قد يلوح، للوهلة الأولى فقط، أنّ حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة، وامتداد جرائم الحرب إلى سائر فلسطين التاريخية؛ ليست ذات صلة بانتخابات البرلمان الأوروبي، التي شهدتها القارّة العجوز بين 6 و9 من حزيران (يونيو) الجاري. غير أنّ ردّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الفوز الساحق الذي حققه حزب مارين لوبين المتطرف، وبلغ نحو 31٪ من الأصوات، توجّب أن يقترن بما يجري في قطاع غزّة؛ من زاوية أولى هي اتهام اليسار الفرنسي بالعداء للسامية وكراهية الحياة البرلمانية، ومن زاوية ثانية هي استغلال اليمين المتطرف مشاعر السخط الشعبي بصدد الأوضاع الاقتصادية ومسائل الهجرة.

في مواقع أخرى من أوروبا مثل المجر وإيطاليا والنمسا وهولندا، أو في هوامش سابقة الانتماء إلى «الكتلة الاشتراكية» المندثرة مثل رومانيا؛ لم يخلُ صعود اليمين المتطرف من بند هنا وهناك يقود إلى قطاع غزّة، بحيث لاح مراراً أنّ التضامن مع جرائم الحرب الإسرائيلية واجهةٌ لا حياء في باطنها لمحتوى شعبوي وعنصري وانعزالي لا يرفض الآخر المهاجر واللاجئ فقط، بل يجعل منه ذريعة يتوجب أن تطمس إخفاق الديمقراطيات الغربية على أصعدة اقتصادية واجتماعية ودستورية وحزبية، غير منفصلة أيضاً عن المآزق الإيديولوجية والدينية.

بهذا المعنى فإنّ نجاح الفرنسية من أصل فلسطيني ريما حسن في الوصول إلى البرلمان الأوروبي، على لائحة حزب «فرنسا الأبية» اليساري، يمكن أن يتحوّل إلى فعل عداء للسامية أياً كانت عناصر القسر الغاشمة خلف هذا «الاستقلاب» العجيب. أو أن يوحي ماكرون بأنّ الإلحاح المبكر لشرائح واسعة من اليسار الفرنسي على وقف إطلاق النار في غزّة، هو سلوك عداء للسامية، قياساً على مواقف قصر الإليزيه وغالبية الديمقراطيات الغربية في رفض أي وقف لإطلاق النار طيلة الأشهر الأولى من استشراس دولة الاحتلال في ارتكاب المجازر وجرائم الحرب. ويحدث، أيضاً، ألا ينبس ماكرون (أو جو بايدن، ريشي سوناك، أولاف شولتز، أورسولا فون دير لاين…) بعبارة نقد ذاتي واحدة لأنهم اضطروا في نهاية المطاف إلى اعتماد المطلب ذاته، ربما لإنقاذ دولة الاحتلال من ذاتها.

في المقابل، كان تحوّل نسبة غير ضئيلة من الشرائح الشبابية نحو أحزاب اليمين المتطرف بمثابة صفعة مزدوجة لأحزاب اليمين التقليدي (الديغولي أو الديمقراطي ـ المسيحي أو الليبرالي عموماً) ولبعض أحزاب اليسار (الشيوعية أو الخضر، مثلاً) في آن معاً. ويزيد في وطأة الصفعة أنّ شرائح شبابية أخرى، غير ضئيلة بدورها، حملت راية التضامن مع أهل قطاع غزّة وقضية الشعب الفلسطيني عموماً؛ على نحو اقترن بأنساق شتى من نقد الصهيونية في بُعد أوّل، وإقامة الفارق الشاسع بين إدانة السياسات الإسرائيلية وتهمة العداء للسامية في بُعد ثانٍ.

ولعلّ هذه الدورة من الانتخابات الأوروبية، وهي حمّالة اختلافات سياسية وإيديولوجية نوعية بالمقارنة مع سابقتها التي جرت في أيار (مايو) 2019، سوف تمثّل قفزة أخرى جديدة، أكثر تطرفاً نحو اليمين، في مسار الالتفاف على مشروع الدستور الأوروبي الموحّد؛ واستبداله، أكثر فأكثر، باتفاقية لشبونة. ومن المعروف أنّ بيروقراطيي الإتحاد الأوروبي، وغلاة المدافعين عن أوروبا ليبرالية طليقة معولَمة غير مقيّدة بدستور موحّد معقد، كانوا قد تنفسوا الصعداء حين صوّتت إيرلندا لصالح معاهدة لشبونة، بعد ان كانت قد رفضتها في استفتاء سابق.

