تكلمنا في المقال السابق عن الانقلابات العسكرية في المنطقة العربية والتي كانت وباءً على الأمة بأسرها، فلم تكن لوجه الله والوطن بل كانت لوجه أمريكا ومصالحها ونفوذها في المنطقة، فأمريكا صاحبة فكرة الانقلابات في العالم الثالث، وفتحت المجال لدول استعمارية أخرى على السير في دربها، وها هي روسيا تصنع انقلابا في النيجر من وراء الكواليس وتطيح برئيسها المنتخب “محمد بازوم”، الموالي لفرنسا، وتأتي بعسكريين موالين لها قادوا الانقلاب وشكلوا مجلساً عسكرياً للحكم برئاسة “عبد الرحمن تشياني”، الذي أعلن طرد الجنود الفرنسيين المتواجدين على أرضها والبالغ عددهم حوالي 1500 جندي، وإلغاء جميع اتفاقيات التعاون العسكري المبرمة مع فرنسا وإغلاق سفارتها وطرد سفيرها، ومنعها من استخراج اليورانيوم والذهب من مناجم النيجر.
وجدير بالذكر أن فرنسا تعتمد اعتمادا كلياً على المفاعلات النووية في توليد 65 في المئة من طاقتها الكهربائية، وتأخذ اليورانيوم المستخرج من مناجم النيجر حيث أنه الأجود والأرخص تضيء به مدنها وقراها بينما تترك النيجر غارقة في الظلام، تنهب ثرواتها وتملأ بها خزائنها بينما الشعب النيجيري يعيش في فقر مدقع!
منذ الإطاحة بالرئيس محمد بازوم امتلأت الشوارع بالمتظاهرين؛ حاملين العلم الروسي ومنددين بفرنسا التي نهبت ثروات بلادهم.
ويُعد انقلاب النيجر صفعة قوية على وجه فرنسا بعد انقلابي مالي وبوركينا فاسو، لقد كان ماكرون يراهن على النيجر إلى جانب تشاد وهما آخر الشركاء الاستراتيجيين الرئيسيين لفرنسا في المنطقة، لإعادة صياغة استراتيجيته في منطقة الساحل الأفريقي، آخر معاقل فرنسا في القارة السمراء، فضلا عن كونها قاعدة عسكرية استخباراتية لأكثر من دولة في المعسكر الغربي. فعلى أرضها توجد خمس قواعد عسكرية أمريكية وفرنسية وألمانية، بالإضافة إلى أنها من أهم مصادر الموارد الطبيعية في العالم وفي مقدمتها اليورانيوم، حيث تساهم بنسبة سبعة في المئة من الإنتاج العالمي..
لقد احتلت فرنسا النيجر ودول الساحل الغربي الأفريقي الغني بثرواته الطبيعية في أواخر القرن التاسع عشر ونهبت ثرواتهم وقهرت وأذلت شعوبهم، لقد كانت تعتبرهم عبيدا تُعاملهم بنظام السُخرة، تشحنهم كالمواشي لأوروبا للعمل في مزارعها ومصانعها، وترسلهم ليحاربوا ويُقتلوا بدلاً من الفرنسيين في حروبهم الاستعمارية حول العالم، لقد مسخت فرنسا هويتهم الثقافية وإرثهم الحضاري.
لقد كانت هذه الدول جزءاً من الإمبراطورية الإسلامية واستمرت تحت حكم الخلافة العثمانية، ولكن بعد أن هيمنت فرنسا على شمال وغرب القارة الأفريقية (أفريقيا فرنسية)، واعتبرتها مستعمرات خاصة بها وجزءاً لا يتجزأ من إمبراطوريتها الممتدة من الجزائر وتونس ومالي وليبيا إلى تشاد والنيجر والسنغال، منعتها من استعمال اللغة العربية بمرسوم رسمي حظرت فيه استعمال اللغة العربية في كل مرافق الدولة الإدارية والاقتصادية والاجتماعية وفرضت اللغة الفرنسية لتكون اللغة الرسمية للمنطقة، وفي الوقت ذاته عمدت إلى نشر المدارس الفرنسية في سائر المدن والقري، وحذفت تعليم القرآن وفرضت قيودا صارمة لافتتاح مدرسة عربية وأصدرت قرارات جائرة للحيلولة دون عمل المدارس العربية، ومنع المتعلمين من ممارسة النطق باللغة العربية والتعامل بها بأي شكل من الأشكال. لقد مسحت فرنسا هوية الأفارقة بالحديد والنار، وألزمت دول غرب أفريقيا بالاحتفاظ بنصف احتياطياتها من العملات الأجنبية في البنوك الفرنسية!
لقد كان الفرنسي يحتقر الرجل الأفريقي ويستعبده ويسخره لخدمته، ولعلنا نتذكر ما قاله الرئيس الفرنسي الأسبق “نيكولا ساركوزي” منذ سنوات، أن “الإنسان الأفريقي لم يدخل إلى التاريخ بعد”، هذه العنصرية البغيضة أسقطت القناع عن الوجه الحقيقي للاستعمار الفرنسي وكشفت الدعايات الكاذبة التي بررت فيها احتلالها لعشرين بلدا في القارة السمراء، حيث زعمت أنها تنشر التحضر الإنساني والثقافي، تحت عنوان “رسالة الرجل الأبيض”، ودور فرنسا في دفع الأفارقة إلى التقدم والازدهار، وصورت باريس كعاصمة للنور والحرية بينما هي عاصمة للعنصرية، عاصمة الجماجم، فلقد قتلت ملايين الأفارقة ثم أقامت “متحفاً للجماجم”، يضاف إلى متاحف وحدائق حيوانات بشرية، أقامتها فرنسا الحرة للأفارقة العراة في مدنها وكسبت مئات الملايين من دخل تذاكر الزوار!!
