دخلت تونس مع هذا الشهر عاما انتخابيا رئاسيا ولكن لا شيء إلى حد الآن يوحي بذلك فعلا.

الأكيد أن البلاد ستشهد بعد شهرين انتخابات «مجلس الأقاليم» وهو مجلس استحدثه الرئيس قيس سعيّد كغرفة ثانية، أو موازية، لمجلس النواب للنظر في المشاريع الاقتصادية في أقاليم البلاد الخمسة التي أعلنها مؤخرا. ولكن في ضوء تجربة الانتخابات البرلمانية التي جرت في ديسمبر /كانون الأول العام الماضي وشهدت نسبة إقبال هزيلة قياسية (11٪ تقريبا من بين أكثر من 9 ملايين ناخب مسجلين) وتوالي مواقف أحزاب المعارضة الداعية إلى مقاطعتها، وانشغال الناس بشظف العيش الذي باتوا يعانونه مع الغلاء الفاحش وندرة المواد الأساسية، من المرجّح ألا تشهد انتخابات الأقاليم إقبالا أفضل بكثير مما عرفته الانتخابات البرلمانية.

رغم كل ذلك، من الوارد أن تلقى هذه الانتخابات اهتماما سياسيا وإعلاميا، بغض النظر عما ستكون عليه نسبة المشاركة ومدى الاهتمام الشعبي بها، خاصة أن التجربة جديدة وغير مفهومة تماما، ولكن انتخابات أخرى أهم منها بكثير ومع ذلك لا أحد يتحدث عنها الآن.

لا أحد يتحدث الآن عن هذه الانتخابات الرئاسية الأهم التي يفترض أن تجري بعد عام من الآن، بل لا أحد يدري حقيقة ما إذا كانت ستجري أم لا، حيث ما زال يلف هذا الموعد الانتخابي الكثير من الغموض، مع أن أغلب الدول عادة ما تنهمك في الخوض فيه على الأقل قبل عام، يسمى أصلا بالعام الانتخابي الرئاسي، وفيه تكثر التوقعات وعمليات سبر الآراء والاعلان عن نوايا الترشح لكن لا شيء من ذلك في تونس حاليا.

إلى حد الآن مثلا، لا أحد يدري إن كان قيس سعيّد سيعيد ترشيح نفسه أم لا فهو لم يفصح بعد عن ذلك مكتفيا بالقول في أبريل / نيسان الماضي، في الذكرى 23 لوفاة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، إن «قضية الترشح للانتخابات لا تُخامرني بل يُخامرني الشعور بالمسؤولية» مضيفا وقتها أن «المناصب والقصور لا تهمني، ما يهمني هو وطني ولست مستعدا لتسليم وطني إلى من لا وطنية لهم”.

السطر الأخير بدا مخيفا لكثيرين وطرح تساؤلا محيّرا عما إذا كان سعيّد سيلتزم بإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، وما إذا كان مؤمنا حقا بمبدأ التداول على السلطة. وما أذكى هذين التساؤلين الهامين أن موعد الانتخابات الرئاسية آخر عام 2024 يأتي مع انتهاء المدة الرئاسية، كما جاء بها دستور عام 2014 الذي وصل بفضله سعيّد للرئاسة عام 2019، قبل أن يلغيه هو نفسه ويفرض آخر، لكن لا شيء يؤكد بالضرورة التزامه بهذا التاريخ، مع أن الانتخابات الرئاسية يفترض أن تجري «في الأشهر الثلاثة الأخيرة من المدة الرئاسية» وفق دستور سعيّد نفسه المعمول به حاليا. أما تلك الإشارة إلى عدم تسليم الأمانة إلى «من لا وطنية له» فتفتح الباب واسعا أمام تأويلات لا حدود لها، خاصة حين نعلم مفهوم الوطنية عند الرجل وطبيعة تصنيفاته السابقة بين «الوطنيين المخلصين» و«الخونة والعملاء».

ما يزيده الأمر التباسا أن أحزاب المعارضة لا تمتلك إلى حد الآن أي رؤية مشتركة للتعاطي مع الانتخابات الرئاسية. هناك منها طبعا من لا يعير أي اهتمام أصلا لهذه الانتخابات، وما إذا كانت ستجري أم لا، وهل سيترشح لها سعيّد أم لا، وذلك لقناعتها الشديدة بأن ما بُني على باطل فهو باطل، وبالتالي فهي غير مستعدة لمسايرة الرئيس في أي استحقاق انتخابي يأتي في سياق ما تراه تمشيا انقلابيا منذ يوليو / تموز 2021 على الدستور والمؤسسات التي بناها التونسيون بأوسع إجماع وطني بعد ثورته 2011.

في المقابل، هناك من يدعو إلى شيء آخر مختلف تماما، وهو أن تتفق المعارضة على مرشح توافقي واحد يتقدم إلى الرئاسية في وجه سعيّد، وبفوزه يفترض أن تصبح الطريق سالكة لإرساء حوار وطني واسع لإعادة سكة الشرعية والديمقراطية إلى مسارها الأصلي، وهذا الحوار وحده هو من يقرر شكل وصيغة مثل هذه العودة إلى الشرعية، ولكن ما الذي يضمن أن هذا المرشح، إذا ما فاز، لا يستعذب الإبقاء على نفس النظام السياسي الذي أرساه سعيّد ويمنح الرئيس صلاحيات فرعونية؟.

وبعيدا عن هذا الجدل، الذي لم يدخل بعد دائرة النقاش السياسي العام في البلاد، هناك احتمال آخر لا يستبعده البعض وهو ألا تجري انتخابات رئاسية بالمرة في تونس العام المقبل.

احتمال وارد نظريا، إذا ما ارتأى سعيّد أن هناك «خطرا داهما» يجعل «المدة الرئاسية تمدّد بقانون إلى حين زوال الأسباب التي أدّت إلى تأجيلها» كما ينص على ذلك دستوره في فصله التسعين، في ضوء ما عرفناه في يوليو /تموز 2021 من فهمه الخاص لمعنى هذا الخطر الداهم، مع عدم استبعاد أن يحدد الرئيس بنفسه شروط الترشح لهذه الانتخابات، وعندها قد لا نجد أحدا تنطبق عليه هذه الشروط سواه فيتقدم إليها منفردا.

فهل تتحمل البلاد أصلا خمس سنوات أخرى لقيس سعيّد؟!

القدس العربي