شهد تشارلز داروين عالم البيولوجيا الإنكليزي الشهير عام 1835، زلزالا كبيرا على شاطئ تشيلي في أمريكا الجنوبية، وقد كتب في يومياته حينها أن حدثا شبيها في بلاده كان كافيا لتدمير ثروة بريطانيا. «ما الذي سيحصل للمدن المكتظة، للمصانع العظيمة، للأبنية الكبيرة؟». «إنكلترا ستفلس» و»الحكومة ستفشل في جمع الضرائب، وبسبب ضعفها لن تكون قادرة على الحفاظ على سلطاتها، يد العنف ستنطلق دون قيد. المجاعة ستضرب، والموت والأوبئة ستتبع».

في المقابل، تشير الكاتبة الكندية نعومي كلاين، في كتابها «قانون الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث»، إلى إن بعض المفكرين نظروا لكون الزلازل هي فوائد مموهة، مثل إيمانويل كانط، الذي قال بعد زلزال البرتغال عام 1755، «ندين الزلازل، رافضين إمكانية أنها يمكن أن تجلب أشياء جيدة»، ومثل الاقتصادي جون ستيوارت ميل، الذي توقع عام 1848، حصول فوائد طويلة الأمد من الكوارث.

يمكننا أن نستكشف ميزانا يكشف أسباب «الصدع الكبير» في عالم السياسة والاقتصاد والحضارة حاليا، ويبين كيف تحدّ العناصر السياسية والاجتماعية والثقافية من التداعيات الكارثية للكوارث الطبيعية، كما هو الحال في مقارنة الزلزال البحري بقوة 7,1 الذي ضرب مدينة كرايستشيرش، في نيوزيلندا، ولم تسجل فيه أي وفاة، مع زلزال هايتي البحري أيضا، الذي كان قريبا من عاصمتها بورت أوبرنس، وأدى إلى سقوط 316000 قتيل (حسب أرقام الحكومة) يمكن ربط هذا الفارق المهول في حجم الضحايا بكون نيوزيلندا تعتمد تحصينات عالية لأبنيتها، في حين لا وجود لتدعيم للأبنية في هايتي، كما يمكننا ربطه أيضا بالعناصر السياسية والاجتماعية والحضارية.

ضمن هذا السياق، تفيد الإشارة إلى أن 22% من زلازل العالم في حجم 6 فما فوق على مقياس ريختر تقع في اليابان، وإضافة إلى الملاحظة في الفقرة الآنفة عن تأثير التقدّم التكنولوجي والعلمي وهندسة الأبنية على تخفيف تداعيات الزلازل، يمكن أيضا القول إن إمكانيات النمو الاقتصادي بعد الكوارث يرتبط بنوعية الأنظمة السياسية التي تحكم.

من الطبيعة إلى السياسة
يتراجع تأثير حدث الكارثة الطبيعية الكبرى في ذاكرة المجتمع، حسب كتاب «زلزال: الطبيعة والثقافة»، لأندرو روبنسون، ولا ينشغل به المؤرخون كثيرا قدر انشغالهم بالحروب والفظائع البشرية، لكن الرابطة بين الظاهرتين، يمكن كشفها في عدد كبير من الوقائع التاريخية، ولعل الجزء السوريّ من الزلزال الأخير يظهر علاقة وثيقة بين الفظائع البشرية والطبيعية.

أدى زلزال 1923 في اليابان، إلى تدمير مجمل مدينتي طوكيو ويوكوهاما وقتل قرابة 140000 شخص. تعادل هذه الواقعة في أثرها التدميري حدث قصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي عام 1945 فلماذا بقي الحدث الثاني في الذاكرة الجماعية والكتب التاريخية أكثر من الأول؟

يمكننا أن نلاحظ أن للكوارث الطبيعية الكبيرة، في الحقيقة علاقة وثيقة بالاهتزازات والتداعيات السياسية والاقتصادية قبلها أو بعدها، كما حصل في زلزال تركيا في أغسطس/ آب 1999 الذي أدى إلى مقتل 17127 شخصا، والذي تبعه حدث فوز حزب «العدالة والتنمية» في الانتخابات التشريعية اللاحقة عام 2002، وهو الحدث الذي شكل بداية صعود الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان (الذي يواجه حاليا التداعيات السياسية للزلزال الرهيب الأخير الذي ضرب تركيا وسوريا، خصوصا مع اقتراب انتخابات تشريعية جديدة في أيار/مايو).
حصل أمر شبيه في الهند التي يُعزى فوز رئيس وزرائها الحالي بانتخابات عام 2014 إلى حدث الزلزال الذي وقع في ولايته غوجارات عام 2001. يمكن، ضمن السياق السياسي، اعتبار صعود «العدالة والتنمية» إلى سدّة الحكم «زلزالا سياسيا»، كونه أنهى صراعا وجوديا بين المؤسسة السياسية – العسكرية المؤسسة للجمهورية التركية الحديثة، التي بنيت على أسس العلمانية الغربية، وماضيها الإسلامي ـ العثماني ممثلا في الأحزاب ذات التوجه الإسلامي.

