقعية”، ولا بأس في أن تُسمّى تلك العملية بأبدع ما يمكن أن يرشد إليه الخيال الثوري، وهو “واقعية ثورية”!

إن الخروج المأسوي من الأردن في إثر أحداث أيلول/سبتمبر الأسود – 1970وتموز/يوليو 1971، في اعتقادنا، كان هو أبو “التفكير الواقعي”، لأن البعض استخلص حينها أننا من الضعف بمكان لم نتمكن فيه من تحقيق انتصار أو ثبات في مواجهة حرس البادية الأردنية، فما البال بمقارعة القلعة النووية الصهيونية؟ وكانت مشاريع التسوية والحلول السياسية آنذاك قد ازدهرت بعد هزيمة 1967، وتغيرت الأولويات من استعادة “الوطن السليب” إلى “إزالة آثار العدوان”، واستندت تلك المساعي إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الذي اعتُمد في تشرين الثاني/نوفمبر 1967، واعتُبر عمود التسوية وركنها الركين (لم يعد أحد يذكره هذه الأيام، بعد أن كانت نشرات الأخبار تذكره عشرات المرات في اليوم الواحد!). وأخذت قوى عالمية وإقليمية تلعب دوراً في “التعقيل” والتنضيج، وكان من جملة ذلك التلويح للفلسطينيين بإغواءات وإغراءات “واقعية” كان التكيّف والتجاوب معها تجري ترجمتهما في قرارات المجالس الوطنية التي لم تكن تقرّ أي سياسات جديدة إلّا بعد نقاشات ومساجلات مطوّلة. وقد فهمنا لاحقاً أن الخلاف لم يكن أحياناً في جوهر الموقف، وإنما في صوغه وتخريجه والتعبير اللغوي عنه، فمثلاً بحسب بنود برنامج النقاط العشر، وبعد ضمان الموافقة على قيام السلطة الفلسطينية (مثلما ورد في النقطة الثانية) لم يكن هناك بأس في أن يضاف إليها نعت “سلطة مقاتلة”. ولا بأس أيضاً، في أن تُعلَن منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً و”وحيداً” في قمة الرباط في سنة 1974.

وفي عملية العبث هذه التي جرى فيها تغيير الأهداف العليا واستبدالها، طُرحت ثلاثة أهداف وطنية بديلة، ليُستعاض بها عن هدف تحرير فلسطين الجامع، وهي مثلما أُعلنت في سنة 1974 (سنة تغيير وجهة الرأس السياسي الفلسطيني): حقّ العودة؛ وحقّ إقامة دولة؛ وحقّ تقرير المصير. وغدا “خطاب الحقوق” هذا خاضعاً لمنطق الحقوق التي تسمح فيها قوانين الأمم المتحدة الجائرة بحقّ فلسطين وقضيتها.

والمفارقة هنا، أن “تحرير فلسطين” عندما يتم إنجازه الفعلي كهدف، فإن هذه “الحقوق الثلاثة” وغيرها ستصبح تحصيل حاصل! غير أن طرحها منذ سنة 1974 جاء ليُستعاض به عن هدف التحرير الذي تم إقصاؤه. ثم إن أي حق من هذه الحقوق، هو من النوع القابل التفاوض عليه، وهو ما برهنته التجربة لاحقاً، بل إن هذا المنطق التنازلي، جعل حتى هذه الأهداف الثلاثة نسياً منسياً!

والمشكلة أن مسألة تذويت هذه التحولات، وإسقاط هدف التحرير في الساحة الفلسطينية، لم يقتصرا على الفاعلين السياسيين الذين يمكن أن يتخذ لهم البعض أعذاراً بحكم إكراهات السياسية، لكن الأخطر أنها طالت نخباً مفكرة ومبدعة ومثقفة ومرموقة، ممّن تقدّموا بمرافعات ومحاججات انتهت بهم إلى نفض اليد من إمكان تحرير فلسطين عسكرياً، وإلى بناء قناعات في اتجاه التعايش والأنسنة.

