يُصاب بالمفاجأة الناظر إلى ما حدث في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، في قطاع غزة، من “اجتياح” نحو الأراضي المحتلة عام 1948، ومهاجمة المستوطنات، وما حدث من عملية “إثخانٍ” من كتائب عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة حماس الفلسطينية، في القتلى والإصابات الإسرائيلية، بالمئات، وما تلا أو رافق ذلك من أخذ عشرات من الأسرى أو المحتجزين الإسرائيليين.
في حالة الحرب وساعة المواجهة، لا يتبادل أجنحة طرفٍ ما اللوم، ويتظاهرون بالوحدة، وهذا ينطبق على المعارضة الإسرائيلية، بقيادة يائير لبيد وبني غانتس، لكن ما إن تذهب ساعات المواجهة الأوليّة يبدأ تبادل اللوم وكشف الحقائق. وعملياً، يمكن فهم ما حصل، عبر تسلسل يوضح الفشل الإسرائيلي، أمنيّاً وسياسياً، ويوضح كيف جرّت حكومة المتطرفين الصهاينة المتدينين كيانهم إلى سلسلة أخطاء، وكيف أن “خيالات” هذه الحكومة كشفت الواقع الذي انجرّت له إسرائيل، وأنّ أطرافا إسرائيلية حذرت من خطورة هذه الحكومة. ويمكن وصف تسلسل الأحداث نحو ما حصل في منطقة عسقلان، شمال غزة، بعدة محطات.
الأولى، هرب الأسرى الستة من سجن جلبوع، في سبتمبر/ أيلول 2021، وحينها كانت المفاجأة، كيف استطاع الأسرى هزيمة تكنولوجيا وكاميرات ومخطّطات السجن الموصوفة بأنّها الأعقد، واتضح أنّ الأسرى استطاعوا الوصول، أو تفكيك، مخططات البناء، ورسم خطة الهرب الذي كان ضربةً لمقولة الجيش الذي لا يُقهر، وضربة للتكنولوجيا الإسرائيلية.
بنيت المحطة الثانية على هرب الأسرى، فقد بدأ تشكيل كتيبة جنين، لإسناد الأسرى في أثناء هربهم، ولكن إعادة أسرهم أدّت إلى أن تتجه الكتيبة إلى أن تكون نوعا من المقاومة، لتتسع الظاهرة، لتكوين كتائب ومجموعات، بدأت لاحقا تشغل الجيش الإسرائيلي، وتحظى بتركيز الأمن الإسرائيلي، على حساب قطاع غزّة.
المحطة الثالثة، تبنّي الحكومات الإسرائيلية خطّة تقوم على تقسيم الضفة الغربية وقطاع غزّة، ومساعدة السلطتين لتبقيا كلٌّ في مكانها؛ سلطة حركة حماس في غزّة وسلطة حركة فتح في الضفة، شرط بقاء السلطتين ضعيفتين. سمحت إسرائيل بدخول أموال من الخارج إلى غزّة، وخففت الحصار، وسمحت لآلاف العمّال بالدخول من القطاع للعمل في المشاريع الإسرائيلية، وشجعت ونسّقت مع “حماس” عبر وسطاء، على أن تعمل شركاتٌ في القطاع لصالح مصانع إسرائيلية. ركنت إسرائيل إلى أنّ هذه “الترتيبات” كافية لإقناع حركة حماس بالهدوء. ما لم تنتبه إليه إسرائيل أنّ معاناة المدنيين في غزّة لا تشمل الجناح المسلّح. لقد هدّد قائد “حماس” في قطاع غزّة، يحيى السنوار، في نهاية مايو/ أيار 2021، “سنحرق الأخضر واليابس” إذا لم تحل مشكلة القطاع. وكشف، حينها، أنّ مصادر كتائب عزّ الدين القسّام المالية، والخبرات، والاستخبارات، منفصلة عن باقي مكوّنات “حماس” في غزّة، وتعتمد على جهاتٍ منها إيران وحزب الله. لكن إسرائيل راهنت على أنّ الأولوية في غزّة هي لاستمرار سلطة “حماس”، ولو مع حالة الضعف، ولم تأخذ تهديد حرق الأخضر واليابس بجدّية، ولم تحسب تبعات وجود الموارد لدى كتائب عز الدين القسّام والأجنحة المسلحة منفصلة عن باقي “مالية غزّة”. أسهم هذا في الاسترخاء لدى الجيش الإسرائيلي، والتركيز على المجموعات المسلحة في الضفة الغربية، بل كان من استهدفتهم إسرائيل في غزّة من قيادات حركتي الجهاد الإسلامي وحماس من المعتقد بدورهم في تحريك الضفة الغربية، ومثال ذلك، الاغتيالات التي ارتكبتها إسرائيل في مايو/ أيار الماضي، وتهديدها المستمر باستهداف القيادي في حركة حماس المقيم في الخارج، صالح العاروري، باعتباره مسؤول العمل المسلح في الضفة الغربية.
