أحد أصدقائي، ودون أن يسأل رأيي، أضافني إلى مجموعة على تطبيق «واتساب» تتبادل المقالات والمنشورات السياسية والثقافية. تتكون المجموعة من أفراد أعرف منهم واحدا فقط، لكنني افترضت أنهم قريبون من الحقل الإعلامي وعلى قدر من الاهتمام بالشأن العام. أغلبهم يقرؤون ويكتبون بالفرنسية، كما استنتجت من أول وهلة.
ذات يوم من الأسبوع الماضي أرسل أحد أعضاء المجموعة مقتطفات مترجمة منسوبة لمذكرات السيدة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، «خيارات صعبة». معروف أن المذكرات صدرت أول مرة في صيف سنة 2014، ولا أدري هل لإعادة توزيعها عبر «واتساب» (الذي أصبح أسرع من البرق) في هذا الشهر علاقة بكونه شهر الثورات العربية (2011) أم مجرد صدفة.
ليس هذا المهم.. المهم أن النسخة التي وصلتني تحمل كمًّا من الكذب والتشويه والعبث لا يُصدَّق، ولو علمت به السيدة كلينتون لأُصيبت بنوبة جنون!
تضمَّنت المقتطفات فقرات عن تونس في فصل مزعوم عنوانه «في كواليس ليلة 14 يناير» (ليلة هروب بن علي). مما نُسب فيه للسيدة كلينتون:
ـ اتصلتُ بالمتعاونين معنا (دون أن تذكر أسماءهم أو هوياتهم) وطمأنتهم بأنهم غير مستهدَفين بخططنا وأمرتهم بنشر الانطباع بين الرأي العام بأن الأمر يتعلق فعلا بثورة.
ـ قدمتُ مساعدة ودعما شخصيا للجنرال علي السرياطي، مدير الأمن الرئاسي، وقائد أركان الجيش الجنرال رشيد عمار ورئيس البرلمان فؤاد المبزَّع.
ـ خاطبتُ السرياطي بكل الصرامة المطلوبة وقلت له: لا تتدخلوا حتى ننهي مهمتنا.
ـ طلبتُ من السرياطي أن يُبلغ الرئيس بن علي بأننا سنغلق المجال الجوي التونسي أمام الحلفاء الأوروبيين إذا تعنّت في التنحي ورفض مغادرة البلاد.
ـ تابعتُ شخصيا العملية (الإطاحة ببن علي) ونسَّقت الأمر مع وزير الدفاع رضا قريرة.
ـ العقيد معمر القذافي أبلغ بن علي، عبر سفير ليبيا في تونس، بأنه إذا صمم «على إحباط المخطط الأمريكي المتضمّن تسليم الحكم للإسلاميين، فسيجدني معه جاهزا لتدخل عسكري سريع لأنني واثق من أن الإدارة الأمريكية، ومن خلال الفوضى في تونس، تستهدفني».
هذه مقتطفات وليس كل شيء. لا يحتاج المرء لذكاء خارق كي تنتابه الشكوك، فالسياسيون عادة، والأمريكيون خصوصا، مُملُّون في سردهم وتحفظهم وفي التفافهم على الحقائق حتى لو كانت مثل ما ورد آنفا. من الصعب أن يتجرأ أحدهم على سرد الوقائع بتلك الصراحة المرادفة للتهور. قد يرقى ذلك أيضا إلى كشف أسرار دولة بعواقب وخيمة على سمعة أمريكا.
رغم أنني أعمل باستمرار على تحصين نفسي ضد الترجمة السياسية العربية (النص الذي وصلني بالفرنسية لكن يقيني أنه مترجَم بذهنية عربية مغرضة) ورغم أنني فقدت الإيمان بهذا النوع من الترجمة منذ غزتنا الإنترنت وأصبح من هبّ ودبّ يفتي ويبيع أفكارا، إلا أنني أُصبت بالذهول من حجم ما نُسب لامرأة لا تزال على قيد الحياة في وقائع خطيرة عمرها عقد من الزمن وليس مئات السنين وآلاف.
