لا تتوفر معطيات إحصائية كافية (من النوع المعلَن الملموس ذي المصداقية والوثوق بالطبع)، تتيح الجزم بأنّ أيّ رئيس حكومة مكلف قبل محمد شياع السوداني تسلّم التكليف على وقع أصداء فساد صاخبة، مثل سرقة 3.7 ترليون دينار عراقي (2.5 مليار دولار أمريكي)؛ من جانب مؤسسة حكومية، وعبر أمانات ضريبية مودعة في مصرف حكومي.

هي علامة فارقة يتوجب أن تطبع السوداني بصفة شخصية أولاً، وأن تنتقل مباشرة إلى وزرائه أياً كانت مواقعهم وصلات حقائبهم بالشكل الأخير من اللصوصية، الصريحة الفاضحة، والمليارية الفاقعة؛ المؤشرة، من دون إبطاء أو عناء، إلى اللصوص الكبار المتنفذين قبل وكلائهم الصغار المنفذين. لكنها، مثل علامات فارقة كثيرة سواها، لن تلوح في سجلّ فساد وإفساد ساسة العراق أكثر من باقي الوشم في ظاهر اليد، خاصة وأنّ السوداني الآتي على رأس «حكومة خدمات» ليس مكبلاً شخصياً بقيود بعض كبار اللصوص ممّن اقترحوه أصلاً ونصّبوه، فحسب؛ بل تُثقل تاريخه الشخصي ملفات اعوجاج وجنوح وخنوع وزيغ… تحيله إلى كائن دونكيشوتي مستهلَك سلفاً، لا يقوى حتى على مقارعة طواحين الهواء!

وكي لا يُظلم السوداني فيقبع شبه وحيد في دائرة الفساد والإفساد، ثمة أهوال وفظائع ارتُكبت في عهود رؤساء حكومات العراق تحت الاحتلال الأمريكي وبعده؛ ابتداء من أوائل أمثال محمد بحر العلوم وإبراهيم الجعفري وأحمد الجلبي وإياد علاوي، وليس انتهاء بأواخر أمثال نوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي. ولقد مضى زمن، لم يكن بعيداً مع ذلك، شهد مرآة ساطعة لأعاجيب الفساد في العراق، ظلّ يعكسها على الإنترنت موقع «المفتش الخاصّ لإعادة إعمار العراق» SIGIR، الموظف الأمريكي الفدرالي المكلف برفع تقارير الفساد في بلاد الرافدين إلى وزيرَي الدفاع والخارجية في الولايات المتحدة. والأطرف بالطبع، ولكن الأعمق دلالة، كان اختلاط الشأنَين العسكري والسياسي في تقارير الرجل، تحت شروط احتلال عسكري تمارسه ديمقراطية عريقة يحدث أنها أيضاً القوّة الكونية الأعظم، ودائماً تحت شعار تحرير العراق من دكتاتورية العهد البائد.

مئات المليارات من ثروات العراق نُهبت أو أُهدرت، منذ الاجتياح الأمريكي وعلى مدار الحكومات العراقية التي نصّبها الاحتلال واستأنفتها القوى والأحزاب المذهبية، فلم تذهب إلى إنماء الشعب العراقي أو تطوير الديمقراطية أو بناء المشافي والمدارس ورياض الأطفال والجامعات، بل تناهبتها الشركات الأمريكية الكبرى، وأنفقها الساسة العراقيون الفاسدون على شراء الذمم وتوزيع الهبات والأعطيات على الميليشيات والأزلام والموالين. وكانت الـ BBC قد أجرت تحقيقاً مثيراً حول اختفاء مبلغ 11.300 مليار دولار قبيل ساعات معدودة سبقت مغادرة الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر العراق نهائياً، وأشارت تقارير صحفية إلى أنّ المبلغ «طار» ـ بالمعنى الحرفي للكلمة، وعلى ظهر حوّامة عسكرية! ـ إلى جهة مجهولة في كردستان العراق؛ قبل أن يسافر من جديد إلى بنك مغمور في سويسرا، كما رجحت صحيفة الـ «فايننشيال تايمز» آنذاك.

ميادين الفساد والهدر والنهب عديدة في العراق، لكنّ قطاعاً محدّداً هو عائدات النفط يظلّ زاخراً بأسئلة وعلامات استفهام، من هذا الطراز على سبيل الأمثلة فقط: أين تذهب مئات المليارات؟ ما قيمتها، فعلياً؟ مَن يتحكّم بوضع اليد عليها والتحكم بصرفها؟ ثمّ السؤال الأهم: هل، ومتى، سوف توضع في خدمة العراقيين؟ ولأنها بعض الجوهر الأبرز خلف دوافع الانتفاضة الشعبية التي عمّت البلد في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات، فإنّ العراق الراهن أبعد ما يكون عن استقبال الشياع تحت لافتة رئيس حكومة يمكن أن يفي بوعود الخدمات أو الإصلاح أو التغيير. وبين الوشم الباقي على ظهر يده، وطواحين الهواء التي سوف يزعم محاربتها، ثمة موجات فساد وإفساد مقبلة أشدّ عتواً وصفاقة، وثمة ما يترافق معها من أخطار جسيمة تستوجب أفدح الأثمان.

القدس العربي