إذا أمكن تشبيه اللجنة الدستورية السورية بالبورصة، فإن حصيلة التعاملات التي سجلت في الجولة السادسة التي إنتهت قبل أيام، في جنيف، تجيز الإستنتاج أن نظام الرئيس بشار الاسد الذي طرد فعلياً وفد المعارضة، ومعه وفد المجتمع المدني، من قاعة التداول، حقق مع حليفيه الايراني والروسي أرباحاً سياسية صافية، يمكن ان تتوج بالاستجابة لمشيئته وإقفال تلك البورصة كلياً.. تمهيداً لإعادة أي نقاش دستوري سوري الى حضن الوطن.

ولكي لا يخطىء أحد الحساب، فإن اللجنة الدستورية إنما فتحت قبل ثلاث سنوات، أمام جميع المتداولين بالشأن السوري، عدا السوريين أنفسهم، سواء النظام الذي لم يعد يملك من أمره شيئاً، والمعارضة التي لم تعد تملك سوى الاسم، والمجتمع المدني الذي لم يعد له وجودٌ سوى في الخيال. لا أحد في الخارج، يستثمر في تلك المكونات الثلاثة، ولا أحد يأبه لأي منها، لكنه يكتفي بالمضاربة بها في وجه المتعاملين الاخرين في البورصة..التي إنخفضت أسعار الاسهم فيها الى ادنى مستوى منذ إنطلاقتها في مثل هذه الايام من العام 2019.

طوال السنوات الثلاث الماضية، ظلت اللجنة المكلفة حسب قرار مجلس الامن الدولي الرقم 2254 ، كتابة دستور جديد لسوريا، تصنف بإعتبارها عملية شأنا داخلياً سورياً لا دخل فيه، لغير السوريين، بما في ذلك الامم المتحدة التي تولت مهمة التنظيم والتمويل والرعاية، وأصبحت المكان الوحيد في العالم الذي يلتقي فيه الفرقاء السوريون للتداول في مستقبلهم السياسي، بمعزل، أو بإغتراب عما يجري على أرض الواقع، من خسارة النظام لحرية القرار، وخسارة المعارضة لأي قرار، وخسارة المجتمع المدني لأي مبرر..في واحدة من أسوأ مفارقات الازمة السورية.

الجولة السادسة شهدت على تغيير جوهري في دور اللجنة الدستورية وآليات عملها. ظلت بورصة سياسية، لكنها لم تعد تعبر عن ميول السوريين وأمزجتهم، بقدر ما صارت تعكس بدقة حجم المضاربات السياسية بين الاميركيين والروس والايرانيين والاتراك وغيرهم. إنعقدت تلك الجولة على وقع أنباء عن إستثناءات اميركية من قانون قيصر، وفي ظل أخبار يومية عن إتصالات رسمية سورية مع بلدان عربية متعددة تنتظر الفرصة المناسبة للعودة الى حضن النظام. إلتقط الروس تلك الاشارات بصفتها دليلاً على تبدل في الموقف الاميركي يستدعي الرد بإشاعة أجواء إيجابية، عن أن الجولة السادسة معنية بالدخول في تفاصيل كتابة دستور جديد لسوريا، والتجاوب مع مطالب المعارضة السورية(حسبما باتت تعرف في الاعلام الرسمي السوري، بدلا من تعريفها السابق ب”وفد تركيا”). وأثار اللقاء الاخير بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان المزيد من الآمال بأن اللجنة ستتجاوز المناورات والمماطلات السابقة من قبل النظام في عمل اللجنة.

لكن سرعان ما تبين الروس أن قراءتهم للموقف الاميركي غير دقيقة، لاسيما عندما طلبت موسكو من إسرائيل التوسط لدى واشنطن من أجل عقد لقاء ثلاثي للبحث في الازمة السورية، وهو ما رفضه الاميركيون، حتى الآن على الاقل، وأوضحوا أن الاستثناءات من قانون قيصر هدفها فقط دعم الاقتصاد اللبناني والاردني والمصري المتهالك، وهي ليست ضوءاً أخضر لمصالحة النظام السوري أو الكف عن معاقبته، ولا هي طبعا هدية مجانية، سابقة لأوانها، تقدمها الى كل من روسيا وإيران، اللتين لم تبديا أي إستعداد للتنازل عن مواقفهما السورية.

ويبدو أنه عندما تلقى الروس الرسالة، صدرت من دمشق ( أو ربما من موسكو) تعليمات الى وفد النظام في جنيف بمغادرة إجتماعات اللجنة الدستورية على الفور، وسحب “الاوراق الدستورية” التي اقترحها بنفسه، من التداول، وإبلاغ الامم المتحدة أنه لم يعد هناك مجال لأي نقاش حول الدستور، لا في الشهر المقبل، كما كان يفترض، ولا في الشهر الذي يليه كما كان يتوقع..

البورصة “الدستورية” السورية التي سجلت في ختام جولتها السادسة، تلك التقلبات الحادة، لا توحي حتى الآن سوى أن الاميركيين تحركوا خطوة واحدة في إتجاه الازمة السورية، لا تعني السوريين، ولا تكفي للحكم على العلاقات الاميركية الروسية.. لكنها تسمح بالتكهن بأن الدستور السوري لن يتجدد ولن يتغير أبداً، وسيصبح السفر الى جنيف ممنوعاً.