لم أقرأ مذكرات كلينتون الأصلية لكنني قرأت عنها أكثر مما يجب في الصحف الأمريكية والبريطانية. لم يعلق في ذاكرتي كلام من هذا القبيل. استبد بي الفضول فقضيت ساعات طويلة من الليل أبحث حتى تورَّمت عيناي. لم أجد شيئا مما بين يديّ. أبقيت الباب مواربا لاحتمال ولو ضعيف أنني قد أكون مخطئا، فاستعنت بصديقين ممن أثق في ذكائهما وقدرتهما على فهم الأشياء، وممن لا مشكلة لديهم في الحصول على المذكرات في زمن قياسي. يعيش كلٌّ منهما في بلد غربي مختلف، ولم يعرف أحدهما بأنني استعنت بالآخر. بعد أيام معدودة جاءاني بالخبر اليقين في لغة متشابهة وكأنهما اتفقا على فحواها: خُرْطي (بالجزائري) ومعناه هراء.
اتضح أن المذكرات تعرَّضت للذبح بعد فترة وجيزة من صدورها، أي في ذروة الردَّة على الثورات العربية. الأنكى أن الترجمة وردت بلغة بفرنسية سليمة بل راقية، ما يعني أن وراءها جهدا محترفا.
خاطبت مدير المجموعة على الخاص معبّرا عن استغرابي (ليس من مضمون النص الذي يوجد على الإنترنت العربي أسوأ منه، لكن من ترويجه على مستوانا): إذا كنا نحن نتداول بسهولة مثل هذا الهراء، فماذا تركنا للغوغاء؟
والآن.. غالبا أن وراء هذه الجريمة النكراء قوة منظّمة تعمل على أكثر من جبهة. أرجّح أن غايتها تشويه الثورات العربية والإساءة لها ولأصحابها. غايتها الأخرى الترويج إلى أن المسألة كلها مؤامرة أمريكية لتسليم المنطقة للإسلاميين، الإخوان المسلمين على وجه التحديد.
أكاد أجزم أن هذه الجريمة هي الوجه الآخر، المعنوي، للجريمة العسكرية والسياسية التي ارتُكبت في المنطقة واتُفق على تسميتها بالثورة المضادة.
لكن على افتراض أن هذه المزاعم فيها نصيب من الصحة، هل يتطلب الأمر كل هذا الكذب الفجٍّ على التاريخ وتزوير الوقائع بهذه الجرأة؟ قد يكون مسموحا للمرء التلاعب بالآراء، لكن أن يصل الأمر إلى الوقائع، فذلك دليل على أننا فعلا في قاع سحيق.
أُرثي حال من ارتكب هذه الجريمة، فهو على قدر عجيب من السطحية لأنه اعتقد أن جريمته ستنطلي على الناس في زمن المعلومة العابرة للحدود بسرعة الضوء. لا أتحسَّر على كلينتون، فهي ليست أول الضحايا ولن تكون الأخيرة. أبكي على الأجيال المقبلة وكيف ستنشأ وسط هذه الذهنية المسمومة وتُلقَّن فنونا في الكذب والتزوير، فالمهم هنا، الخطر، في تبعات هذا التزوير وتكريسه لثقافة الكذب والعبث بالتاريخ.
السؤال المخيف: ماذا يمكن أن يفعل بتاريخ عمره مئات وآلاف السنين مَن يمتلك كل هذه الجرأة على الكذب على سياسيين أمريكيين وتونسيين لا يزالون على قيد الحياة وفي كامل قواهم البدنية والذهنية؟ سؤال استطرادي: هل بعد مثل هذا الكذب ننتظر من أبنائنا تصديق وقائع عمرها ألف سنة وأكثر؟
القدس العربي
Be the first to write a comment.