والمشكلة أيضاً، أننا لو قبلنا بذلك، فهذا يعني تخليد عجزنا ليكون عابراً للأجيال؛ هذه الأجيال التي لا تزال تبحث عن جواب لسؤال التحدي الذي مثّله ضياع فلسطين في سنة 1948 (وهذا التحدي، في الحقيقة، لا يتعلق بالفلسطينيين وحدهم مثلما قد يحلو للبعض تصويره، بل هو من النوع العلائقي الذي أصابت حُمّاه عواصم العرب والمسلمين: القاهرة وبغداد وعمّان ودمشق وبيروت والرباط والرياض وطهران وصنعاء والخرطوم، وهو من هذا النوع الذي يهمّ العرب والمسلمين بالمقدار الذي يهمّ الفلسطينيين أنفسهم). وكان خطأ العقل السياسي الفلسطيني الذي نحا في اتجاه “الواقعية” التي هي أشبه بـ “الوقوعية”، أنه يجب تجنُّب طرح الأسئلة التي توصل إلى الخلاصات والأجوبة الصحيحة. فإذا كان الخروج من الأردن جعلنا ندرك حدود قوتنا، أو لنقل حجم ضعفنا، فإن السؤال الواقعي الصحيح كان يجب أن يكون: ما هو دواء الضعيف؟

الجواب باختصار تبسيطي هو أن يصبح قوياً! وكان السؤال الأكثر جوهرية هو: كيف نستطيع أن نحقق القوة المنشودة في ظل معطيات الواقع الراهن في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وليس الإمعان في والعمل على تكريس ضعفنا وتأبيده، مثلما انتهت إليه حال منطق “الواقعية السياسية” التي انطلقت بعد الخروج من الأردن، وفي اتجاه واحد ووحيد، والذي كان أحد آخر تعبيراته المدوية والمثيرة، أو رئيس الفلسطينيين الواقعي، يقف وبشكل منهجي حائراً وفاقداً دليله أمام ممثلي الأمم المتحدة السنوي معلناً بعبارات مليئة بالتيه والضياع والضعف وهو يقول: “لمَن نشكو.. إلى أين نذهب.. رضينا بالبَيْن والبين ما رضي فينا..”، ثم يطلق مناشدته: “احمونا.. فحتى الحيوانات هناك مَن يحميها..!”

الحقيقة أن السياسة لدينا مورست بالمقلوب، فالعلوم السياسية تخبرنا أن القوة (Power) المادية العارية والمباشرة هي عمود من أعمدة “المدرسة الواقعية”، وليس الإمعان في الضعف وتكريسه. فحتى “لاعنفية غاندي” كانت تبني قوة من نوع انطوى على الانبعاث والتحرر الذاتي، ذلك بأن الواقع الواجب تغييره يحتاج إلى أدوات قوة لتغييره، وليس إلى مطاوعته والخضوع له!

المشكلة أن عقلية الضعف والوهن هذه، التي طالما حدثنا عنها الراحل محمد حسنين هيكل، والتي كانت تأكل روح وجسد كيانيتنا السياسية، بات لديها أكثر من مجرد انبهار بقوة وعقلية وعلوم الأعداء و”الخواجات”، فكثيراً ما وعظتنا بأننا أقل شأناً من مقاتلة “إسرائيل”… والمسألة لم تعد لدى أصحابها تقف عند هذا الحدّ، بل إن هناك بعض العرب والفلسطينيين مَن أصبح لديه مانع في تحرير فلسطين! ومستعد أيضاً للدخول في خطط وسياسات منهجية من أجل تقويض ذلك ومنعه، وهذا مستوى غريب بلغة هؤلاء الواقعيين الذين كان لديهم قلّة ذاتٍ حيثية شحيحة واستلاب أيديولوجي وسياسي واعتراف بـ “إسرائيل” منذ يومها الأول، ولم يؤمنوا بتحرير فلسطين ولا بالكفاح المسلح من أجله، لكنهم “لم يمانعوا” على الأقل إذا ما فعل الآخرون ذلك. لكن بعض أولئك الواقعيين جداً، صار اليوم يعترض ولديه مانع، نظري وعملي، ويعتبر موقفه هذا، موقف “إجماع وطني” بل بات يُسقط الآخرين (وهم كثر جداً) من إجماعه هذا باعتبارهم أصحاب “أجندة حزبية” ضيقة. وهكذا، يصبح التمسك بـ “تحرير فلسطين” الذي كان ذات يوم “أبو الأهداف الوطنية”، مجرد طرح حزبي عصبوي نزق وضيّق، يوصَم أصحابه بالشطط والشقاء، وفي أحسن الأحوال يوصفون بالحالمين غير الواقعيين وغير العقلانيين!

هناك دعوات ملحّة منذ أعوام طويلة إلى إجراء مراجعة شاملة ومناقشة ما آلت إليه الحال، وذلك بعد الكوارث والخراب الذي ألحقه اتفاق أوسلو بالشعب وبالقضية. فالكلام التوفيقي الملتفّ على مواجهة الحقيقة لم يعد مجدياً، كما أن من دون مواجهة الحقائق الصلبة، على مرارتها وقسوتها، لن يكون هناك فائدة تُرجى من أي نقاش أو حوار.