والحال أنّ اتفاقية لشبونة تستبدل جميع الاتفاقيات السابقة التي أتاحت ولادة الاتحاد الأوروبي وتطوّر فكرته، خاصة روما 1957 وماستريخت 1992. بيد أنّ الأهمّ، والأخطر في الواقع، هو أنّ الاتفاقية أبطلت مبدأ استفتاء الشعوب الأوروبية حول شؤون شتى مصيرية، اجتماعية واقتصادية وسياسية، تخصّ حاضرها ومستقبلها، وذلك عن طريق إلغاء الدستور الموحّد الذي يخضع للإقرار الشعبي المباشر، وليس المصادقة البسيطة في البرلمانات أو الحكومات. وهكذا فإنّ الاتفاقية احتفظت بكلّ ما انطوى عليه مشروع الدستور الموحّد من تكريس للسياسات النيو ــ ليبرالية المناهضة عموماً لغالبية المكاسب الاجتماعية الأساسية، وشدّدت قبضة المصرف المركزي الأوروبي الموحّد على اقتصادات الاتحاد، ومنحت المؤسسات البيروقراطية المزيد من التفويض والصلاحيات الكفيلة بتقزيم دور البرلمان الأوروبي…

وما دامت هذه السطور بدأت من فرنسا، فلعلّ من المفيد استذكار علاقة الاتحاد الأوروبي بواحد من النقاشات الفرنسية الأكثر سخونة: الحجاب في المؤسسة التعليمية، والبرقع فيما بعد، وصلة الملفّين بصيانة مبدأ العلمانية. ومعظم هؤلاء الذين يتذكرون قد تصيبهم دهشة بالغة إذا علموا أنّ اتفاقية لشبونة، على شاكلة مشروع الدستور الأوروبي الموحد القديم في الواقع، تخلو تماماً (أي بالمعنى الحرفي: تماماً!) من مفردة العلمانية ذاتها. بل يمكن للدهشة أن تنقلب إلى صدمة، إذا اتضح أنّ بديل الدستور يخلو من أية إشارة صريحة إلى أنّ العلمانية، وهي خيار حقوقي وفكري وسلوكي وأخلاقي في نهاية المطاف، مُصانة ضدّ أيّ ضيم؛ سواء من حيث الشكل (حجاباً كان أم قلنسوة أم صليباً) أو المحتوى العميق، الذي يخصّ فصل الدين عن الدولة!
في المقابل، لا تبدو النصوص وكأنها تتحرّج من اعتماد هوية سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية لأوروبا الموحدة، تضمنها بنود تشريعية صارمة تُلزم الأمم القابلة بهذه الاتفاقية على اعتناق الفلسفة النيو ـ ليبرالية، واعتمادها حصراً في تسيير مختلف المؤسسات العامة أو الخاصة. أكثر من هذا، ثمة بنود تهدّد، من دون أيّ لبس، بإنزال العقوبات بالأمم التي تخرق هذا «الإجماع» وتسمح للدولة بالتدخل في شؤون اقتصادية أو خدماتية أو تربوية أو ثقافية؛ الأمر الذي يهدّد بتكبيل المبادرة الفردية، وكسر حرّية التنافس المطلقة في السوق.

ثمة، من جانب آخر، بنود شكّلت ردّة صريحة، وبالغة الخطورة في الواقع، عن مكاسب كبرى وحقوق اجتماعية أساساً، فضلاً عن كونها سياسية ــ اقتصادية أيضاً، أنجزتها الشعوب الأوروبية بدرجات مختلفة وعبر نضالات شرسة كان بعضها دامياً مأساوياً. وفي فرنسا تحديداً سوف تبدو هذه الردّة عنيفة وفاضحة، تمسّ «ثقافة» عريقة تتكامل فيها مختلف أنماط التعاضد الاجتماعي، وقد راكمها الشارع الفرنسي وقواه السياسية وهيئاته النقابية طيلة قرون، وليس على امتداد بضعة عقود. لا عجب، استطراداً، أن تقتات أحزاب اليمين المتطرّف على تلك الردّة، فتحيل الضنك الاجتماعي إلى ورقة اقتراع ساخطة محبَطة.

ذلك لأنّ صعود اليمين المتطرف لم ينهض على استغلال مشاعر الانعزال والرهاب والانغلاق تجاه الآخر اللاجئ أو الغريب عموماً، فحسب؛ لسبب جوهري أوّل مفاده أنّ اتفاقية لشبونة حوّلت جغرافية الاتحاد الأوروبي إلى قلعة حصينة، محكمة الإغلاق في وجه المهاجرين أو الأجانب. وليس صحيحاً أنّ الحقّ في التنقّل بين الدول الأعضاء شمل بصفة آلية جميع الأجانب المقيمين في أوروبا بصفة قانونية، إذْ من جهة أولى اعتمدت الأنظمة سياسة صارمة في منح تأشيرات الدخول، تضع المزيد من العراقيل الإدارية أمام إجراءات منحها؛ كما أقامت، من جهة ثانية، مناطق اعتقال جماعية خارج حدود الاتحاد، وخفّفت في الآن ذاته الرقابة القضائية على إجراءات طرد وترحيل المهاجرين.

وهكذا كان لفزّاعة العداء للسامية صندوق اقتراع غير مباشر في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، مظهره الخارجي أشدّ عرياً من أن يخفي المضامين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحزبية والدستورية، فضلاً عن تحديات حرب أوكرانيا في الخاصرة، وهيمنة واشنطن، وأوجاع الحلف الأطلسي؛ التي تكبّل القارّة العجوز.

القدس العربي