لقد حرصت فرنسا بعد استقلال الدول الأفريقية في ستينيات القرن المنصرم، على تأسيس كيان تابع لها سمي بـ”الدول الفرانكوفونية” لاستمرار الروابط الاقتصادية والأمنية والسياسية مع تلك الدول، والتي هي جميعها باستثناء مالي وبوركينا فاسو ضد الانقلاب العسكري في النيجر ومع عودة الرئيس المعزول محمد بازوم إلى السلطة.
.
ولقد هددت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في ختام قمتهم الطارئة بشأن النيجر باستخدام القوة، إن اقتضى الحال، لإعادة النظام الدستوري إلى البلاد..
لقد حرص الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، على التأكيد على عمق الروابط بين روسيا ودول القارة السمراء، في القمة الروسية الأفريقية التي عقدت مؤخراً في سان بطرسبرج والتي صادف موعدها بعد انقلاب النيجر مباشرة، ولا نعلم إن كانت حقيقة صدفة أم كان مخططاً أن يحصل الانقلاب قبل القمة!
ما علينا، ففي كل الأحوال يسعي بوتين إلى إعادة صياغة طبيعة للعلاقات الروسية الأفريقية، لتعزيز وجود روسيا الاقتصادي والسياسي في القارة الأفريقية، ولقد وعد في افتتاح القمة ست دول أفريقية بشحنات حبوب مجانية في الأشهر القادمة، كما أنه داعب حلم الاتحاد الأفريقي بالانضمام بمجموعة العشرين، مؤكداً أن موسكو تتطلع إلى حصول الاتحاد الأفريقي على العضوية الكاملة بمجموعة العشرين وذلك في أيلول/ سبتمبر القادم..
وفى المقابل تسعى الدول الأفريقية إلى استكشاف فرص التعاون مع روسيا في مجالات مختلفة، والحصول على الدعم الروسي في التنمية والبنية التحتية والقضايا الأمنية. ولكن يبرز هنا سؤال هام: هل تستطيع روسيا الوفاء بالتزاماتها تجاه القارة السمراء في وقت أصبح اقتصادها يعاني من العقوبات الغربية، وفي ظل عدم بزوغ أي أمل في الأفق لحل سياسي فيما يتعلق بإنهاء الحرب على أوكرانيا؟!..
لا شك أن روسيا تسعى أن يكون لها موضع قدم ثقيل وأكثر في القارة الأفريقية؛ مثلها مثل الصين التي تعمل بصمت وبأساليب ناعمة من خلال القروض والمساهمة في إنشاء البنى التحتية ومشاريع الطاقة وخلافه، وهما بالفعل أصبحا منافسين قويين للغرب في القارة، إلا أن لروسيا مآرب أخرى من وراء انقلاب النيجر، فهي ترغب في نقل الصراع أو المواجهة مع الغرب إلى أفريقيا ليخف الضغط عليها في حربها مع أوكرانيا، على الرغم من علمها بأن تلك المواجهة ستكون صعبة للغاية، فأمريكا والغرب عامة لن يرفعا لها الراية البيضاء ويسلما بسهولة، لكنها محاولة ومناكفة من بوتين قد يكون لها ما بعدها.
لقد تحولت منطقة غرب أفريقيا إلى بؤرة للصراع والتنافس بين المعسكرين القديم والحديث، ولقد شهدت المنطقة خلال العامين الماضيين فقط سلسلة من الانقلابات، حيث تؤكد الإحصاءات أنه جرى 14 انقلاباً أو محاولة انقلاب منذ آب/ أغسطس 2020، أي بمعدل انقلاب كل مئة يوم تقريباً، أذكر منها على سبيل المثال؛ مرتين في كل من مالي (2020 و2021)، وبوركينا فاسو (2022) وانقلاب في كل من غينيا (2021)، وتشاد (2021) والسودان (2021) وما يحدث فيه الآن من مواجهات عسكرية لم يُحسم فيها الصراع للآن..
إن عدوى الانقلابات العسكرية التي انتقلت من دولة لأخرى في أفريقيا أرهقتها وأضعفتها سياسياً واقتصادياً، وهذا ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش”، بوصف الحالة الانقلابية في القارة بـ”اللعنة”!
فإذا قلنا إن فرنسا ممثلة للمعسكر الغربي (القديم)، فهي تدافع بشراسة عن نفوذها في القارة الأفريقية والاستمرار في الهيمنة على دولها، بينما تسعى روسيا ممثلة للمعسكر الثاني (الحديث)، للتسلل إلى عمق القارة السمراء بكل السبل لبسط نفوذها على القارة الأفريقية، فإن شعوب المنطقة أيضا انقسمت إلى معسكرين، أحدهما يشعر بالحنين للعبودية للاستعمار القديم (فرنسا) حامية البلاد والعباد، والآخر مرحب بروسيا حامية الأوطان والمواطنين!!
ولتسقط الديمقراطية في إرث العبودية بين جاهل وجائع وبين عميل وموالٍ!! وهذا ما يدفعنا للقول إن النيجر خرجت من بيت الطاعة الفرنسي لتدخل بيت الطاعة الروسي ويا قلبي لا تحزن!!
عربي 21
Be the first to write a comment.