ومن أجل المساهمة في تحرير النقاش وفي إرساء بعض الاستخلاصات التي يمكن البناء عليها، فإننا هنا نسجل وندعو إلى ما يلي:

1 – الاعتراف بالفشل

إذا كان هناك إجماع على شيء في الساحة الفلسطينية خلال الأعوام الأخيرة، فإنه على أن مسار “أوسلو” و”حلّ الدولتين” فشلا فشلاً ذريعاً. ولم تقل ذلك إعلانات ولا تصريحات ولا تقييمات رافضي اتفاق “أوسلو” ومعارضيه فقط، بل قالته أيضاً إعلانات وتصريحات وخلاصات ومرارات “الأوسلويين” أنفسهم، ومنها مجالس رام الله (وطنية؛ مركزية؛ ثورية) التي أعلنت انتهاء صلاحية هذا الاتفاق، وإن كان في واقع الأمر، على غير رغبة منها، إلّا إنها جاءت بحكم ضرورة مواجهة اللحظة ووطأتها (وخصوصاً أن إسقاط “أوسلو” تمّ “إسرائيلياً” على يد قوى وأحزاب وحكومات جاهرت بنبذه واعتمدت برامج وسياسات طوت صفحته منذ أعوام طويلة، حتى إن موقّعي “أوسلو” “الإسرائيليين” أنفسهم تخلّوا عنه وغادروه أيضاً!).

وإذا كان الاعتراف بالمشكلة هو نصف حلّها، مثلما يقول علم النفس، فإن الشجاعة والمسؤولية تقتضيان الاعتراف العلني بالخطأ الذي ارتُكب عند توقيع اتفاق “أوسلو”، إن لم يكن ذلك خطيئة كما يقول كثيرون. وكان الراحل جورج حبش دعا بنزاهته المعهودة إلى أنه: “إذا كان الجيل الذي أمثّله قد فشل في تحقيق شعاراته العادلة، فعليه، على الأقل، أن يسجّل الدروس والأسباب التي أدت إلى ذلك الفشل حتى يستفيد الجيل القادم، وكي يتجنّب هذه الأخطاء.” وإذا كان ثمة دروس وعِبَر مستقاة من هذه المسيرة الفاشلة، فإننا نوجز بعضها فيما يلي:

.

أ – اتفاق “أوسلو” قطع الطريق على انتفاضة متدحرجة ومتصاعدة وواعدة

يتساءل المرء بعد هذا الحصاد المرّ: هل في إمكان التحليل الأكاديمي الهادئ أن يقرر اليوم أن الاستثمار السياسي لانتفاضة 1987، والذي رأى فيه البعض أمراً أبدع ممّا كان، كان هو الاستثمار الأسوأ والأكثر خطأ؟ الغريب أن البحث العلمي الفلسطيني، ولا أقول النقاشات والمساجلات المسيّسة، تجنَّب، كي لا نقول جَبُن عن طرح الأسئلة الصحيحة التي ينبغي لنا طرحها اليوم، ونحن نجري مراجعاتنا بعد هذا الخراب كله، وهي التالية:

– ماذا لو لم يكن هناك اتفاق “أوسلو” (أسوة بالسوريين واللبنانيين الذين لم يعقدوا اتفاقيات سلام حتى الآن)؟

– ماذا لو أخذت ظاهرة يحيى عياش (الظاهرة الاستشهادية)، علاوة على ظواهر الانتفاضة الأُخرى التي شرعت تتعاظم كخطف الجنود والاشتباك الجريء من النقطة صفر الذي ابتدعه عماد عقل وخلاياه.. وسجّل صعود تلك الفاعليات الأمر الأهم في سنوات “أوسلو” الأولى نفسها (- 1993 1996)، ماذا لو أخذت تلك الظواهر والتطورات كامل مَدَياتها وتجلياتها الانتفاضية؟

– كيف كانت ستكون النتائج وحصاد ذلك الفعل المقاوم الواثب والمتعاظم على صعيد الاستقلال السياسي والتحرر الوطني؟

– ألم يكن الاحتلال “الإسرائيلي” بصدد الخروج من قطاع غزة وإخلائه في سنة 1992، ومن دون قيد أو شرط، مثلما ورد في وثائق تلك المرحلة وكُتب المذكرات، ولم يكن اتفاق “أوسلو” غير مؤخِّر لهذا الخروج، ومغرياً ومريحاً للوجود الاحتلالي اللاحق في قطاع غزة، حتى جاءت انتفاضة ثانية لديها أدوات عنف أشد وأعتى أجبرت الاحتلال على الخروج في سنة 2005 بلا قيد أو شرط؟

