إذاً، أقرّت السلطات اللبنانية، من دون أن تعلن، بأنها لا تملك أي حلٍّ لمشكلة النزوح السوري المستجدّ. لا استخدام الردع العسكري ينفع مع وجود معابر كثيرة غير شرعية وشيوع “تجارة النزوح” التي يمارسها متنفّذون. ولا القنوات “الرسمية” تفلح حين لا تكون هناك سياسة متماسكة ومجمعٌ على التزامها، ثم أن موقف النظام السوري وحكومته لم يكن متعاوناً حقّاً عندما كان يمكن أن يكون مفيداً، أما الآن فلم يعد لدى هذا النظام ما يقدمه الى السوريين سوى العوز والجوع، مضافَين الى البطش الأمني الدائم. وإزاء هذا الواقع لا يجد المسؤولون اللبنانيون سوى الشكوى من المجتمع الدولي وتحميله المسؤولية وعدم أخذه بالتحذيرات من أن هذا النزوح بات “خطراً وجودياً” على لبنان- وهذا صحيح، أو أنه يشكّل خطر موجات هجرة الى أوروبا- وهذا احتمال وارد. لكن أهل السلطة في لبنان مداومون على عدم توجيه أي ملامة لنظام بشار الأسد المسؤول الأول عن مآسي سوريا وشعبها، مع مسؤوليته مع حلفه الإيراني عن مآسي لبنان وشعبه.
إغراق دول الجوار القريبة والبعيدة بالنازحين واللاجئين كانت سياسة ممنهجة اتّبعها النظام، سواء للخلاص من سكان يفسدون “الانسجام المجتمعي” المريح لتحالف الأسد مع الملالي، أو لتجميع أوراق مساومة مع المجتمع الدولي بعد حسم الحرب عسكرياً بمعونة الحليف الروسي. هذا الحسم لم ينهِ الأزمة بل قادها الى مخاطر وصعوبات أخرى تمرّ بها حالياً، أما سياسة التهجير فربما أفادت الأسد بعض الوقت، لكن ليس كلّ الوقت، بدليل أنها غدت أحد الملفات التي ساهمت سريعاً في افساد “التطبيع العربي” مع النظام، والمؤكّد أنها بين أهم الملفات التي دفعت الأسد والإيرانيين الى افشال التطبيع مع تركيا. إذ أن عودة النازحين واللاجئين خطرٌ “سنّي” على المخططات التي نُفّذت بالفعل لإنجاز “التغيير الديموغرافي”.
السياسة الأسدية الأخرى، على طريق المساومة، كانت ولا تزال إغراق دول الخليج بالمخدرات. وهذه أدّت أيضاً الى فرملة “التطبيع العربي”، إذ أبدى رأس النظام تجاوباً أولياً مع وقف التهريب ومكافحته، ثم اعترف بعجزه عن ضبط الجهات المحلية والحليفة، فعرضت الدول المعنية مساعدته في المهمة. كان المتداول تقديم ستة مليارات دولار لتفكيك المصانع والشبكات وتعويض “المتضرّرين” من الأطراف القريبة من النظام ومن الإيرانيين وميليشياتهم. لكن النظام طلب أن تصبح الستة مليارات مساعدة سنوية ثابتة، فقط لإغلاق “ملف الكبتاغون”، الذي يتوافق من الإيرانيين على اعتباره “فعل مقاومة” ضد “الحصار الأميركي”. لم يوافق الجانب العربي على هذا العرض ولا على اشتراط النظام تحريك مساعدات أخرى لـ “إعادة الإعمار”، فهذه تضع الدول الخليجية الراغبة في مواجهة مباشرة مع العقوبات الأميركية.
يستطيع الأسد والايرانيون الاستمرار في المساومة، لكن المساومة على ماذا، طالما أن الوضعين المعيشي والاجتماعي يتفجّران ويدفعان بالسوريين مجدّداً الى النزوح ويجعلان من السيطرة والنفوذ قنابل موقوتة، فيما تجهر السويداء بإنهاء الاحتلال الإيراني. ثم المساومة مع مَن، طالما أنهم لم يبنوا أي نموذج يُعتدّ به ولا يجدون أطرافاً دولية أو إقليمية مستعدة لتلبية شروطهم في غياب أي مشروع أو حتى مجرّد نيات لإعادة انتاج استقرارٍ ما، لا في لبنان ولا في سوريا.
النهار العربي
Be the first to write a comment.