تكرّرت، بعد قيام محكمة في نيويورك مؤخرا بإدانة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بتهم جنائية – تهديدات أنصار له بإشعال صراع أمريكي داخلي، فقال أحدهم: «الحرب الأهلية قد بدأت». تبعت ذلك تصريحات من ترامب نفسه حذّر فيها من أن «الناس ستعترض» إذا صدرت عقوبة سجن بحقه، وبأنه «في مرحلة ما، هناك نقطة انهيار» بل إن ترامب اعتبر، خلال تجمّع لأنصاره، أن «التهديد المقبل من قوى خارجية أقل شرّا وخطورة من التهديد المقبل من الداخل» وكان قبلها قد حذف مقطع فيديو نشره على منصته للتواصل الاجتماعي «تروث» أشار فيها إلى «إنشاء رايخ موحد» بعد فوزه من جديد بالرئاسة، وهي إشارة مقصودة لأتباعه من اليمين المتطرّف بأن حكمه سيتمثل «الرايخ» الذي وعد أدولف هتلر أتباعه بالاستمرار ألف عام!

أكد أربعون في المئة من المشاركين في استطلاع جرى في أمريكا عام 2022 اعتقادهم أن حربا أهلية ستندلع في أمريكا خلال العقد المقبل، ورأت مقالة نشرها موقع «فولتشر» الأمريكي أن هناك علاقة لهذا الميل بالعدد الكبير من الأفلام الأمريكية التي تعرضت فيها مؤسسات الولايات المتحدة للهجوم. يستنتج الكاتب أن «الأمريكيين يحبون رؤية مؤسساتهم تدمّر على الشاشة» ويتذكر حضوره عرضا لفيلم «يوم الاستقلال» (1996) هلّل فيه الجمهور حين قام غرباء من خارج الأرض بتدمير «البيت الأبيض». صار الجمهور الأمريكي، منذ ذلك الحين، كما يقول الكاتب، معتادا على الابتهاج على خراب المؤسسات الأمريكية كلما ظهرت في أفلام الكوارث.

يختلف فيلم المخرج أليكس غارلاند، «حرب أهلية» الذي بدأ عرضه مؤخرا، في جانب جوهريّ عن سلسلة أعمال سينمائية يمكن إدراجها في أفلام الكوارث تلك، بأنه مصنوع بطريقة «المعادل الموضوعي» للواقع الذي صار، بعد صعود ظاهرة ترامب وكل ما يتعلق بها، شيئا يجعل الحرب الأهلية أمرا يجري العمل عليه فعلا، بحيث يتحوّل الخيال التخريبي المبهج الناتج عن ثقة مفرطة في النفس (في أفلام الكوارث) إلى تطوير للحدث الفعلي الجاري أمام المشاهدين.

قصف المدن الأمريكية المتمردة

أحد الأدلة على ذلك هو توقف ذلك النمط من الأفلام بعد هجوم «القاعدة» على نيويورك. لقد تحققت الفانتازيا في تلك الهجمات بشكل صدّع الثقة الأمريكية بالنفس، وجعل تمثيلها على الشاشة أمرا غير مرغوب (إلى أن تحققت فانتازيات الانتقام باحتلال العراق وأفغانستان) وقد انعكس ذلك أيضا على عدم رواج بعض ألعاب الفيديو التي لا يفوز فيها الأمريكيون (وهو مجال استيهامات وتنميطات عنصرية هائل يحتاج دراسة خاصة)! يتعارض «حرب أهلية» إذن مع لا واقعية الفانتازيا التخيلية، التي تميّز الأعمال السابقة، والتي تعبّر عن استجداء الغرابة واستحضار إمكانيات الإبداع الذهني الغرائبية، والتي يمكن التدليل على أمثلتها من أفلام يقاتل فيها رعاة بقر ضد كائنات فضائية، أو يقاتل فيها مصاصو الدماء ضد الفضائيين، وأفلام الخيال العلمي الهجين التي تجمع التنقل بين ماضي مطاردة الساحرات، والمستقبل، التي تميّز الكثير من أعمال هوليوود وتعطيها فرادتها وإمكانيات رواجها.

