ضمن منشورات “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى” ـ فرع لبنان، IFOP، هنالك كتاب قيّم بعنوان “وقائع الثورة السورية: أماكن وأناس، 2011ـ2015″؛ يرصد على نحو توثيقي أمين وتفاعلي أنساقاً مختلفة من الحراك الشعبي خلال السنوات الأولى من انتفاضة آذار (مارس) 2011، في 50 من مدن وبلدات وقرى وضواحي وأحياء سوريا. الكتاب صدر سنة 2018 في بيروت، ويقع في 392 صفحة، وهذه السطور تعود إليه مراراً، وكلما اقتضت الحال شحذ الذاكرة، أو تصويب واقعة هنا وهناك، أو استرجاع ذكرى سالفة، أو محطة وجدان شخصي… ومؤخراً، بعد تحرير مدينة دير الزور من نير النظام السوري، ونجاح جهود حقن الدماء بين الفصائل المعارضة المسلحة و”قسد”؛ ألحّت على هذا العمود سلسلة إسهامات “ديرية”، كما نقول في سوريا حين ننسب إلى المدينة وأهلها، كانت بمثابة “انفرادات” خاصة على أكثر من مستوى واحد في أنشطة الانتفاضة وأشكال التحرّك الشعبي وأنماط التظاهر والاعتصام والاحتجاج. والفصل الذي خصصه كتاب الـIFOP لمدينة دير الزور يتصدره رسم للفنان أنور عيسى بعنوان “ارفعوا الحصار عن دير الزور”؛ يصوّر يدَين تقبض كلّ منهما على واحد من أعمدة الجسر المعلّق، أيقونة المدينة.

التعريف الوجيز بالمدينة يشير إلى أنها تقع على مبعدة 450 كم من العاصمة دمشق، وهي ذات جسور سبعة تعانق نهر الفرات، ومنطقة الأراضي الخصبة والثروات النفطية. ومرجعيات مفردة “دير” في التسمية تتضمن شيوع عدد كبير من الأديرة التاريخية القديمة، وكذلك سلسلة ألقاب متعاقبة حملتها المدينة على شاكلة “دير الرومان” و”دير البصيرة” و”دير الرحمة”، وصولاً إلى “الزور” التي تمتزج فيها معاني الحصن والأكمة وعقدة النهر وسواها.

ثمّ ينتقل النصّ مباشرة إلى تاريخ 18/3/2011 حين طُرح شعار إسقاط النظام في ملعب كرة القدم، أعقبته مشاركة واسعة في “جمعة الكرامة” تضامناً مع مدينة درعا، فخرجت تظاهرات من مسجد عثمان بن عفان في حيّ المطار القديم، ومسجد الصفا في حيّ العمال كانت تهتف: “بالروح! بالدم! نفديك يا درعا!”، قابلتها أجهزة النظام الأمنية بممارسات قمع فورية.

بيد أنّ الواقعة الأبرز، حمّالة الدلالات الأعلى في يقين هذه السطور، كانت يوم 15/4/ من ذلك العام، حين احتشد الآلاف وربما عشرات الآلاف، في “دوّار المدلجي” الذي لن يطول الوقت حتى يكتسب لقب “ساحة الحرّية”؛ ولسوف يشهد مسيرات ليلية ظلت تجوب الشوارع رغم استخدام النظام الرصاص الحيّ لتفريقها، فسقط عدد من الشهداء خلال التظاهرات، أو لاحقاً تحت التعذيب.

التطورات اللاحقة شهدت تظاهرة حاشدة أواخر تموز (يوليو) تجاوزت أعداد المشاركين فيها الـ 300 ألف، واندلعت اشتباكات مسلحة قُصفت بعدها المدينة وفرض عليها حصار خانق.
وهذه سطور تسترجع اليوم الاعتزاز العالي بما اجترحه الديريون في تلك الأسابيع الأولى من عمر الانتفاضة، ومقادير ما بذلوه من مشقة في الصبر على جرح لاح يومذاك أنه انفتح على توحّش دموي أقسى من أجهزة النظام وجيشه وأزلامه.

لا سبيل إلى نسيان ذلك التفصيل الفريد البهيّ في دوّار المدلجي، حين شرعت طفلة لم تتجاوز العاشرة في الغناء هكذا: “مجروح يا يمّة/ مجروح يا يابا/ ودّوا لحماة من الدير/ موّال عتابا”.

وعلى أكثر من وجهة، حانية ودافئة وغنائية، بقدر ما هي محفوفة بالألم والمعاناة والمأساة، أمكن لامرئ سوري أن يتخيل ذلك التلاقي الافتراضي، ولكن الواقعي المشتهى في الأذهان والمعنويات، بين نهرَيْ الفرات والعاصي. كذلك كان فتية المحافظة، في المدينة ذاتها وفي بلدات المياذين والبوكمال والعشارة وقرى نهرية عديدة، قد أدخلوا جديداً على أنساق التظاهر، يهدف إلى تطوير مهارات الالتفاف على أساليب العنف الوحشية التي اعتمدتها أجهزة النظام الأمنية، من جهة أولى؛ كما نفع في اجتذاب مزيد من شرائح المواطنين الذين ترددوا في المشاركة لأسباب شتى، من جهة ثانية.

ذلك الجديد تمثّل في تنظيم تظاهرة مائية على صفحة نهر الفرات، سباحة أو بقوارب صغيرة، ظلت تردّد الهتافات ذاتها تقريباً؛ ورفعت لافتات مماثلة لتلك التي ترفعها التظاهرات على اليابسة، إذا جاز القول. ولقد طافوا فوق مياه الفرات، وطوّفوا على صفحته الرايات، والتمسوا عبقرية هذا النهر العظيم الخالد، في تلك البرهة الفريدة من تاريخ المدينة والوطن؛ مستذكرين أساساً أنهم حَمَلة اللقب الشهير “أخوة بطّة”، نسبة إلى براعة في السباحة يتلقونها منذ نعومة أظفارهم، تماماً كما يليق بأفراخ البطّ!

صحيح أنّ مناطق عديدة في سوريا شهدت تطبيقاً عملياً لسلسلة الأسباب التي تجعل حقد النظام على منطقة ما، وعلى أهلها استطراداً، يتجلى على نحو أشدّ سعاراً وعصبية وهمجية أيضاً، في تحصيل الحاصل؛ لاعتبارات شتى، سياسية في المقام الأوّل، ولكنها يمكن أن تتخذ صفة انتقامية محضة (حماة، وحمص، وجسر الشغور، واللاذقية، والحفّة، وتلبيسة، والحولة، والصنمين، وإنخل…). الأرجح أنّ الحقد على مناطق مثل دير الزور كان، في المقابل، قد انقلب إلى حال مَرَضية يمتزج في طياتها الخوف من المكان في ذاته، والرغبة في تدمير رموزه. وفي عدادها كانت انفرادات “أخوة بطّة”، في ماضي الأيام، وتلك الموشكة الآتية!

القدس العربي