في جلسة حوار حول الثورة السورية في بداياتها، طرح علي دبلوماسي أوروبي سلسلة من الأسئلة ذات العلاقة بالوضع السوري، واحتمالاته القريبة والبعيدة؛ إذا ما استمرت الثورة بالوتيرة التي كانت عليها في ذلك الحين؛ وذلك بالتوازي مع القوة المتوحشة التي كانت السلطة الأسدية تستخدمها بالتنسيق مع حلفائها ورعاتها لوأدها، وانعكاسات كل ذلك على الأوضاع الإقليمية، وحتى الدولية. وقد حاولت من جهتي أن أقدم إجابات مقبولة حول الأسئلة المطروحة ضمن حدود الممكن المتاح.

وقبل نهاية اللقاء، قلت له: سألتني عددا كبيراً من الأسئلة، هل تسمح لي أن أطرح عليك سؤالاّ واحداً لا غير. أجابني على الفور: بكل ود.

وكان سؤالي هو التالي: أنتم تسافرون إلى إسرائيل من حين إلى آخر. فابتسم، وأضاف: كنت هناك قبل أسبوعين.

حسناً؛ ماذا يقولون عن مستقبل سلطة آل الأسد؟

وكان جوابه المتوقع هو التالي: يقولون إنه لا يمكن أن يكون بالنسبة إلينا أفضل من هذه السلطة في سوريا.

لم يفاجئني بما ذهب إليه بطبيعة الحال. وإنما رفع درجة يقين ما كنت متيقناً منه بخصوص الموضوع سابقاً.

وضمن إطار هذا التوجه الإسرائيلي، كان اعتماد سياسة غض النظر تجاه دخول الأذرع الإيرانية إلى سوريا؛ خاصة «حزب الله». بل تم تجاهل دخول القوات الإيرانية نفسها تحت مسميات متباينة.
وجميعنا يتذكر في هذا السياق الحجج الممجوجة التي تذرّع بها «حزب الله» في ذلك الحين لتسويغ دخول قواته إلى سوريا بغية مساعدة السلطة في قتل وتهجير السوريين باسم «محور المقاومة/المحور الإيراني». ومن بين الحجج المُشار إليها ادعاء «حماية المراقد» في سوريا، وهي المراقد التي ظل السوريون يحافظون عليها، ويحترمونها منذ نحو 1500 عام، ويعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من تاريخهم المجتمعي/ الديني.

ومع الوقت، ارتفعت نبرة «حزب الله» وحِدّة غطرسته، ليعلن، ومن دون أي وجه للحق، بأنه يؤدي في سوريا «واجبه الشرعي» الذي يمنحه حق أن يكون «حيث يجب أن يكون» وأنه مجرد جندي ضمن جيش نظام ولي الفقيه الإيراني.

وكان اللافت في لوحة التوافقات الإقليمية والدولية حول سوريا، هو وجود تفاهم أمني أمريكي روسي إسرائيلي، تمخض عن اجتماعات أمنية على مستوى رفيع جداً بين الأطراف الثلاثة. ولم يكن من الواضح تماماً موقع إيران ضمن التفاهمات التي كانت بين الدول المذكورة؛ ولعل هذا ما يفسر طبيعة الكثير من التحليلات والتصريحات السورية الرسمية، والإقليمية، ومن بينها تصريحات لأشخاص لبنانيين كانوا مقربين من «حزب الله» سابقاً، بل ربما كانوا من العاملين فيه، وتسلّموا مهام قيادية متقدمة فيه؛ جوهر تلك التصريحات تجسّد في الإشارة إلى وجود توافق على قواعد الاشتباك بين إسرائيل وإيران بأذرعها المختلفة، وهي القواعد التي تمحورت حول أماكن التواجد وحدودها، وطبيعة الرد.

