أبدت أنقرة رغبتها في إعادة العلاقات مع حكومة دمشق، عبر تصريحات المسؤولين الأتراك المتتابعة، والتي ربما لم تنته بعد، وقابلها النظام، عبر قنوات الإعلام شبه الرسمي ومحلليه السياسيين، وتصريحات لوزير خارجيته فيصل المقداد، بالقبول المبدئي بالتفاوض. لم تحصل مفاوضات، وفق المقداد، لكن الأكيد أن اجتماعاً أمنياً عُقد في دمشق، برعاية روسية، بين رئيسي جهازي المخابرات في البلدين؛ هاكان فيدان وعلي مملوك، وعلى الأرجح أنه ليس الأول من نوعه. يرحّب النظام السوري بكل الراغبين في إعادة العلاقات معه، وهو مستفيدٌ من الضجّة الإعلامية التي تُثار حول ذلك، ضمن بروباغاندا الانتصار التي يجترّها إعلامه، ويجيد إعادة لوكها وتقديم نفسه للعالم على أنه أهل للحكم، وعلى المجتمع الدولي التعامل معه، والمضي بخطّة الإنعاش المبكر، والتي تعني له تدفّق أموال على شكل مساعدات، تخفّف من الانهيار الدراماتيكي لقيمة العملة السورية.

أن تطرح أنقرة مصالحة النظام في دمشق، هو ليس الانقلاب الأول في الموقف التركي من نظام الأسد خلال سنوات الأزمة التي تزيد على 11 عاماً؛ فبعد أن كان أردوغان، رئيس الوزراء حينها، ناصحاً للأسد بمصالحةٍ مع المعارضة السورية، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون، ومع تعنّت النظام في قبول الحلول السلمية، تبنّى النظام التركي الدعم الكامل للمعارضة السورية السياسية، والعسكرية بأجنحتها الإسلامية، واحتضانها، مراهناً على تمكّن الإسلاميين من قلب النظام واستلام الحكم، كما حصل في مصر وتونس حينها، وبالتالي، أن تكون لتركيا حكومة موالية لها في دمشق؛ وبذلك انتقل حزب العدالة والتنمية من سياسة تصفير المشكلات مع الجوار، إلى الانخراط المباشر في كل تفاصيل المشهد السوري. جاءت النقلة التالية حين شعر الأتراك، بعد أن تبنّى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) دعم “قوات سوريا الديمقراطية” وتشكيلها، والتي تشكّل وحدات حماية الشعب الكردية عصبها الرئيسي، ويعتبرها الأتراك امتداداً لتنظيم حزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابياً في تركيا، الأمر الذي دفع أنقرة، في منتصف 2016، إلى مصالحة موسكو والاعتذار عن حادثة إسقاط المقاتلات التركية الطائرة الروسية، ودفع بمسارات جديدة في الملف السوري رسمتها روسيا، وتدور تركيا وإيران في فلكها، من مسار أستانة إلى اتفاقات خفض التصعيد والمصالحة وانسحابات المعارضة من العمق السوري، وما رافقها من تهجير، مقابل حصول أنقرة على مناطق نفوذ حدودية، وتدجين الفصائل الإسلامية المعارضة، لحماية الأمن القومي التركي من الخطر الكردي المزعوم.

وقد جاء التغيير في الموقف التركي، أخيراً، باتجاه إعادة العلاقات مع النظام السوري، تحت ضغوط داخلية تركية؛ ففي ظل التضخّم الاقتصادي، وصعوبات معيشية يعاني منها الأتراك، تراجعت فرص حزب العدالة والتنمية بالفوز بالانتخابات البرلمانية العام المقبل. لم يتمكّن الرئيس التركي أردوغان من انتزاع قبول أميركي وروسي بعملية عسكرية جديدة داخل سورية على الشريط الحدودي، لإعادة مليون لاجئ سوري في أراضيها، فضلاً عن تحقيق إنجاز جديد بشأن تأمين الحدود من خطر عناصر حزب العمال الكردستاني. لذلك توجّه المسؤولون الأتراك لإطلاق تصريحات في إعادة العلاقات مع نظام الأسد، وإعادة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، خصوصاً أن المعارضة التركية ترفض الوجود السوري في تركيا، وتحمّله مسؤولية التدهور الاقتصادي.

