يتزايد في لبنان منذ أشهر سعار التحريض ضد اللاجئين السوريّين. ويتعرّض هؤلاء لانتهاكات معنوية ولخطاب كراهية ولإجراءات إدارية زاجرة. كما يتعرّض بعضهم لاعتداءات جسدية. ووصلت الأمور بما تبقى من سلطات لبنانية إلى حدّ ترحيل المئات قسراً إلى سوريا في الأسابيع الأخيرة، وثمة معلومات عن توقيف عددٍ منهم هناك وتجنيد آخرين في جيش النظام.
والأرجح أن النيّة معقودةٌ لبنانياً على تصعيد الحملة هذه في ظلّ مناخ إقليمي يدّعي ضغطاً من أجل «عودة» اللاجئين إلى بلدهم بعد «المصالحات» العربية وقمّتها في الرياض، وفي ظلّ مناخ دولي يتّجه أكثر فأكثر نحو تكريس النزعات العنصرية والشوفينيّات الوطنية وحصر تنقّل البشر عبر الحدود، مقابل إزالة الأخيرة تماماً أمام السلع والاستهلاك وتهريب الأموال.
ولا يبدو أن النقاش العلميّ أو الرصين للمسألة ممكنٌ رغم جدّية بعض المحاولات الفردية والجماعية اللبنانية. أوّلاً لأن ما يجري يستثير غرائز خوفٍ وبغضاء عند فئات شعبية واسعة، تغذّيه إشاعات وأكاذيب يُطلقها مسؤولون سياسيون وأمنيون ورجال دين ووسائل إعلام وأصحاب هيئات اقتصادية. وثانياً لأن وجود أكثر من مليون لاجئ في بلدٍ صغير تنهشه الانقسامات السياسية والطائفية والمناطقية والطبقية، ويعيش كارثةً اقتصادية ومعيشية، ويملك فوق ذلك ذاكرة حرب واحتلالات، يحوّل موضوع اللجوء إلى هاجس أو كابوس ديموغرافي لدى البعض من جهة، وإلى وسيلة توجيه للأنظار بعيداً عن أسباب المشاكل والأزمات والانهيارات الحقيقية التي تعصف به من جهة ثانية.
على أن التذكير تكراراً بعدد من القضايا مفيدٌ ليس لمواجهة الغرائز وممارسات العنف والكراهية، فهذه وتلك لا علاج لها خارج دولة القانون ومقتضياتها، وهي غائبة اليوم، بل لمخاطبة المتردّدين بين رفض ما يجري أو الاستسلام له بوصفه جزءاً من التعفّن العام الذي يصيب لبنان والمنطقة بأسرها.
هنا ستٌّ من تلك القضايا.
الأولى هي تدخّل حزب الله العسكري في سوريا بطلبٍ إيراني نصرةً لنظام الأسد، إن في القصير أو في ضواحي دمشق أو في منطقة الزبداني ولاحقاً في معظم المناطق السورية، الذي تسبّب بتهجير عشرات الآلاف من سكّان هذه المناطق إلى لبنان. والحُكم اللبناني الذي يُمسك حزب الله بقراراته الأمنية والسياسية الخارجية الاستراتيجية مسؤولٌ بالتالي عن جانب من جوانب أزمة اللجوء التي يشكو منها. واستمرار الحزب في احتلاله عدداً من المواقع داخل سوريا وانتشار المئات من عناصره في أراضيها إلى الآن، بما فيها تلك التي يتحدّر منها قسم كبير من اللاجئين، مسؤول بدوره عن تفاقم الأزمة المذكورة.
القضية الثانية هي انتفاء الصلة الوثيقة بين الكارثة الاقتصادية اللبنانية الراهنة ووجود اللاجئين. فالكارثة هي نتيجة مباشرة لفساد معظم المسؤولين في الدولة منذ نهاية الحرب، وتناهبهم مبالغ طائلة من المال العام خلال تلزيم المشاريع الكبرى وتنفيذها (بالشراكة في الكثير من الأحيان مع مسؤولين في النظام السوري، أقلّه لغاية طرد قواته من لبنان العام 2005). والكارثة هي أيضاً نتيجة لخياراتٍ اقتصادية وهندسات مالية ومديونية داخلية متفاقمة وسياسات فوائد مصرفية مرتفعة رافقها في السنوات الأخيرة تراجع استثمارات ومساعدات وتهريب أموال وتمنّع دولي عن الإقراض من دون إصلاحات لم تلتزم الحكومات اللبنانية المتعاقبة بأي منها. وكلّ هذا لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بمسألة اللجوء واللاجئين.
القضية الثالثة هي أن الأرقام المتداولة حول اللاجئين بأعدادهم ومداخيلهم تنبع في ديماغوجيّتها ومبالغاتها من نفس ثقافة النِفاق التي يعتنقها المسؤولون اللبنانيون ويعبّرون عنها كلّ ما تحدّثوا عن الاقتصاد وحجم الخسائر والموجودات في القطاع المصرفي وغيرها من الشؤون التي ظنّوا أنهم يستطيعون إقناع الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد بها. فكانت النتيجة أن المفاوضات معهم توقّفت إلى حين يعتمدون معلومات وأرقام صحيحة ويلتزمون بمؤدّياتها وبجملة الإجراءات المطلوبة منهم. وفي أي حال، وبمعزل حتّى عن دقّة الأرقام المضخّمة المتداولة، ينبغي التأكيد على أن الدخل الذي توفّره الهيئات الأممية لأقلّ من 50 في المئة من المسجّلين لدى المفوّضية العليا للاجئين (وهم 814 ألفاً، وتوقّف تعدادهم بطلب رسمي لبناني قبل سنوات) أو الخدمات المموّلة لبعضهم من هيئات أخرى، تمكّنهم من العيش بحدوده الدنيا والإنفاق على المأكل والمشرب والطبابة وبعض التعليم داخل لبنان. بمعنى آخر، تمثّل المساعدات التي ترِد البلد بسبب وجودهم فيه، كتلة نقدية تُضَخّ من خارج الاقتصاد اللبناني إليه، ويجري صرفها في العديد من قطاعاته بما يساهم في إبقائها حيّة. في المقابل، لا يمكن نفي الضغط الذي تتسبّب به أي زيادة سكّانية كبيرة على بنى تحتية وعلى عدد من الخدمات في أي بلد، فكيف إذا كان البلد المعنيّ يعاني أصلاً من سوء تلك البنى وتلك الخدمات. وهذا أمر يتطلّب بحثاً آخر للإجابة عن أسئلته وإشكاليّاته.
