ربما كان جديراً بالتذكير، لمَن تنفعهم الذكرى في المقام الأوّل، أنّ «حركة المقاومة الإسلامية ـ حماس» توشك، حتى ساعة كتابة هذه السطور، على إبرام اتفاقية هدنة مؤقتة، إنسانية من حيث العنوان وعسكرية حربية من حيث المضمون؛ مع دولة الاحتلال الإسرائيلي: الجيش الرابع الأقوى عالمياً، الذي يواصل شنّ حرب همجية ضدّ المدنيين الفلسطينيين في سائر قطاع غزّة، وألقى أكثر من 25,000 طن من القنابل (حتى مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر) بما يعادل قنبلتَين نوويتَين بلا إشعاع، من الطراز الذي استخدمته الولايات المتحدة ضدّ اليابان في هيروشيما.

ليس هذا التفصيل عابراً، أو لا يتوجب أن يُنسى في أقلّ تقدير، إذا أخذ المرء بعين الاعتبار انعدام أيّ معيار للمقارنة بين دولة الاحتلال من حيث حجم الجيش ونوعية تسليحه وقدراته التدميرية برّاً وجوّاً وبحراً؛ مقابل حركة مسلحة لا تخفى إمكانياتها العسكرية، ولا يصحّ أن تُقارَب بمعزل عن حصار مطبق على القطاع يدوم منذ 16 سنة ونيف. على رأس معطيات هذا التفصيل حقيقة كبرى مفادها أن الكيان الصهيوني دولة نووية، تقول تقديرات «الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية» ICAN إنها تملك 90 قنبلة ذات رؤوس نووية (بالمقارنة مع 30 في كوريا الشمالية، 164 في الهند، 225 في بريطانيا، و290 في فرنسا…).

المناسبة الأحدث لاستذكار هذه الحقيقة كانت تصريح أميخاي إلياهو، وزير التراث الإسرائيلي، بأنّ الخيار النووي هو إحدى طرق تصفية «حماس» بالنظر إلى أنه «لا يوجد شيء اسمه أبرياء في غزّة»؛ وليس قرار بنيامين نتنياهو الاكتفاء بتجميد عضوية إلياهو في الحكومة سوى المؤشر الأوضح على مدى استخفاف دولة الاحتلال بفتح ملفات البرنامج النووي الإسرائيلي، أياً كانت الأصعدة. ذلك، أيضاً، لأنّ مناسبات أخرى سبق أن تناولت «السرّ المفضوح» إياه، بينها امتناع الاحتلال عن المصادقة على «اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية» والتصويت المنتظم ضدّ قرارات الجمعية العمومية للأمم المتحدة السنوية بصدد دعوة الأعضاء إلى التوقيع عليها والالتزام بها؛ وذلك رغم معطيات تفيد بأنّ الإنفاق الإسرائيلي على البرنامج النووي بلغ 1,2 مليار دولار أمريكي، وأنّ الاحتلال أجرى بالفعل اختباراً نووياً في جنوب أفريقيا سنة 1979 فوق المحيط بين أفريقيا والمنطقة القطبية الجنوبية.

مناسبة أقدم، ولعلها الأطرف، وقعت سنة 2004 حين كان المصري محمد البرادعي يشغل منصب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ وسمحت له دولة الاحتلال بإجراء «تفتيش» نووي، ولكن من ارتفاع عين الطير في حوّامة إسرائيلية حلّقت على هواها في أجواء صحراء النقب. وجه آخر لطرافة الواقعة تمثّل في تصريح البرادعي بأنه «يتفهم» مخاوف الاحتلال الأمنية والوجودية، وفي المقابل صبّ جام غضبه على إيران لأنها تباشر برنامجاً نووياً، ولم ينسَ التعريض بالعالِم الباكستاني عبد القادر خان الذي هرّب أسرار القنبلة النووية إلى 18 بلداً!

وسيرة البرنامج النووي الإيراني مناسبة دائمة، مفتوحة لأنها لا تكفّ عن التجدد والازدياد، لاستعادة سلسلة الأسئلة الشهيرة التي طرحها ذات يوم الصحافي الأمريكي شارلز ريز؛ فاتخذت هيئة أحجية متكاملة تكون مفردة دولة الاحتلال الإسرائيلي هي الإجابة الوحيدة عليها:
ـ من هي الدولة التي تنفرد عن جميع دول الشرق الأوسط في امتلاك الأسلحة النووية؟
ـ من هي الدولة التي ترفض التوقيع على الاتفاقيات الدولية لحظر انتاج الأسلحة النووية، بل وتحظر على المنظمات الدولية القيام بأي تفتيش على منشآتها النووية؟
ـ من هي الدولة التي احتلت عسكرياً أراضي دول مجاورة، وتواصل ذلك الاحتلال متحدية بذلك جميع قرارات مجلس الأمن الدولي المطالبة بإزالة آثار ذلك العدوان؟
ـ من هي الدولة التي ترفض تنفيذ عشرات قرارات مجلس الأمن الدولي، بل وتستخف بهذه القرارات وتلك الهيئة الدولية؟
ـ من هي الدولة التي استخدمت جاسوساً يُدعى جوناثان بولارد، لسرقة وثائق سرية أمريكية، ثم باعتها إلى الاتحاد السوفييتي؟ وهل هي الدولة ذاتها التي أنكرت الواقعة في البدء، ثم اعترفت بها ومنحت بولارد الجنسية الفخرية، بل ونظمت حملات ضغط واسعة لإجبار الرئيس الأمريكي لإصدار عفو يضمن إطلاق سراح الجاسوس، لأنه «بطل قومي» في نظر الدولة ذاتها؟

