هل أتاكم حديث «مؤامرة تغيير التركيبة الديمغرافية لتونس» التي تحدّث عنها الرئيس قيس سعيّد وقال إنها بدأت منذ 2011 وترمي إلى توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في بلاده بغرض فصلها عن انتمائها العربي والإسلامي!!؟.

وهل أتاكم حديث ما سببه هذا الكلام، الذي وصف بالعنصري، من ردود فعل في كل أنحاء العالم بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، ومن إجراءات تمثلت في إلغاء اجتماعات اقتصادية إفريقية كانت ستعقد في تونس وإعلان البنك الدولي عن تأجيل اجتماع مجلس المحافظين بشأن استراتيجية جديدة مع تونس وتعليق إطار عمل شراكة معها، دون أن ننسى ما أعقب تلك التصريحات من ممارسات مخجلة أقدم عليها بعض التونسيين ضد المهاجرين واللاجئين الأفارقة استدعت إجلاء أعداد منهم في رحلات جوية طارئة.
بعد كل هذا الضرر، الذي يحتاج إلى سنوات لجبره، اضطرت رئاستا الجمهورية والحكومة إلى إخراج بيانات «تعبر فيها عن استغرابها من هذه الحملة المعروفة مصادرها والمتعلقة بالعنصرية المزعومة في تونس، وترفض هذا الاتهام للدولة التونسية» وتلك مفارقة عجيبة حيث يشعل المرء النار، دون أي داع، ثم يتساءل مستغربا عن مصدر الدخان المتصاعد بل ويندد به!!. بعد ذلك، خرج وزير الخارجية التونسي في مؤتمر صحافي محاولا، دون نجاح، إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تلطيخ لسمعة بلاده، لكن الأهم هو ما قاله مدير عام شرطة الحدود والأجانب في تونس، في نفس هذا المؤتمر، من أن عدد المقيمين الشرعيين من مواطني دول إفريقيا جنوب الصحراء بلغ 5376، منهم 93٪ من الطلبة، قائلا كذلك أنه لا توجد إحصائيات دقيقة لعدد المقيمين في تونس بصفة غير شرعية من الأفارقة مبينا أنه تم إحصاء 6000 مقيم غير قانوني من قبل المنظمة الدولية للهجرة في تونس و8000 من قبل المفوضية السامية للاجئين.

ورغم أهمية الإجراءات التي اتخذتها السلطات التونسية لاحقا في ما يخص إقامة الأفارقة وتسوية وضعيات بعضهم، إلا أن هذه السلطات لم تمتلك جرأة الاعتذار على الأقل، حتى بعد أن وقعت الفأس في الرأس، ولكن ما كان صادما ومخجلا حقا هو ما قام به بعض التونسيين ضد المهاجرين واللاجئين الأفارقة الذين اضطر الكثير منهم إلى ملازمة بيوتهم خوفا بعد أن ضُربوا في الشوارع ورفضت بعض وسائل النقل السماح لهم بالركوب ما لم يظهروا بطاقة إقامة صالحة، كما أخرج بعضهم من البيوت التي استأجروها، فكان أن أدى ذلك كله إلى مغادرة الكثيرين من هؤلاء تونس عائدين إلى بلادهم، بعد بيانات من سفارات إفريقية عديدة في العاصمة التونسية تدعوهم إلى الحذر الشديد وملازمة بيوتهم والاستعداد لإجلائهم.

تصرفات معيبة حقا تضاف إلى غيرها من ممارسات أخرى غريبة تكاد من تواترها الشديد أن تتحوّل إلى سمة ثابتة لشخصية التونسيين هذه السنوات، وهي تصرفات وممارسات بدأت تتفاقم تدريجيا منذ ثورتهم عام 2011 وما أتاحته من حرية تعبير لا حدود لها أبانت على ما أسوأ ما لديهم بعد أن كانت أظهرت أنبل وأجمل ما لديهم في البداية.

كان التونسيون من أروع ما يكون خلال أيام الثورة حين أظهروا من الإيثار والتفاني والتضامن مع بعضهم البعض والدفاع عن أحيائهم وتنظيف شوارعهم ما كان محل إعجاب الداخل والخارج، لكن ما يبدو الآن أن هؤلاء التونسيين «تبخروا» وحل محلهم تونسيون «آخرون» لا يرون حرجا في في التماهي مع خطاب الكراهية والبغضاء والتشاحن الذي عرف به قيس سعيّد، ومؤيديه على المنابر الإعلامية، ففضحوا بالمناسبة مدى جاهزيتهم أن يكونوا عرضة للتلاعب بعقولهم بطريقة غير مسبوقة.

من المخجل أن هناك من التونسيين من يصدّق كل ما يقال له من خطاب عنصري بغيض فضلا عن قصص عن الفساد والاحتكار وتبريرحملات الاعتقال الأخيرة وتشويه القضاة والمخالفين وغير ذلك. ومن لم يكن كذلك لاذ بالصمت أوعدم الاكتراث.

ولكن من حسن الحظ وبواعث الفخرأن هناك كذلك تونسيين لم يقبلوا بكل ما سبق وعبّروا عن ذلك علنا بل منهم من خرج إلى الشارع في مظاهرات تنديدا بالعنصرية، تماما كما خرج المنددون بالانقلاب على الدستور والتجربة الديمقراطية بهدف العودة إلى دولة البوليس وعقود الاستبداد والاستهانة بالقوانين وكل الاجراءات في خلطة عبث مفضوحة وكريهة نتمنى ألا تطول أكثر.

القدس العربي