حرب لبنان حجبت حرب غزة وجعلتها شبه منسية على رغم أن إسرائيل تواصل ترتيب احتلالها الدائم للقطاع، ترتكب مجازر يومية، وتنفّذ إبادة جماعية مفتوحة وعلنية، مستهدفة الضغط على “حماس” كي تستسلم وتفرج عن الرهائن مقابل وقفٍ لإطلاق النار بالشروط الإسرائيلية. وما لبث “حزب إيران/ حزب الله” أن وافق على اتفاقٍ لوقف اطلاق النار مقابل شروط وضعت لبنان عملياً تحت وصاية أميركية (- فرنسية) وترخيص أميركي يتيح لإسرائيل الاستمرار في انتهاك الأجواء اللبنانية وتنفيذ أي عمليات وضربات أينما تشاء ومتى تشاء بموجب إبلاغ شكلي عن أي “تهديد لأمنها”، ولا يزال “الحزب” يروّج بأنه “انتصر” لمجرّد أن أمينه العام لا يزال يبثّ خطاباً مسجّلاً، وأن العدو لم يتمكن من شطبه نهائياً.
ثم جاء الحدث السوري الخاطف فحسم في بضعة أيام حرباً استمرّت ثلاثة عشر عاماً وأسقط نظاماً جثم على صدر سوريا طيلة خمسة عقود ونيّف، وبدا كأنه فصلٌ ملحق بحربي غزّة ولبنان اللتين أصبحتا أيضاً شبه منسيتين، سواء لأن سوريا تبقى دولة محورية مهما أُضعفت، أو- الأهم- لأن سقوط النظام الاسدي أسقط بدوره النفوذ الإيراني مهما بلغت مكابرة طهران، كما خفّض مستوى النفوذ الروسي في الشرق الأوسط مهما قللت موسكو من حجم الخسارة التي أصابتها. وفيما برزت تركيا كطرف حائز على “الجائزة الكبرى”، بعد دعمها التغيير في سوريا بضوء أخضر أميركي ما لبث أن أزاح عنها (موقتاً؟) جزءاً من التهديد الكردي بدفعه “قسد” الى إظهار عدم العداء لـ “هيئة تحرير الشام” والقوات الأخرى المدعومة تركياً، إذا بإسرائيل تنبري سريعاً للتدخّل ثم التوغّل ثم احتلال مساحات من سوريا والتهديد بمزيد من التمدّد كما لو أنها تملك وعداً وضماناً غير معلنين من الإدارتين الأميركيتين، الخارجة والآتية، يخولانها توسيع الجولان المحتل لتعويض خسارتها بشار الأسد ونظامه.
لم يعد الساسة الاميركيون يترددون أو يتحفّظون في العودة الى الحديث عن “تغيير الأنظمة”، مشيرين تصريحاً أو تلميحاً الى إيران، وتواكبهم إسرائيل بصفتها “شريكة” في رئاسة دونالد ترامب، إذ يعلن بنيامين نتنياهو أنه حادثه أخيراً في شأن إيران وسوريا وغزّة ويعطي جيشه توجيهات للاستعداد لـ “المهمة الكبرى”، أي لضرب المنشآت النووية الإيرانية، كذلك لـ “ضربات قاضية” للحوثيين في اليمن الذين أصبحوا وحدهم في “ساحة” اسناد غزّة، بالأحرى اسناد إيران. أما “الساحة” العراقية فكان كافياً حتى الآن أن توجّه واشنطن، عبر رئيس الوزراء العراقي، انذاراً لميليشيات “الحشد الشعبي” وسواه بأن أي ضربات إسرائيلية لها ستحظى بدعم أميركي كامل، كي تبدأ الانكفاء والتفكير في اصلاح الالتباس في علاقتها بالدولة وبإيران في آن.
مرحلة تغيير النظام في سوريا، بعد تحرّرها من تسلّط الأسد والإيرانيين والروس، لا تزال في بدايتها وستكون لفترة غير محددة مشوبة بمخاطر وتعقيدات داخلية وخارجية. فالشعب لا يزال في طور استيعاب ما جرى ويريد استعادة “وحدته”، والحكام الجدد يحتاجون الى قبول خارجي لكنهم يطمحون للحدّ من شروطه. وتبدو الدول المتدخّلة مباشرةً متنافسة وغير متوافقة لكنها مرتبطة بـ “المايسترو” الأميركي الذي تتماهى مصالحه مع مصلحة إسرائيل، فيما تخشى الدول العربية غير المتدخّلة مباشرة اللعب والتلاعب الأميركيين، أما الدول الخاسرة في سوريا فتحصر الآن ما تبقّى لديها من أوراق لانتهاز فرص التخريب… وأما التغيير في لبنان فله خريطة طريق تبدأ بانتخاب رئيس يصلح للمرحلة الصعبة واستحقاقاتها، إلا إذا ارتأى “حزب إيران” توظيف سلاحه فقط في التخريب.
النهار العربي
Be the first to write a comment.