هل يتسبّب “حقل الدرّة” بأزمة بين الكويت والسعودية من جهة وإيران من جهة أخرى؟ لماذا احتجّت طهران على بيان اللقاء الروسي- الخليجي والبند المتعلّق بالجزر الإماراتية الثلاث؟ ولماذا يتلكأ الحوثيون في التفاعل مع مسار انهاء الحرب والشروع في حل سياسي؟ ولماذا تُكثر أوساط النظام السوري من التعبير عن خيبة أملها من “الفوائد” التي توقّعتها من “التطبيع” مع الدول العربية؟ وهل أن إيران نفسها، صاحبة “استراتيجية الانفتاح على الجوار الإقليمي”، بدأت تجد طريقها للاستثمار في اتفاق تطبيع العلاقات مع السعودية؟.. أسئلة وغيرها تُطرَح في سياق ما اصطلح على اعتبارها أجواء توافق في المنطقة. ويمكن القول إن إيران تمرّ بمشاعر مختلطة إزاء ما تعتبره تفاعلاً ضعيفاً أو بطيئاً لهذا التوافق مع استراتيجياتها، فهي من جهة تبدي ارتياحاً الى تهدئة الصراع بينها وبين السعودية ودول الخليج عموماً، لكنها من جهة أخرى لا تجد استعداداً خليجياً للتعامل مع أولوياتها، بل حرصاً على تصفية ملفات الخلاف معها، المزمنة منها والمستجدّة، بغية بناء علاقة جوار طبيعية.
تأتي مسألة “أمن الخليج” في مقدّم تلك الملفات، وهي شائكة ومعقّدة وتختلط فيها رواسب الماضي ومعطيات الواقع الخليجي الراهن، ومن شأن الاتفاق على صيغةٍ حلٍّ متوازنة وربما مشتركة على قاعدة احترام السيادة وعدم تدخّل الدول في شؤون بعضها بعضاً، أن يشكّل مفتاحاً لحلحلة العُقد والعقبات التي تعترض سلاسة التعاون في مختلف المجالات. لكن إيران تعتبر أن الترسانة العسكرية التي بنتها، والنفوذ الذي نشرته لتطويق منطقة الخليج عموماً، والتحدّي الذي واجهت به الولايات المتحدة ودول الغرب، والتموضع نحو الشرق باتفاقات استراتيجية طويلة الأمد مع الصين وروسيا، تؤهّلها لموقع الاشراف على “أمن الخليج” وتوزيع الأدوار فيه. غير أن الجمود في الملف النووي ومواجهتها القائمة مع الوجود الأميركي- الغربي في كل المواقع، من مياه الخليج الى العراق مروراً بشمال شرقي سوريا وصولاً الى لبنان، يحولان دون فرض أمنها على المنطقة بالقوّة، ولا حتى بـ “التفاهم”، ويجعلانها غير مطمئنة الى استدامة نفوذها.
لذا تتشدّد إيران حالياً في التمسّك بأهدافها، وفيما هي متيقنة بأن اتفاقها مع السعودية كان ضرورياً، لأسباب مختلفة، لكنها لا ترى أنه حسم شيئاً. هذا ما نقله مصدر موثوق به عن اجتماع ضمّ أخيراً أحد أقرب القريبين من المرشد على خامنئي والقائد العام للحرس الثوري حسين سلامي وأمين مجلس الأمن القومي علي أكبر أحمديان. وخلاصة الموقف أن إيران يجب أن تخفّف من حماسها للاتفاق مع السعودية، لأن النتائج التي تتوخّاها منه لن تأتي في الوقت الملائم أو بالسرعة المطلوبة، وقد لا تأتي أبداً خصوصاً أن طهران تطلّعت الى أن تساعدها الرياض في استعادة أموالها المجمّدة بسبب العقوبات، ثم أن اللجان الاقتصادية والسياسية تواصل عملها لكنها لا تتوصّل الى نتائج ملموسة لإطلاق مشاريع تعاون فيما تراجعت المتابعة الصينية لها.