ومن بين التوافقات التي كانت، الإقرار بحق المحور الإيراني في رفع الشعارات، وتسويق الادعاءات بغية «شد العصب» والتمويه والتضليل على مختلف المستويات. ويبدو أن مختلف الأطراف المنخرطة في الملف السوري، كانت راضية بهذه الدرجة أو تلك بما كانت قد حصّلته لنفسها، وذلك في إطار التفاهمات المباشرة أو غير مباشرة مع الأطراف الأخرى.

ولكن مع الوقت، تبيّن أن طموحات النظام الإيراني هي أكبر من حجمه، وتتجاوز ما يمكن أن تسمح به الأطراف الدولية والإقليمية على المستوى السوري والإقليمي. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل. فإيران وجدت أن الفرصة ربما كانت مُتاحة أمامها لتنفيذ مشروعها الإمبراطوري القديم الجديد، المتمفصل حول قاعدة مذهبية، تمكّنها من التغلغل في مجتمعات ودول المنطقة بغية خلخلتها وهندستها وفق حسابات النظام الإيراني الحالي. ولا يشمل ذلك الدول التي هيمن عليها حتى الآن النظام المعني فحسب؛ بل يشمل أيضاً دولاً أخرى، وفي مقدمتها الدول الخليجية على وجه التحديد، وربما السودان، أو اجزاء منه على الأقل.

وجاءت عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها حماس بالتعاون مع بعض الفصائل؛ ومن ثم كانت الحرب الضارية العدوانية التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة على غزة؛ فحاول نتنياهو بأسلوبه البراغماتي الانتهازي المعهود الخلط بين الحسابات الخاصة والانتخابات المحلية. هذا إلى جانب التوجهات الاستراتيجية الكبرى التي تلقي الضوء على مساعي إسرائيل الرامية للتحوّل إلى قوة عظمى في الإقليم؛ وذلك من خلال استغلال جملة التراكمات السلبية التي كانت حصيلة عقود طويلة في ميدان الاستبداد والفساد عانت منها دول المنطقة ومجتمعاتها، خاصة تلك التي سيطرت عليها السلطات العسكرية التي اتخذت من شعار تحرير فلسطين وسيلة لإسباغ قسط، ولو محدود، من الشرعية على سلطاتها.

ويبدو أن إسرائيل قررت تجاوز المعادلات السابقة بينها وبين كل من إيران و«حزب الله» وقواعد الاشتباك التي كانت تضبط الأحداث في المنطقة منذ نحو 40 عاماً. لذلك كان اصرارها على منع إيران من تنفيذ برنامجها النووي؛ هذا مع العلم أن الولايات المتحدة تعتبر هذا الأمر جزءاً من صلاحياتها وميدان عملها؛ وذلك لاعتبارات استراتيجية أولاً، وبناء على حسابات عملية لا تستطيع إسرائيل بمفردها التصدي لها. ولتوريط إيران في صراع تحرص الأخيرة على عدم الانجرار إليه، اختارت إسرائيل طريقة ضرب الذراع الأكثر قوة وتأثيراً في المحور الإيراني؛ لتتجاوز بذلك أسلوب مراعاة قواعد الاشتباك الذي كان متبعاً، رغم كل عمليات القصف التي استهدفت في المقام الأول شحنات الأسلحة الإيرانية إلى سوريا التي كانت تُرسل إلى «حزب الله» في لبنان.

ولم يقتصر هذا التجاوز على «حزب الله» وحده، بل شمل الإيرانيين؛ فكانت العمليات النوعية في ميدان اغتيال القادة العسكريين البارزين ضمن المحور الإيراني. فكانت الاغتيالات في قلب دمشق، من أهمها ذاك الذي كان داخل مبنى قنصلي إيراني. كما طالت تلك الاغتيالات قيادات «حماس» و «حزب الله» في الضاحية الجنوبية لبيروت؛ ومن ثم كان اغتيال اسماعيل هنية في قلب طهران، وذلك أثناء مشاركته في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان.