وأمّا إذا تجاسر ريز وذهب إلى طراز آخر من تطوير الأحجية ذاتها، فإنه لن يغفل عن طرح عشرات الأسئلة حول عشرات الممارسات العسكرية والأمنية والاستيطانية التي تدخل جميعها، ودون عناء وسجال، في مسمّيات الفاشية والأبارتيد والهمجية العارية والبربرية الصارخة. وأن يقصف الكيان المشافي والمخابز والمدارس وملاجئ الأونروا والمساجد، ثمّ يلفّق له أمثال جو بايدن وريشي سوناك وإمانويل ماكرون وأولاف شولتز أكاذيب وجود الأنفاق أو ذرائع الدفاع عن النفس؛ فهذا ليس أقلّ من جديد يُضاف إلى لائحة أسئلة ريز، حيث لا «دولة» على وجه البسيطة يمكن أن تتمتع بكلّ ذلك التواطؤ على جرائم الحرب، وتلك المقادير الصفيقة من تجميل المجازر.

تفصيل آخر جدير بالاقتباس هنا، لأنه يساهم في تسليط الضوء على فصول قديمة/ متجددة من تعاون الديمقراطيات الغربية مع دولة الاحتلال في بناء مفاعل ديمونة، الذي سوف ينتج البلوتونيوم اللازم لتصنيع القنبلة النووية. والرئيس الأمريكي بايدن، الذي يزعم أنّ استخبارات بلاده تعرف بوجود أنفاق لـ«حماس» أسفل مجمّع مستشفى الشفاء، يتناسى أنّ أجهزة بلاده الاستخبارية كانت أقرب إلى أطرش في الزفّة حين تعاونت دولة الاحتلال مع فرنسا لإطلاق البرنامج النووي الإسرائيلي، أواسط خمسينيات القرن المنصرم. وكان سلف بايدن، دوايت أيزنهاور، قد أصيب بالذهول حين وصل تقرير من السفير الأمريكي في دولة الاحتلال يتضمن معلومات عن مفاعل ديمونة، وتوجب أن يمتزج الذهول بالإهانة لاستخبارات القوّة العظمى حليفة الكيان الصهيوني؛ لأنّ المعلومات لم ترشح إلا عبر زلات لسان من رجل الأعمال الإسرائيلي دانييل كيمحي، الذي أفرط في احتساء الكحول خلال إحدى سهرات السفارة الأمريكية، فباح بالسرّ.

وأمّا انتهاج التضليل، حتى في أشدّ أنماطه هزالاً وافتضاحاً، فالتاريخ يسجّل أنّ دافيد بن غوريون سارع إلى امتصاص سخط أيزنهاور، وخَلَفه من بعده جوزيف كنيدي، فأعلن من سدّة الكنيست أنّ المفاعل يُبنى بالفعل، ولكن أغراضه سلمية فقط ويهدف إلى توليد الكهرباء والطاقة؛ وحين يكتمل، سوف تُفتح أبوابه أمام تفقّد الصحافة والعلماء من بلدان أخرى (الأمر الذي لم يحصل بالطبع، حتى من ارتفاع عين الطير في نموذج البرادعي). لاحقاً، في حزيران (يونيو) 1981، سوف تبادر دولة الاحتلال إلى قصف مفاعل تموز/ أوزيراك العراقي بطائرات الـF-16 أمريكية الصنع، رغم أنّ بروتوكول مبيعها يحصر استخدامها في الأغراض الدفاعية فقط؛ وهنا أيضاً تعيّن على الأطرش في الزفة أن يُمنع حتى من ابتلاع لسانه، وطُولب بالمشاركة في سرد الأكاذيب.
ويبقى أنّ مشاركة الولايات المتحدة في المفاوضات التي شهدتها الدوحة، لإتمام صفقة الهدنة الإنسانية وتبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال؛ هو الوجهة الأخرى لانخراط واشنطن في الحرب الإسرائيلية على القطاع، سياسياً ودبلوماسياً ومالياً، وعن طريق ضخّ الأحدث في الصناعة العسكرية الأمريكية، فضلاً عن نشر حاملتين وغواصة نووية. وذاك مآل صريح يفيد بأنّ «حماس» إنما تعقد هدنة مع كيان نووي يمتلك 90 قنبلة نووية؛ ثمّ، ضمناً، مع قوّة عظمى نووية، تملك 5244 قنبلة نووية… سواء بسواء!

القدس العربي