لا تجري أحداث «حرب أهلية» في الماضي (أو المستقبل) بل في الحاضر. يبدأ الفيلم بعد رفض رئيس (يؤدي دوره نيك أوفرمان) التخلي عن السلطة ويستولي على السلطة، ويحل وكالة الشرطة الاتحادية (أف بي آي) وبعد انسحاب ولايتي كاليفورنيا وتكساس (ولايات الجبهة الغربية) وانضمام فلوريدا لهما، واندلاع القتال يبدأ الرئيس يقصف المدن الأمريكية العاصية وسكانها المدنيين. تقوم حبكة الفيلم على قرار صحافيين (كيرستن دنست بدور «لي» وفاغنر ماورا بدور «جويل») الذهاب من نيويورك إلى العاصمة واشنطن لإجراء حديث خاص مع الرئيس، وينضم إليهما المراسل العجوز «سامي» (ستيفن مكينلي هندرسون) ومصورة صحافية شابة تشكل «لي» إلهاما لها (غيلي سبايني بدور «جيسي»).

هل ستلتقطين صورتي حين أقتل؟

أحد الأهداف الجانبية للفيلم هو امتحان فكرة الصحافة نفسها ومنظور الاستقلال النسبي للصحافيين عن الأحداث الجارية. يعظ الصحافيان المخضرمان زميلتهما الشابة بعدم مساءلة ما يرونه: «نحن نلتقط صورا ونترك الناس يسألون أسئلتهم الخاصة». مهمة الصحافي المصور هي أن يجمع الصورة. «هل ستلتقطين صورتي حين يُطلق عليّ أحد النار؟» تسأل الشابة ملهمتها عظيمة الخبرة في حقل التصوير الصحافي، فترد بما يفيد أنها ستفعل ذلك دون شك. يجسّد أداء دنست القويّ التداعي الذي تلقاه محاولة الصحافيّ فصل نفسه عن الحدث، ثم المفاجأة التي تحصل لدى الصحافي المتخصص بحروب الآخرين، حين يجد أن الحال آلت ببلاده وسكانها إلى الصيرورة الجهنمية نفسها. لقد تحوّلوا هم أيضا إلى «آخرين». كأن المصورين الصحافيين، ضمن السياق الآنف لفكرتهم عن مهنتهم، هم أمريكا، والأمريكيون، الذين لم تكن تعنيهم حروب الآخرين.

نتابع، بالفعل، في أحداث تفكك أمريكا، وقائع الحروب الأهلية التي خبرناها في المنطقة العربية. تتناسل ميليشيات «أهلية» وجماعات صغيرة لتتقاتل على مواقع صغيرة وأهداف أصغر. يسود من يملك السلاح، ويفرض شروطه وعنفه الموجّه بهمجية ضد «الآخرين» وتعمّ الفوضى بشكل «أمريكي» كبير الحجم وصناعي. يلتقي الصحافيون الأربعة باثنين آخرين صينيين، ونلتقي بأحدهما مع الصبية وقد أوقفهم ثلاثة مسلحين يستعدون لقتلهما. يتدخّل الباقون لمحاولة منع الإعدام، وبعد مقتل الأول، يبدأ المسلح بسؤال كل واحد منهم من أين جاء ليعرف إن كان «أمريكيا حقيقيا» بعد مقتل الصينيين، ورؤية أكوام هائلة من جثث البشر المقتولين يتمكن الصحافيون الأربعة من الهرب، لكن العجوز يصاب بطلقة، وفي وقت لاحق ستقتل الصحافية الكبيرة داخل «البيت الأبيض» بطلقات أحد المسؤولين، أو عناصر الحراسة، وتقوم الشابة بتصوير عملية القتل.

من الواضح أن المخرج استقى كثيرا أو بعضا من مشاهده وأفكاره من وقائع الحروب الأهلية في العالم، بشكل بدا لي الفيلم تطويرا أمريكيا لما جرى في سوريا بعد 2011 (أكثر من بلدان عربية أخرى) كما بدا خطاب الرئيس الأمريكي الذي بدأ الفيلم عن الانتصارات التي يحققها جيشه، واستخدام الرطانة السياسية عن الوطن والوطنية لتبرير تمسكه بالسلطة، أقرب ما يكون لنسخة أمريكية من رئيس النظام السوري بشار الأسد.

ينتهي الفيلم، الذي يبدو قراءة غير واضحة لمآلات ظاهرة كالترامبية، ونزعات القومية المتطرّفة، والاتجاه الأمريكي المتزايد للتسلح واحتقار القوانين، والبشر، والآخرين، بدخول القوات المتمردة إلى مقر الرئاسة. يحاول الصحافي أن يحصل على كلمة أخيرة للتاريخ فيطلب الرئيس منه أن يمنع الجنود من قتله. الرد كان: سيقتلونك. وهو ما حصل فعلا.

القدس العربي