يمكن وصف وصول ناريندرا مودي، وحزبه بهاراتيا جناتا، رئيس وزراء الهند الحالي، أيضا بـ»الزلزال السياسي» كونه أنهى سيطرة حزب المؤتمر الوطني التاريخية على الحياة السياسية الهندية، منذ تأسيسه عام 1885 وقيادته حركة الاستقلال وصولا إلى سيطرته على الحكم لحقبة طويلة. شكّل حزب مودي انعطافا سياسيا كبيرا نحو اليمين القومي الهندوسي، وعكس موقفا محافظا من القضايا الاجتماعية، والعداء للأقليات الدينية، خصوصا المسلمين.

تحرير أمريكا اللاتينية أم صعود الفاشية اليابانية؟
في شكل مشابه، ولكن على مدى أوسع تاريخيا وجغرافيا، يعتبر زلزال عام 1812 في فنزويلا السبب الرئيسي في الهزيمة المؤقتة التي تعرض لها القائد التاريخي للقارة، سيمون بوليفار على يد قوات الاحتلال الإسباني، لكن نفيه ساهم لاحقا في تحرر بوليفيا، كولومبيا، اكوادور، بيرو وفنزويلا نفسها من الحكم الإسباني.

يمكن تتبع هذا الجدل الهائل بين الطبيعي والسياسي مع ما حصل بعد زلزال 1923 في اليابان، حيث أعلنت أحكام طوارئ أعطت السلطة للجيش، الذي سيطر على الحكومة وقاد اليابان إلى حرب مع الصين، وصولا إلى مشاركته في الحرب العالمية الثانية، التي أدت لهزيمة اليابان.

تعتبر كارثة زلزال لشبونة، عاصمة البرتغال، عام 1755 العامل الأساسي في تحرير علوم عصر التنوير الأوروبي من سيطرة الكنيسة الدينية، وهو حدث تم عرضه في رواية فولتير الساخرة «كانديد»، التي كتبت كرد فعل على الزلزال.

يمكن سحب هذا التحليل أيضا على حدث زلزال بريطانيا عام 1750 (الذي سمي عام الزلازل)، والذي أدى إلى استنتاج أول مبادئ الفهم العلمي للزلازل، حيث نشرت أول المباحث التي تقول إن قوة تأثير الزلزال الزمنية تعتمد على مركزه الأقرب لسطح الأرض، وحجمه، وتوقيته، وكذلك على العناصر البشرية: السياسية، الاجتماعية، الحضارية، الدينية والموارد الثقافية المرتبطة بتاريخ الإقليم.

يستنتج كل مجتمع يتعرض للزلزال دروسه الخاصة من الكارثة، ولكن المعرفة البشرية العامّة، فيما يخص الزلازل، تتشارك في وعي النتائج التي تنجم عن تلك الكوارث، كونها تؤثر في ذاكرتنا الجماعية، وفي تاريخنا المشترك، وتتبلور مفاعيلها في تاريخ العالم وفي مجالات الثقافة والدين والسياسة والاجتماع.

يصف عالم الجيولوجيا الأمريكي جيمس جاكسون، ظاهرة لافتة في التاريخ البشريّ، وهي أن التصدّعات الأرضية الكبرى تمتلك «جاذبية مميتة» لدى المجتمعات الإنسانية، مقترحا أن الفوائد الناتجة عن العيش مع الزلازل تفوق السلبيات!

يقع أكثر من 60 من مدن العالم الكبرى على حدود صفائح تكتونية، وبعض هذه المدن، مثل طهران، ولشبونة، ولوس أنجليس، ومانيلا، وروما، إلخ، تعرضت لعمليات تدمير هائل من الزلازل خلال القرنين الماضيين واستطاعت تجاوز آثار الكارثة بسرعة نسبية.

يقدّم روبنسون أدلة تاريخية عديدة، من إسبرطة والصين وأمريكا اللاتينية وبريطانيا والهند والبرتغال، تشير إلى حصول تغيّرات سياسية أو اقتصادية وثقافية ودينية بعد حصول زلازل كبيرة.

ما يمكن اقتراحه، على ضوء الآنف، أن الكوارث الطبيعية يمكن أن تسرّع تفاعلات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وأن أثرها ينتقل من الطبيعي إلى السياسي والثقافي، ولكنها، وكما يمكن أن تؤدي لتغيّرات سياسية واقتصادية عظيمة، فإنها يمكن أن تؤدي لكوارث سياسية مهولة، كما حصل في تحوّل اليابان إلى الفاشية قبل الحرب العالمية الثانية، وصعود التيار اليميني القومي المتطرّف في الهند حاليا.

القدس العربي