هذا التراشق بـ “العصر الحجري” بين إسرائيل و”حزب إيران/ حزب الله” لم يأتِ من فراغ. له ما يبرّره. ليس عسكرياً ولا بحساب ترسانات الصواريخ الذكية، بل بقواعد العقل السياسي الذي مضى بعيداً في السباق العكسي الى غابر الأزمان. إلى ما قبل لبنان “النموذج” في المشرق، بتعدديته المتعايشة واقتصاده الحرّ المزدهر، وكان ملاذاً ومصدر قلق لمحيطه العربي، بمقدار ما كان مزعجاً أكثر لإسرائيل وأرادت تخريبه لأنه يناقض “نموذجها” على رغم افتخارها بأنها “الديموقراطية” الوحيدة في الشرق الأوسط.

من “الوصاية السورية/ الأسدية” الى “الاحتلال الإيراني” سار لبنان بخطىً واثقة، وحتى راغبة، نحو العصر الحجري، وبات متجاوزاً التهديدات الإسرائيلية التي تحاول ارشاده الى الوجهة “المنشودة”. إذ أن اندفاعه الى “جهنم” مشرعن بإعلان صريح وواضح من الذي أصبح رئيساً سابقاً ويصعب أن يخلفه أحد، لأن أحداً لا يعرف “ماذا بعد جهنم”. وهكذا فإن لبنان، وبأفضال “حزب إيران” عليه، وعلى إسرائيل نفسها (ترسيم الحدود البحرية)، استطاع أن يسبق العدو الذي بدأ لتوّه العودة الى العصر الحجري.

لبنان يعيش منذ زمن في ما هو أسوأ من حال إسرائيل ما بعد تعديلاتها للنظام القضائي، فمطالب “انتفاضة 17 تشرين” تكاد تكون هي نفسها مطالب المتظاهرين الذين ينعون “الديموقراطية” الإسرائيلية يومياً. أما زمرة التطرّف الديني/ العنصري في حكومتهم فتكاد لا تختلف عن “منظومة الحكم” اللبنانية إلا في كونها لم تنهب أموال مواطنيها بعد، لكن مستقبلها يعد بذلك، خصوصاً أنها تستلهم الكثير من إنجازات “حزب إيران” و”المنظومة” الى حدّ الاشتباه بتبادل الخبرات معهما: حال انقلاب وتغيير نظام هنا وهناك. تهميش للدستور والقوانين في لبنان، ولا وجود لدستور في إسرائيل أمّا القوانين فحُرّرت أخيراً من معيار “المعقولية”، ما يساوي إلغاء القضاء، كما في لبنان حيث تعطّل التحقيق في جريمة انفجار المرفأ، وحيث استحالت مساءلة “الحزب” ولو كمشتبه به في حماية أطنان النيترات، وقبل ذلك في مسلسل الاغتيالات من رفيق الحريري وقافلة رفاقه، وصولاً الى لقمان سليم وأخيراً الى الياس حصروني.

والأهم أن ثمة تشابهاً وتطابقاً في أمرين رئيسيين: الأول، حرصٌ شديد على حماية الفساد (في إسرائيل اتهامات قضائية لرئيس الوزراء ووزراء، أمّا التفوّق اللبناني فيتمثّل بحجم الفساد من دون اتهامات. والثاني، أن هناك اندفاعاً مستجدّاً في إسرائيل الى تشريع الاعتماد على ميليشيات المستوطنين للقيام بالجرائم التي قد لا يرضى الجيش بارتكابها، فيما يتفوّق لبنان بأن الميليشيا الإيرانية ابتلعت الدولة من دون أي تشريع، بل ان زعيمها يمتدح الجيش اللبناني (بعد حادثة الكحّالة) ويقول إن “مؤسسة الجيش هي الضامنة للاستقرار والأمن في البلد”، وهو يقصد “الاستقرار والأمن” اللذين يواصل “حزبه” تخريبهما.

في إسرائيل تصاعد الإشارات في الشارع والاعلام الى “حرب أهلية”، لأن الأزمة الراهنة قسمت مجتمعها بين خيارَين سياسيين يمضي أحدهما، الديني المتطرّف، نحو مصادرة مستقبل الدولة (في سياق مصادرته كل فلسطين)، غير أن المستوى السياسي، بما فيه المتطرّفون، تحفّظ عن الخوض في حديث “الحرب الأهلية” التي يعتبر المحللون الإسرائيليون أنها صارت واقعاً. أما في لبنان فإن هذه “الحرب” قائمة فعلاً، وبكل عناصرها من انقسام عميق وواسع حول السلاح غير الشرعي و”استحالة العيش” في ظل جيشين وسلطتين، لكن زعيم “حزب إيران” لا يتحفّظ عن الخوض فيها واستفزاز غالبية اللبنانيين بأنهم لا يستطيعون التغلّب على سلاحه ولا سبيل لهم سوى الاختيار بين مصيرين يعدهم بهما: جهنم أو العصر الحجري.

النهار العربي