أما على المستوى الأمني، ووفقاً للمنهج نفسه، فإن إيران لا تريد دوريات مشتركة في مياه الخليج وستحافظ في المدى المنظور على دورياتها وحدها. كما أن طهران أملت في “شراكات” محددة- أو نوعاً من تقاسم النفوذ- مع الرياض في العراق وسوريا ولبنان لكنها لم تلمس رغبة سعودية (أو خليجية موازية) موازية، بل مجرد “تمنيات” لإصلاحات مفترضة في هذه البلدان، أو تجد احياناً تناقضاً مع خياراتها. وأما بالنسبة الى اليمن فإن كل ما قدّمته إيران اقتصر على منع اعتداءات الحوثيين على الأراضي السعودية، وكل ما سمحت به هو أن ينخرط الحوثيون في تفاوض مع السعودية لبناء “رؤية توافقية” معها بمعزل عن الحكومة الشرعية، وثمة اجتماعات لهذه الغاية يجريها السفير محمد آل جابر دورياً في صنعاء، غير أن الحوثيين مسكونون بالمنطق الانقلابي ولا يزالون بعيدين عن القبول بالتفاوض السياسي بحثاَ حل سلمي وشراكة متوازنة.
يفيد الواقع الذي تعرفه إيران جيداً بأنها لا يمكن اجتذاب الخليج الى سياساتها، أو بناء تطبيع حقيقي مع دوله، على أساس ما هو قائم من أوضاع مصطنعة أو مفروضة. قد تعتبر طهران، كما موسكو حالياً بالنسبة الى أوكرانيا، أن السلام يصبح ممكناً عندما يعترف الآخر بـ “الحقائق الجديدة” على الأرض، لكن هذا النمط من التفكير هو ما أحبط محاولات الحوار بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، كما أنه لا يلائم المقاربات الخليجية الحالية في إدارة العلاقات الخارجية. فالسعودية والامارات ودول الخليج عموماً تقيم اتفاقات تعاون مع الدول الكبرى قائمة على المصالح ومن دون أي من دون أي تبعية أو ارتهان أمنيين، وتريد الحفاظ على حياد نوعي منفتح على الدول كافة، وبالتالي فليس وارداً لديها أن تقبل بأي صيغة عودة إيران “شرطياً للمنطقة”، ليس فقط لاستحالة أن تحصل على تجديد أميركي لـ “تفويض” كهذا، بل أيضاً لاستحالة أن يبلغ تحالفها مع الصين أو روسيا حدّ نيلها “تكليفاً” مدعوماً كي تصعّد المواجهة مع الولايات المتحدة.
في هذا السياق جاءت المناورات البحرية التي أجراها “الحرس الثوري” الإيراني أخيراً، متزامنةً مع جملة تطوّرات أهمها تعزيز الولايات المتحدة انتشار قواتها في مياه الخليج ردّاً على تحركات إيرانية متجددة ضد ناقلات النفط والتدفّق الحرّ للتجارة في مضيق هرمز. ولا يعني ذلك أن المحادثات “النووية” غير المباشرة لا تزال متعثرة وتؤجّل مسار التخلّص من العقوبات الأميركية فحسب، بل ابتعدت عن أجواء التفاؤل التي روّجتها طهران قبل أسابيع قليلة. كما أن المساعدة العسكرية الإيرانية لروسيا في حرب أوكرانيا أضافت عقدة جديدة أمام أي تفاهم مع الاميركيين والأوروبيين.
في الوقت نفسه شكّل موقفا طهران من قضيتي الجزر الإماراتية وحقل الدرّة الكويتي- السعودي إشارة الى أن “أجواء التوافق” في المنطقة لم تدخل بعد في العقلية السياسية الإيرانية، وقد لا تدخل أبداً طالما أنها متشبثة باحتلالها للجزر الثلاث، بل انها تعمّدت اجراء مناوراتها البحرية في احداها، جزيرة أبو موسى، ولم تتقبّل مجرّد تذكيرها بالخيارات الإماراتية (الاحتكام للقانون الدولي أو التفاهم الثنائي). ثم أنها لم ترد بالشكل المناسب على الدعوة السعودية- الكويتية الى التفاوض لحل الإشكال المزمن (منذ ستينات القرن الماضي) حول “حقل الدرة” الذي اشبع درساً من كل جوانبه ولا يعطي إيران “حقوقاً” تستوجب أن تهدد بـ “حمايتها” ولو افتعلت بذلك أزمة مع الخليج. مشكلة إيران أنها تفضّل تغليب نزعتها التوسّعية على التفاوض مع جيرانها ولا تريد الاعتراف بالمتغيّرات في المنطقة.
النهار العربي
Be the first to write a comment.