رغم الالتباس الكبير الذي يغلف الموقف الإيراني الراعي أساسا لهجوم “حركة ح” في “طوفان الأقصى”، ومن ثم حرب المشاغلة لـ”الحزب” وسواها من مشاغلات فرعية للفصائل التي ترتبط بنفوذه، وأخيرا لا آخرا لرد “الحزب” البارحة وما سبقه وأعقبه من رد استباقي إسرائيلي، رغم ذلك ترانا أمام فصل مستعاد من تجارب “الحرب الباردة” في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
مرت الحلقة الأخطر التي كان يترصدها الشرق الأوسط والعالم من الصراع الحربي الإقليمي من دون حرب شاملة، أقله حتى الساعة، ولو ان “المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين” بمعنى عدم جواز إسقاط احتمال الحرب الذي لم يسقط، وخطِر جدا الركون إلى معادلة حذفه. ولكن تبدل اللاعب “الجبار” الثاني في الحرب الباردة، الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي في مواجهة الجبار الأكبر قديما وحديثا ودوما الولايات المتحدة الأميركية، بدا كأنه أوحى لإيران بإمكان التماهي والتتلمذ على أيدي السوفيات، وبدل أن تتورط طهران في المواجهات المباشرة مع إسرائيل وتورط نفسها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، استقت بعض دروس وتجارب الحرب الباردة بواسطة الوكلاء.
بطبيعة الحال، أصحاب الحماسة المفرطة في “#محور الممانعة”سيتطوعون للزعم أن إيران فرضت دفاتر شروطها حتى على الولايات المتحدة، ما دامت الإدارات الديموقراطية المتعاقبة، وصولا إلى الإدارة الحالية، تولت مد بساط التسويات والمفاوضات المباشرة أو الوسيطة أو غير المباشرة في ملف النووي وملف النفوذ الإقليمي، بما يعني الزعم بحجم عملاق مزعوم لإيران يضعها في مصاف المفاصلات مع واشنطن. ومع ذلك فإن هذا التضخيم لن يحجب سؤالا محوريا أملته وقائع العمليات الميدانية التي حصلت البارحة تحديدا، ولم تتجاوز الساعات الخمس في مجملها، بين رد ورد على رد واستباق والتحاق وما اليها من مفردات حربية لم تخف جوهر تجنب السقوط المتبادل بين إسرائيل و”الحزب” في مقتل الحرب الشاملة.
السؤال يتصل باستقراء المراحل اللاحقة تباعا وما إذا كان لبنان الذي “نجا” أمس، ولا نقول لحسن الحظ بل لدواعي الحسابات القسرية ودقتها على الأرجح على ضفتي المواجهة، من براثن حرب مخيفة للجميع، سيدفع في المقابل أكلافا هائلة متتابعة وإضافية لموجات وجولات حربية إضافية لا تتوقف ما دامت دوامة حرب غزة لن تنتهي، لا الآن ولا غدا ولا بعد أشهر، وحتى ما بعد الانتخابات الأميركية وتسلم الإدارة المنتخبة، أيا يكن على رأسها دونالد ترامب أو كمالا هاريس، زمام الحكم.
أساسا، لم تكن معالم هذه المواجهات أو حرب المشاغلة هذه التي تدور فوق أرض الجنوب وعبر الحدود إلا نمطا مبتكرا من أنماط “اللاحرب واللاسلم” في الشرق الأوسط، والتي عرفت واشتهرت وذاع صيتها إبان الحرب الباردة، إلى أن سقط الستار الحديدي وانتهى الاتحاد السوفياتي وانهار جدار برلين. وما بلغته تطورات التعقيدات التي تراكمت منذ 11 شهرا بعد انفجار حرب غزة أعاد الكثير من استعادات حروب الاستنزاف التي لا تسمح بانتصارات كاملة وانكسارات ساحقة، ولعلها قد تتمادى ما دام العض على الأصابع لم يبلغ حدود قدرة أي محارب على قطع رأس عدوه. لذا كان فصلا مفصليا أمس في مواجهة حربية ولم تكن بداية حرب أو نهايتها بمعايير كلاسيكية جامدة. فهذه الحرب هي انعكاس لنوع مبتكر من الصراع النفوذي في المنطقة الذي تتغلب فيه الحسابات على نزعات قلب الطاولة … ولا شيء أكثر!
النهار العربي
Be the first to write a comment.