المحطّة الرابعة للوصول إلى السابع من أكتوبر، الانتخابات الإسرائيلية، نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، التي نتجت عنها حكومة أعادت هيكلة الأمن والدّفاع في إسرائيل، على نحو بالغ الغرابة، فمثلاً، وزارة الدفاع الإسرائيلية فيها وزيران، أحدهما من حزب الليكود، يوآف غالانت، وللثاني صلاحياتٌ معينة داخل الوزارة، هو بتسلئيل سموتريتش، الذي جاء من تيار الصهيونية الدينية، وهو بدون خبرة أمنية. وجرى تعيين إيتمار بن غفير وزيراً للأمن القومي، مع صلاحيات إنشاء قوات جديدة منفصلة عن الجيش، وليس أن لبن غفير خبرة أمنية أو عسكرية، وحسب، بل جرى رفض تجنيده في الجيش سابقاً بسبب طبيعة سلوكه ومواقفه، فلديه نوع من الثأر مع قيادات الجيش. لقد حذّر مسؤولو المعارضة الإسرائيلية، وفي مقدمتهم وزير الجيش السابق، بيني غانتس، من خطورة ما يحدُث، فكتب في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، على حسابه في “تويتر”، إن “الأمن القومي – أو تفكيك الأمن إلى أجزاء من القوى وتأسيس جيش خاص لبن غفير؟”. وقال إنّ ما يجري هو تفكيك سلطات الحكومة إلى “شظايا وزارات”، وأنّ ما يجري “وصمة عار ستؤدّي إلى خطر أمني”. وقال رئيس الأركان السابق، غاي آيزنكوت، إن تكليف بن غفير بحقيبة الأمن القومي “نكتة حزينة”. وبالفعل، بدأت الخلافات داخل الجيش، وبين الوزراء المكلّفين بالأمن، فقد أصبحت للأمن الإسرائيلي رؤوس متعدّدة متعارضة.
المحطة الخامسة، موضوع التعديلات القانونية التي أرادت حكومة نتنياهو تطبيقها، بحيث تقلّص من صلاحيات القضاء في مراقبة الحكومة، وفي محاسبة السياسيين، وزيادة سلطة الوزراء في تقرير تطوير الاستيطان وحكم الضفة الغربية والمستوطنات، وهو ما قاد إلى احتجاجات غير مسبوقة في إسرائيل، تضمّنت دخول ضبّاط الجيش للاحتجاجات وامتناع كثيرين منهم عن الخدمة، بل إنّ وزير الدفاع، يوآف غالانت، أقيل من منصبه، في مارس/ آذار الفائت، بسبب موقفه من الاحتجاجات، قبل إعادته إلى موقعه بعد نحو أسبوعين من الإقالة، وسط حالة تخبّط في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
المحطة السادسة، جرت في 3 يونيو/ حزيران الماضي، ما قد تعدّ بمثابة بروفة مصغرة للسابع من أكتوبر. يومها دخل شرطي مصري الأراضي الفلسطينية، وقتل ثلاثة جنود إسرائيليين، وقضى ساعاتٍ من دون أن ينتبه الجيش الإسرائيلي لمقتل جنوده أو وجود مهاجم، في مؤشّر فاضح فادح على ترهّل في هذا الجيش.
بهذا المعنى، كان الإسرائيليون يظنون، قبل السابع من أكتوبر، أنّهم حيّدوا غزّة، وقللت حكومتهم من احتمالات ردّ الفعل الفلسطيني على اقتحامات الأقصى والاستيطان. في الوقت نفسه، كانت عملية قيادة الأمن الإسرائيلي وإدارته تمرّ بأزمة. وقد جرى نشر جنود كثيرين في الضفة الغربية، على حساب منطقة الجنوب. وبينما تعمل قيادة الجناح العسكري في حركة حماس بصمت، وتجري مناوراتٍ ظنّها الجميع أقرب إلى الخيال، إذ إنّ تدرذيبات كتائب عز الدين القسام كانت تتضمن عمليات اقتحام للمستوطنات، لكن الجميع عدّها استعراضا لا غير. وبينما هذا يجري، كانت معنويات الجيش الإسرائيلي تتراجع، بسبب الانقسام السياسي، واستنزاف قواته في حماية “عصابات” المستوطنين وعنفهم في الضفة الغربية، هذا عدا عن عدم التوافق بين قيادات الأمن.
العربي الجديد
Be the first to write a comment.