القضية الرابعة، ربطاً بما سبق، هي أن لبنان منذ أشهر طويلة بلا رئيس جمهورية وبلا حكومة وبمجلس نيابي معطّل وبمجالس بلدية تَقرّر تأجيلُ انتخاباتها رغم فداحة ما يمرّ فيه البلد اقتصادياً ومالياً واجتماعياً. وهذا بالطبع لا علاقة للاجئين به، بل هو نموذج عن مدى رقاعة الطبقة السياسية واستهتارها بمصالح الدولة والمجتمع، وعن مأزومية النظام اللبناني نفسه الذي باتت آليات الاحتكام إلى دستوره لإدارة الخلافات بين أركانه أو حلّها معطّلة.
القضية الخامسة هي أن بين اللاجئين السوريّين إلى لبنان طلاباً جامعيّين وعاملين وعاملات في مجالات الطب والهندسة والحقوق والصحافة والثقافة والفنون والتعليم والتجارة، وبعضهم تخرّج من جامعات غربية ينبهر بها اللبنانيّون عادة. وبينهم أيضاً أفراد وعائلات لها أملاك في لبنان وإيداعات مصرفية خسرتها كما خسر قسم كبير من اللبنانيّين إيداعاتهم وأموالهم. وبينهم أخيراً عمّال بناءٍ وصيانة وأشغال حرفية وزراعة وباعة وتنظيف كان كثر منهم في لبنان قبل الثورة والحرب في سوريا، وساهموا في إعمار البلد وتقليص كلفة العديد من السلع والخدمات التي أحجم اللبنانيّون منذ عقود عن العمل في ميادينها لأسباب اجتماعية واقتصادية. والتذكير بهذا التنوّع ليس من باب مفاضلة فئة على سواها أو إقامة هرم حقوقيّ تراتبيّ بين اللاجئين، لكن التنميط الذي يتعرّضون له والتعميمات تُغيّب الأمر المذكور، وتُعاملهم بوصفهم جميعاً عبئاً على لبنان واقتصاده وأمنه.
أما القضية السادسة فهي أن خطاب كراهية «الغرباء» المقيمين في لبنان، خاصة إن كانوا من خلفيات أو بيئات محافظة أو من أكثريّات مسلمة، ليس جديداً. فقد تعرّض له الفلسطينيون لعقود، وضُخّمت أيضاً أرقامهم ورُمِيت عليهم بين العام 1998 والعام 2011 مثلاً تُهم تتعلّق بالإرهاب والتآمر، واستُخدمت في وجههم على الدوام شمّاعة التوطين لتبرير إجراءات ضد حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. ووصل الأمر ببعض السفهاء، ممّن يتفوّقون اليوم على سواهم في التحريض ضد اللاجئين السوريّين، حدّ القول إن سلاح حزب الله هو الضمانة في مواجهة توطين الفلسطينيين، في إشارة مذهبية وقتها لتبرير التحالف مع «الحزب الشيعي».
وهذا كلّه، ماضياً وحاضراً، من علامات القلق والارتياب والقصور القِيَمي والثقافي التي تختبئ خلف عنصريّةٍ يظنّها أصحابها كفيلةً بإعادة الاعتبار لتفوّقهم المزعوم والمهدّد بفعل الاجتياح المستديم المُتخيّل لمدنهم وقراهم.
يبقى أنه من الضروري الإشارة، بعد ذكر القضايا الستّ، ويمكن بالطبع إضافة غيرها، إلى أن عودة اللاجئين إلى سوريا من لبنان وتركيا والأردن وشمال العراق، أي من دول الجوار، لن تتمّ بكثافة في المستقبل القريب، ليس لأن ديارهم مدمّرة أو محتلّة أو أحوالها سيئة أو لأن بينهم من لا يرغب في العودة طالما بقي النظام الأسدي فحسب، بل أيضاً وخاصةً لأن هذا النظام الذي قصفهم وشرّدهم – بمساعدة حلفائه الروس والإيرانيين واللبنانيين والعراقيين – لا يريد لغالبيّتهم أن يعودوا، وقد قال رئيسه ما معناه إن النسيج الاجتماعي السوري صار في غيابهم أكثر سويّة. وهو إن وافق بعد حين على إعادة بعضهم، فلأنّه يشترط مقابل ذلك مساعدات اقتصادية ومزيداً من التطبيع السياسي معه.
وهذا يضاعف بالتالي التحدّيات على لبنان واللبنانيّين في المستقبل القريب، ويوجب التفكير بسبل التخفيف من حدّة التوتّر والاحتقان، عوض الاختباء خلف النقمة والرياء والبحث عن «أكباش فداء» لن يغيّر لومها أو التعدّي عليها من مأساوية الأحوال الاقتصادية والسياسية اللبنانية في شيء…
القدس العربي
Be the first to write a comment.