بعد ذلك، كانت الضربة القاصمة التي تعرض لها «حزب الله» عبر تدمير الآلاف من أجهزة اتصالاته (البيجر) وقتل وإصابة مستخدميها، لتبدأ بعد ذلك الحرب الإسرائيلية على لبنان و«حزب الله» تحديداً، التي بدأت بعمليات اغتيال قيادات الصف الأول، وفي مقدمتهم حسن نصر الله نفسه الأمين العام للحزب. وهذا فحواه أن المنطقة باتت أمام مرحلة جديدة من الصراع أساسها التحسّب لأي مفاجأة؛ وذلك في ضوء نتائج عملية «طوفان الأقصى»، والعمل على إبعاد إيران عن التحكّم بالمنطقة. فوجود إيران على مقربة من شواطئ المتوسط الشرقية، وفي لبنان وسوريا المحاذيتين لإسرائيل، لم يعد مقبولاً إسرائيلياً بعد المفاجأة الكارثية بالنسبة إليها في غزة، وهو الوجود الذي كان يستند إلى العلاقة العضوية المتميزة بين «حزب الله» والنظام الإيراني؛ وقرار الأول بأنه مجرد امتداد لنظام ولي الفقيه، يستمد منه الدعم، ويسير بموجب تعليماته وأوامره التي يلتزم بها بصورة حرفية صارمة. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن لبنان في الآونة الأخيرة كان يعيش أسوأ مراحله وأقساها، خاصة بالنسبة إلى الشرائح المسحوقة التي تشكّل اليوم غالبية اللبنانيين.

هل ستكون الأزمة الحالية فرصة أمام اللبنانيين جميعاً من دون أي استثناء، بمن فيهم الشيعة أنفسهم، للخروج من النفق المظلم الذي ساقهم إليه «حزب الله»؟ هذا سؤال ستتبلور ملامح الإجابة عنه في مستقبل الأيام.

وما يُذكر في هذا المجال، هو أن الوضع اللبناني في جميع الأحوال، وعلى علاّته الكثيرة، أفضل من الوضع الفلسطيني. فلبنان في نهاية المطاف دولة معترف بها رسميا في سائر المحافل الدولية، وعلى الأخص الأمم المتحدة؛ وهناك امكانية للتوافق بين مختلف الأطراف المختلفة على جملة مرتكزات وطنية تكون مستقبلاً أساساً لمشروع وطني جامع، لن يتمكن لبنان من الوصول إلى أي خلاص من دونه.

وفي هذا السياق يمكن للجيش، والجامعة اللبنانية، والمؤسسات التعليمية الثقافية اللبنانية، ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الروحية الوطنية، غير المرتبطة بمشاريع ما بعد الحدود، المساهمة إلى جانب عوامل أخرى، بقوة لمصلحة لبنان واللبنانيين جميعاً. ورغم وجود مثالب في المؤسسات المذكورة، فإنها قابلة للإصلاح إذا ما وُجدت النوايا الطيبة، وتوفر وعي وطني مسؤول يدرك أهمية الإقرار بخصوصيات جميع المكونات، وضمان حقوقها على مستوى الجماعات والأفراد، وإبعاد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية المؤذية على المستويين الشعبي والرسمي.

وبطبيعة الحال لن تستقيم أوضاع البلد وأهله من دون إعادة تأهيل المؤسسات المعنية، واختيار الأنسب الأصلح لقيادتها، بعيداً عن حيتان الفساد. ولعله من البدهيات هنا تأكيد ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية الجامع الوطني، المستعد لحماية لبنان واللبنانيين، بعيداً عن حساباته الخاصة أو مصالح طائفته أو حزبه؛ ليكون بالفعل رئيساً لجميع اللبنانيين. وأولوية انتخاب الرئيس تأتي من كونها المدخل لإعادة النظر في أوضاع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بهدف استعادة حيوية البلد وامكانياته، ووضعه على سكة الخلاص، وذلك بعد عقود من التبعية القسرية التي فرضتها عليه مشاريع عابرة للحدود، لم تجلب له سوى الويلات. وكل ذلك لن يكون من دون القطع مع سلبيات المرحلة الحالية على المستويين الداخلي والخارجي.

القدس العربي