تريد موسكو من أنقرة أن تتوسّط في مصالحة بين نظام الأسد ومعارضيه من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والفصائل الإسلامية، وهذا الطرح سيفشل، فلو افترضنا أن المعارضة قبلت بذلك، فإن النظام غير قادر على القيام بهذه الخطوة؛ فبنْيَتُه لم تكن تسمح بهذه الخطوة في 2011، وهو الآن أكثر صلابة في رفضه مثل هذه الشراكة في الحكم، بسبب التوغّل الإيراني في مفاصل القرار السوري، ولأن خطوةً كهذه ستعني، بالضرورة، إعطاء الشعب المحكوم بالقمع مزيداً من الحريات، في ضوء الأزمات الاقتصادية المنهكة له، ما يشكّل تهديداً للنظام بخروج احتجاجات شعبية مجدّداً. أما ملف عودة اللاجئين، ففضلاً عن أنه لا ضمانات تكفل عدم ملاحقتهم، فإن النظام نفسه لن يقبل بهذه الخطوة، إلا بالتصريحات الإعلامية، أو أنه سيقبل بتوافد مجموعات صغيرة من المهجّرين، وليس بالحجم الذي يطمح إليه أردوغان؛ فالسياسة الداخلية للنظام السوري باتت تقوم على “تطفيش” الشعب في مناطق سيطرته، خصوصاً الشباب منهم، بل والاستفادة من التحويلات المالية بالعملات الصعبة التي يرسلها المهجّرون إلى أهاليهم في الداخل.

تذهب تحليلات إلى أن التطبيع العربي والإقليمي مع دمشق ماضٍ وأكيد، وأن بإمكان روسيا وتركيا فرض حلٍّ سياسي على المجتمع الدولي، يقوم على إعادة تأهيل النظام وتدعيمه ببعض معارضيه، ووفق مسار سوتشي الروسي في 2018 “للحوار الوطني”؛ لكن هذه الفرضية تتجاهل ثقل الدعم الأميركي لـ”لإدارة الذاتية”، والتي تسيطر على ثلث الأراضي السورية، وتضم غالبية مصادر الطاقة والمنتوجات الزراعية السورية، وهذا يعني أن أي حل سياسي يستوجب الموافقة الأميركية، وواشنطن تعرقل عمليات التطبيع مع نظام الأسد، من خلال قانون قيصر، ولا تريد لروسيا أن تنفرد بالحل السوري، لكنها في الوقت نفسه لا تمانع بقاء سورية بلا حل سياسي، ومستنقعاً للروس والأتراك معاً، وهذا واضحٌ من اقتصار الاهتمام الأميركي بالوضع السوري على ملف المساعدات الإنسانية ومحاربة تنظيم داعش.

ستقود الرغبة التركية في تحسين العلاقة مع دمشق إلى فتح طريق للمفاوضات، لكنها طريق من الصعب أن تؤدّي إلى إعادة العلاقات كما كانت قبل 2011؛ فالنظام لا يستطيع استقبال ملايين من اللاجئين في مناطق سيطرته، ولا يملك استعادة السيطرة على حدوده مع تركيا، وضبطها من تحرّكات الوحدات الكردية، وهناك إيران غير الراغبة في المصالحة مع أنقرة والمعارضة السورية. الممكن هو تحسّن في العلاقات على مستوى التنسيق الأمني، وهو موجود سابقاً؛ أو قد تتقدّم المفاوضات بالفعل باتجاه إعادة عدد محدود من اللاجئين تُقدم منجَزاً للداخل التركي، مقابل أن يتمكّن النظام من الحصول على مزيد من المساعدات وتمويل لبعض مشاريع البنى التحتية.

العربي الجديد