– ألم يتساءل كثيرون: هل كان حل أزمة القيادة الفلسطينية مقدَّماً على التضحية بالقضية الفلسطينية إلى هذا الحدّ؟

– أليست مرحلة “إعادة إنتاج أوسلو” القائمة حالياً في الضفة الغربية منذ سنة 2007 أسوأ حالاً من “أوسلو” ذاتها، سواء تجسّد ذلك في الممارسة والانتحار الذاتي بنزع الشرعية الكاملة عن المقاومة ثم ضربها وملاحقتها وتعطيلها، أو في انعدام حتى الأفق السياسي، أو الوعود ذات العلاقة به؟

– كيف للأكاديميا أن تصف هذه الحالة من العجز المكتسب وقلة الحيلة وانعدام البدائل؟

ب – لا سلام مع الصهيونية

مع أن هذه المقولة كانت ذات يوم إحدى مسلّمات الإجماع السياسي العربي والفلسطيني (في قمة الخرطوم وبعدها)، فإن التجربة المريرة في محاولة صنع سلام مع الصهيونية، برهنت، لمَن أراد أن يجرب ذلك، وبما لا نحتاج إلى إيراده من أدلة ناطقة وصريحة، بأننا مع عدو بالغ العنصرية لا يعبأ بنا ولا بحقوقنا ولا بقضايانا، إلّا بالمقدار الذي يتيح له سرقة أرضنا واستباحتها، فهو لا يطمح إلى تهويدنا ولا إلى التبشير بتحضيرنا ورقيّنا، وإنما يسعى لتخريبنا وإفسادنا وإفراغنا. ومن وجهة نظر الداعين إلى تحرير فلسطين وعدم مسالمة المحتل، فليطمئنوا، ويا للسخرية، إلى أننا حظينا بعدو تبلغ عنصريته الجامحة العمياء حدَّ لفظنا ونبذنا حتى لو قرر البعض منا العمل عنده كحطّاب وسقّاء، ذلك بأنه أكد بجميع الصيغ التي يمكن أن يستوعبها عاقل شحيح الذكاء، أنه من النوع غير القابل لا للمسالمة ولا للمهادنة!

ج – اليأس وفقدان أي ثقة بالتفاوض والمفاوضات

بعيداً عن خيبات الأمل التي سجّلها كثير من الأكاديميين المختصين والنقّاد والمراقبين بشأن الأداء التفاوضي الفلسطيني البائس، أو الأداء “الإسرائيلي” المتنمر، فإن الذين كانوا يُلحّون في الوسط القيادي الفلسطيني قبل عقود على ضرورة “التفاوض المباشر”، وسعوا له بجميع السبل، هؤلاء بالتحديد غسلوا أيديهم وتخلّوا عن مذهبهم التفاوضي ذاك، ولم يعودوا يثقون بجدواه، مع أنهم لم يقطعوا الأمل بمجمل التفاوض عبر وسطاء آخرين!

لكن ما الذي قالته لنا تجربة ذلك التفاوض المديد؟ في الحقيقة لم يكن هذا التفاوض سوى ممارسة للعبث واستنزاف لأركان ومقوّمات ودعائم قضيتنا الوطنية وتقويض روحها كقضية حقّة وعادلة. ولو أننا جمعنا أكداس أوراق ووثائق تلك المفاوضات والاتفاقيات التي وُقّعت وتساءلنا: ماذا كانت النتيجة والحصيلة؟ لم يكن جوابنا ليتعدّى ما قاله فاروق الشرع في مذكراته: “قبض ريح”!

والحقيقة أن حكوماتهم المتعاقبة منذ رابين وبيرس وباراك، انتهاء بشارون وأولمرت ونتنياهو ولبيد، ومثلما تُظهر الوثائق والشهادات، ثم الإجراءات والسياسات، لم يكن في نيّتها منحنا “دولة”، وأقصى ما تم طرحه هو حُكْم ذاتي ناقص! وكان الدرس البليغ في عدم جدوى التفاوض مع هذا النوع من الأعداء، أن هذا العدو ذاته انسحب في فترة التفاوض المديدة نفسها مرتين من دون قيد أو شرط: في أيار/مايو 2000 من الجنوب اللبناني، وفي سنة 2005 من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، وذلك من دون تفاوض وبشروط إذلالية، بل بمعادلة فرضتها مقاومة متراكمة وعنيدة، على الرغم من الجحود والإنكار اللذين أظهرهما مكابرو “أوسلو” وأضرابهم اللبنانيون والعرب!

مؤسسة الدراسات الفلسطينية